مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحليم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، يا أرحم الراحمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! كنا نتدارس سابقاً شروط التكليف بتوحيد ذي الجلال والإكرام، وقلت: إن شروط التكليف بتوحيد ربنا الرحمن أربعة شروط:

أولها: العقل.

وثانيها: البلوغ.

وثالثها: بلوغ الدعوة ووصولها إلى المكلفين.

ورابعها: سلامة إحدى حاستي السمع أو البصر، أي أن تسلم واحدة منهما، وقررت أدلة هذه الشروط الأربعة مفصلاً فيما مضى، ثم استعرضنا بعد ذلك مسألة كنا نتدارس الشق الأول منها، ولعلنا نكمل الكلام على الشق الثاني منها بعون الله وتوفيقه في هذه الليلة المباركة إن شاء الله.

وهذه المسألة هي: بعد أن انتهينا من بيان شروط التكليف بتوحيد ربنا اللطيف، قلت: ما حكم من انخرمت فيه بعض شروط التكليف بالتوحيد في الآخرة، ولم توجد فيه بعض شروط التكليف بالتوحيد في هذه الحياة الدنيا الفانية، فما حكمه في الآخرة، هل هو من الناجين أو من الهالكين؟ فلم تبلغه الدعوة أو مات وهو صغير، أو كان مجنوناً، وما شاكل هذا، وما حكمه عند الله جل وعلا؟

إخوتي الكرام! قلت: إن هذه المسألة لها شقان ولها حالتان، فينبغي أن نفصل كل حالة منهما على حدة، ونتكلم على كل شق كلاماً مستقلاً.

الحالة الأولى لهذه المسألة والشق الأول منها: إذا كان من لم توجد فيه شروط التكليف بالتوحيد هو من أولاد المسلمين، يعني: من مات من أولاد المسلمين قبل أن يبلغ، وقبل أن يكتمل عقله، مات وهو صغير في المهد أو في سن التمييز، أو في سن المراهقة، ولم يجرِ عليه القلم، وما جرى منه توحيد لربنا جل وعلا، فما حكمه في الآخرة؟

تقدم لأئمتنا الكرام فيه قولان: قول بينت مرجوحيته وأنه خلاف الأدلة الثابتة، وقال به بعض أئمتنا الكرام كالحمادين وشيخ الإسلام عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، فقالوا: نقف فيهم ونكل أمرهم إلى ربهم جل وعلا، وبينت أن الأدلة لا تدل على هذا القول، لذلك كأنه يوجد إجماع بعد ذلك: على أن أولاد المسلمين إذا ماتوا قبل بلوغهم في جنات النعيم، وهذا القول الذي ذهب إليه جمهور أهل السنة كما بينت، وحكى عدد من أئمتنا الإجماع عليه وبينت رجحانه، قلت: شهد له كلام الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما كلام الله فدل عليه في موضعين، بينتهما في آية الطور وآية المدثر، وأما حديث النبي صلى الله عليه وسلم فدل عليه بدلالتين اثنتين بينتهما، الدلالة الأولى: وهي أن أولاد المسلمين إذا ماتوا وهم صغار يشفعون لآبائهم ويتسببون في دخولهم الجنة، ومن كان سبباً في دخول غيره الجنة فهو من أهل الجنة من باب أولى وأحرى، وقررت الأدلة على ذلك بالأحاديث الصحيحة المستفيضة عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

والدلالة الثانية من السنة النبوية المطهرة: تصريح النبي صلى الله عليه وسلم تصريحاً لا مجال فيه للبس، بأن أولاد المسلمين إذا ماتوا قبل الحنث هم في جنة النعيم، كل هذا إخوتي الكرام مرَّ الكلام عليه.

وسندخل الآن للشق الثاني لهذه المسألة: وهو إذا كان من لم توجد فيه شروط التكليف بالتوحيد في هذه الحياة من غير أولاد المسلمين، يعني من أولاد المشركين، كأولاد اليهود والنصارى، وممن ماتوا في الفترة، وممن كان مجنوناً وبلغ وهو مجنون ثم مات على جنونه، فلم يجرِ عليه القلم ولم يوحد الله جل وعلا، فما حكمه في الآخرة؟

هذه المسألة -إخوتي الكرام- سنتدارسها في هذه الليلة المباركة إن شاء الله، وقبل أن أدخل في تفصيل الكلام عليها أحب أن أنبه إلى أمر ينبغي أن نعيه يتعلق بالمسألة المتقدمة.

أولاد المسلمين -إخوتي الكرام- قلت: لأئمتنا فيهم قولان، قول مرجوح والآخر راجح، وكل من القولين قال به أئمة الهدى، لكن القول الثاني هو الذي شهدت له الأدلة، وهناك قول ثالث ما ذكرته لأنه لم يقل به أحد من أهل السنة، إنما قال به بعض الضالين المبتدعين الزائغين، أريد أن أنبه عليه من باب ما قيل في هذه المسألة من قبل الزائغين الضالين، لنحذر هذا القول، ولنكون على بينة منه إذا مر معنا، وهذا القول تبناه ضال نجس يسمى ثُمامة بن أشرس ، وكان من رؤساء مذهب الاعتزال، وهو من أئمة الضلال، كان له صلة بالخليفة المأمون ، وحُكي عنه قلة دين، وخلاعة في نفسه.

ثمامة بن أشرس هلك سنة (130هـ) وقيل بعد ذلك، أي في القرن الثاني للهجرة، يقول: إن أولاد المسلمين بل وأولاد الأنبياء إذا ماتوا قبل بلوغهم يكونون تراباً يوم القيامة، فلا يكونون في جنة ولا في نار، هذا ما بُني على دليل وليس له أي اعتبار، إنما مجرد رأي قاله صاحب الهوى ثمامة بن أشرس ، وهذا القول باطل قطعاً وجزماً، والأدلة الكثيرة بينت أن أولاد المسلمين في جنات النعيم، وهم دعاميص أهل الجنة كما تقدم في كلام نبينا صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره.

فقول ثمامة بن أشرس إن أولاد المسلمين بل وأولاد الأنبياء يكونون تراباً في الآخرة، قول باطل لا يستند على دليل معتبر، ويزداد قوله نكارة وبطلاناً عندما ألحق أولاد الأنبياء بأولاد المسلمين في الآخرة، وقال: يكون الجميع تراباً، وقد ورد أن أولاد المسلمين في الجنة، ووردت أحاديث خاصة تبين أن أولاد الأنبياء إذا ماتوا وهم صغار فهم في الجنة من باب أولى، إذا ثبت هذا لأولاد المؤمنين تبعاً لأبويهم، فأولاد الأنبياء هم من أهل الجنة من باب أولى وأحرى.

وقد ثبت في صحيح البخاري ، ومسند الإمام أحمد ، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن إبراهيم ابني قد مات، وإنه له مُرضِعاً في الجنةإبراهيم ابن نبينا الأمين من سريته مارية رضي الله عنها وأرضاها، وعلى نبينا وآله وصحابته صلوات الله وسلامه، لما مات ابنه إبراهيم وهو صغير يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن إبراهيم ابني قد مات، وإنه له مُرضِعاً في الجنة)، والحديث في صحيح البخاري وهو في مسند الإمام أحمد ، وزاد الإمام أحمد في روايته: (إن له مرضعاً في الجنة، وهو صديق)، والحديث رواه ابن ماجه أيضاً، من رواية ابن عباس والحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين (إن إبراهيم ابني قد مات، وإن له مُرضِعاً في الجنة).

وثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم ابني قد مات في الثدي -أي: وهو يرضع- وإن له لظئرين يكملان رضاعه في الجنة)، أي: له مرضعتان في الجنة تكملان رضاعه بفضل الله ورحمته وكرمه.

وإذا ثبت هذا لأولاد الأنبياء، فيُلحق بهم أولاد المؤمنين الأولياء، فهم أولياء الله جل وعلا، فإذا ثبت هذا لأولاد الأنبياء وهو ثابت، فيُلحق بهم أولاد المؤمنين.

وتقدم معنا -إخوتي الكرام- في بعض روايات الحديث المتقدم الثابت في المسند، وصحيح ابن حبان والمستدرك، وسنن النسائي ، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما عزَّى بعض الصحابة في ولده وقال له: (أيسرك أن تمتع به حياتك، أو ألا تأتي يوم القيامة إلى باب من أبواب الجنة إلا وقد وجدته سبقك يفتحه لك؟ قال: بل يسبقني إلى أبواب الجنة يفتحها لي، قال: فذلك لك، فقال عمر رضي الله عنه: له خاصة؟ قال: بل لكلكم).

وتقدم معنا في روايات هذا الحديث المتعددة، في بعض رواياته: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصحابي مات ولده: (أما ترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم يلاعبه تحت ظل العرش).

فإذاً: أولاد الأنبياء وأولاد المؤمنين إذا ماتوا قبل التكليف هم في الجنة بفضل الله ورحمته وكرمه، وقد انفرد هذا الضال النجس ثمامة بن أشرس فقال: إن أولاد المؤمنين بل وأولاد الأنبياء إذا ماتوا وهم صغار، قبل تكليفهم، يكونون تراباً في الآخرة، وهذا ضلال وسفاهة.

وهذا الضال ثمامة بن أشرس حُكي عنه -كما في الميزان ولسان الميزان- ضلالات توجب الحكم عليه بالكفر، ففي لسان الميزان للحافظ ابن حجر عليه رحمة الله يقول: رأى المسلمين يذهبون إلى صلاة الجمعة، فقال هذا الضال المضل ثمامة بن أشرس : انظروا إلى الحمير، انظروا إلى البقر، أين يذهبون! ثم التفت إلى أصحابه وقال: ماذا فعل هذا العربي بالناس؟ يقصد النبي عليه الصلاة والسلام! عندما شرع لهم هذه العبادات، يذهبون إلى صلاة الجمعة كأنهم حمير وبقر! فهذا موجود في لسان الميزان.

وبلغ من شناعته وقبحه بأنه قال: إن اللواط حرام، لكن ما عدا اللواط -وهو إدخال العضو في الدبر- من مفاخذة الصبيان حلال، وما قام دليل على تحريمه، ثمامة بن أشرس أثر عنه خلاعة في النفس، رقة في الدين، وزندقة بعد ذلك وإلحاد، ثمامة بن أشرس يقول هذا القول، فكونوا على علم به، وعلى حذر منه.

من عدا أولاد المسلمين ممن ماتوا في الفترة، ومن أولاد المشركين وغيرهم، ممن لم توجد فيه شروط التكليف بالتوحيد من غير أولاد المسلمين، ما حكمه؟

حُكي في ذلك ثمانية أقوال، سأفصل الكلام على كل قول منها، وأبين ما له وما عليه، ومن قال به، لكن رأيت من الحكمة قبل أن أبدأ بالأقوال المرجوحة والباطلة وأفندها، رأيت أن أبدأ بالقول الحق لأقرره بأدلته ليرسخ في أذهاننا، ونعلم حكم الله في هذا الصنف، ثم بعد ذلك نستعرض الأقوال الباطلة ونكر عليها بالتفنيد والرد إن شاء الله.

القول الراجح في مصير غير أطفال المسلمين ممن لم يكلف بالتوحيد وتقرير أدلته

إخوتي الكرام! من لم توجد فيه شروط التكليف بالتوحيد في هذه الحياة من غير أولاد المسلمين، الحكم فيهم عند أهل السنة المهتدين: أننا لا ننزلهم جنة ولا ناراً، إنما قولنا فيهم ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام ثبوتاً مستفيضاً بين المتواتر والمشهور، والأحاديث في ذلك صحيحة: أنهم يمتحنون في عرصات الموقف وفي ساحة الحساب، فمن أطاع منهم الكريم الوهاب دخل الجنة بفضل الله ورحمته، ومن عصى منهم في ساحة الحساب دخل النار بعدل الله جل وعلا، فيمتحنون في عرصات الموقف كما امتُحنا نحن في هذه الحياة، كما أن من اطاع منا في هذه الحياة مآله الجنة، ومن كفر في هذه الحياة مآله النار، هكذا العدل الإلهي في هؤلاء، يمتحنون في عرصات الموقف، فينقسمون إلى قسمين بعد امتحانهم في الآخرة، كما انقسم الناس إلى قسمين عند امتحانهم في الحياة الحاضرة، شقي وسعيد، فبعضهم يطيع الله فيدخل الجنة، وبعضهم يعصي الله فيدخل النار.

هذا القول سأقرره بكلام نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم سأبين أن هذا القول به يجتمع شمل الأحاديث الواردة عن نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة، وأقرره بأن هذا هو قول أهل الحق أهل السنة والجماعة، وهذه أمور ثلاثة، ثم أجيب على شبهتين تتعلق بهذا القول إن شاء الله، وأما الأقوال السبعة الأخرى نستعرضها فيما يأتي إن أحيانا الله.

إخوتي الكرام! سأسرد ستة أحاديث عليكم في هذه المسألة، وأبين درجة كل حديث كما ذكر أئمتنا، لنكون علم بذلك، وهذه المسألة حقيقة كثير من طلبة العلم يجهلون الكلام فيها، ويستشكلون حكمها، لذلك لابد من أن أبين الحق فيها، بأدلته لنكون على علم بذلك إخوتي الكرام.

الدليل الأول على أن أطفال غير المسلمين يمتحنون في العرصات

الحديث الأول: حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه وهو من الصحابة الكرام، وحديثه رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه ابن حبان في صحيحه، ورواه البزار في مسنده، وقال الإمام الهيثمي عنه في المجمع (7/ 216) رجاله رجال الصحيح، والحديث رواه الإمام البيهقي في كتاب الاعتقاد (ص:169)، ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده، ورواه أبو نعيم في الحلية، ورواه ابن مردويه في تفسيره، والطبراني في معجمه الكبير، والحديث إسناده صحيح كالشمس، فلا مَطعن في أحد من رجاله، فرجاله كلهم رجال الصحيح، وقد نقل الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:522)، عن الإمام عبد الحق الإشبيلي : إن هذا الحديث صحيح، وأقر الإمام ابن القيم تصحيح هذا الإمام المبارك، وقد صحح الحديث أيضاً الإمام السيوطي في مسالك الحنفاء في نجاة والدي الحبيب المصطفى عليه صلوات الله وسلامه، ولا أريد أن أفصل الكلام على رسالة الإمام السيوطي ، فلعله عند دَرْج الكلام سيأتينا الكلام على هذه المسألة، وعلى ما جرى حولها من كلام إن شاء الله، إنما في هذا الكتاب نص على أن حديث الأسود بن سريع صحيح، وسيأتينا أن الإمام ابن القيم قال: إن حديث الأسود بن سريع أصح من كثير من أحاديث الأحكام التي يحتج بها فقهاء الإسلام.

ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (أربعة يُمتحنون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هَرِم، ورجل مات في فترة)، أصم لا يسمع شيئاً، أحمق في عقله خلل، هرم أصابه الخرف وبلغه الإسلام وليس عنده ما يعقل به، والصنف الرابع مات في فترة، هؤلاء الأربعة يُمتحنون.

قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (فأما الأصم فيقول: رب! لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب! لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبَعَر) والبعر: هو الذي يخرج من الشاة ومن الخراف، غائط الشياة يقال له: بعر، والحذف: هو الرمي بالأصابع، وحقيقته: أن يوضع الشيء على الإبهام من بعرة أو حصاة صغيرة، ثم ترمى بالسبابة، ويُتوسع في الكلام فيطلق على الرمي بالأصابع كلها، فمن التقط بعراً أو حصى صغاراً ورجم به غيره يقال: حذفه، رماه بحجار صغيرة أو بهذا البعر، إنما حقيقته: أن يوضع الشيء على الإبهام ويضرب بالسبابة.

وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف، وقال: إنه لا يقتل صيداً ولا ينكأ عدواً)، يعني: لو أردت أن تصيد عن طريق الخذف لا يمكن، لو أصبت الصيد، من حمام أو غزالة أو أرنب لا تؤثر فيه.

وقوله: (ولا ينكأ عدواً)، أي: لو ضربت عدوك بالخذف فلا تؤثر فيه ولا تقتله، (إنما يفقأ العين، ويكسر السن)، يعني: عندما تأخذ الحصاة وتضعها على إبهامك وتخذف بها الناس، إذا أصبتهم في أعينهم عورت أعينهم، وإذا جاءت الحصاة على أسنانهم كسرت أسنانهم، لكن لا يؤثر هذا في العدو ولا يقتل الصيد.

(فخذف قريب لـعبد الله بن المغفل ، فنهاه عبد الله بن المغفل فعاد، فقال له عبد الله بن المغفل : سبحان الله! أقول لك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخذف وتخذف، والله لا أكلمك أبداً)، والحديث كما قال أئمتنا نص صريح في هجران أهل البدع والعصاة حتى يتوبوا من بدعهم وعصيانهم.

(ثم تخذف والله لا أكلمك أبداً)، أي: ما دمت على هذا، حتى تعلن توبتك وإنابتك إلى ربك، والحديث في الصحيحين.

فالأحمق يقول: (رب! لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني، وأما الهرم فيقول: رب! لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً)، أي: دخلت في حد الخرف، ورُددت إلى أرذل العمر، وما بقيت أعقل ولا أعي، (وأما من مات في فترة فيقول: رب! ما أتانا لك رسول)، وتقدم معنا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وذكرت عشر آيات تدل على أن الله لا يعذب عباده إلا بعد أن يرسل إليهم رسلاً، ويقيم عليهم الحجة التامة الكاملة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيأخذ الله مواثيقهم ليطيعنه، -يقول: تعطوني مواثيقكم وعهودكم أنكم تطيعوني وأنا ربكم وأنتم عبادي-، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً).

إذاً: هؤلاء الأربعة يمتحنون، وكل واحد يدلي بحجة، فيأخذ الله عليهم المواثيق أن يطيعوه، فيعطونه المواثيق والعهود على ذلك، فيقول: ادخلوا النار، فمن دخلها صارت عليه برداً وسلاماً، فمن عدا أولاد المسلمين يمتحنون في عرصات الموقف ويوم الدين، وامتحانهم يأمرهم الله أن يلقوا بأنفسهم في نار الجحيم، فمن ألقى نفسه فيها قلبها الله عليه برداً وسلاماً ونقله إلى الجنة، ومن امتنع سُحب إليها صاغراً ذليلاً كما سيأتي معنا، هذا الحديث الأول حديث الأسود بن سريع ، وهو حديث صحيح.

الدليل الثاني على أن أطفال غير المسلمين يمتحنون في العرصات

الحديث الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رواه الإمام أحمد في المسند، والإمام البيهقي في كتاب الاعتقاد في المكان المتقدم، ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، وابن أبي عاصم في السنة، والحديث قال عنه البيهقي في كتاب الاعتقاد: إسناده صحيح، وقال عنه السيوطي في مسالك الحنفاء: إسناده صحيح، وقال عنه الإمام الهيثمي في المجمع: بأن الحديث في المسند وهو في المجمع من زيادات الكتب الستة، قال: رجاله رجال الصحيح، كالحديث المتقدم وهو حديث الأسود بن سريع.

ولفظ حديث أبي هريرة كالحديث الأسود بن سريع وزاد في آخر الحديث: (فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها يُسحب إليها).

إذاً: من دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ممن يُمتحن، وإلا يُسحب إليها ذليلاً صاغراً.

وهذا الحديث -إخوتي الكرام- الذي رواه أبو هريرة مرفوعاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام، في هذه الكتب المتقدمة، ورواه الإمام الطبري في تفسيره عند تفسير آية الإسراء: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] ، في الجزء الخامس عشر، صفحة واحدة وأربعين، ورواه عبد الرزاق في المصنف، والإمام ابن المنذر في تفسيره، وابن أبي حاتم في تفسيره، وإسناد الأثر على شرط الشيخين؛ لكنه في الرواية الثانية موقوف على أبي هريرة وليس مرفوعاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، في تفسير الطبري والكتب الأخرى بعده، مروي عن أبي هريرة موقوفاً عليه بلفظ: (إذا كان يوم القيامة جمع الله نَسَم الذين ماتوا في الفترة -أي: الأولاد الذين ماتوا في الفترة قبل مجيء رسول إليهم، وقبل أن يُكلفوا- والمعتوه -وهو: الذي ليس عنده عقل يعقل به-، والأصم، والأبكم، والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرِفوا، -يجمعهم الله يوم القيامة- ثم يرسل إليهم أن ادخلوا النار، فيقولون: ربنا كيف ندخلها ولم يأتنا رسول؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً، ثم يرسل إليهم ثانية فيقول لهم: ادخلوا النار، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه قبل -يعني: من قُدِّر له الطاعة لو عاش في هذه الحياة، يطيع يوم القيامة- فيدخل النار، ويجعلها الله عليه برداً وسلاماً)، قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] .

قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في طريق الهجرتين: ووقف هذا الأثر لا يضر، فإذا أردنا أن نأخذ بزيادة الثقة في الرفع، وأن يرجح رواية الرفع؛ لأنها زيادة ثقة وهي مقبولة، فلا إشكال، وهذا الكلام من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أردنا أن نسلك طريق المعارضة ونقول: الذين رفعوا وهِموا، والمعتمد وقف الحديث، فقال: فلا يضر، مآل الأمرين في نهاية الأمر إلى شيء واحد، وهو أن هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، كيف وهو موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لأن مثل هذا لا يُقال من قبل الرأي، فله حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يتعلق بمغيَّب، وفي حكم من أحكام الآخرة، وإذا قال الصحابي قولاً لا يدرك بالرأي فله حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

وما أتى عن صاحب بحيث لا يقال رأياً حكمه الرفع على

ما قال في المحصول ..

إلى آخره. كما تقدم معنا تقرير هذه القضية.

فإذاً: ما قاله الصحابي موقوفاً عليه ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يُدرك بالرأي، فله أحد احتمالين لا ثالث لهما، إما أن هذا الصحابي ابتدع وخرَّف وهذى وتخرَّص، وقال في دين الله ما لا دليل عليه، وحاشاهم من ذلك فليس فيهم مبتدع، وإما أن هذا قاله بناء على توقيف من النبي عليه الصلاة والسلام، لكن ما صرَّح بالرفع لاعتبار من الاعتبارات، فمآل الروايتين في نهاية الأمر إلى شيء واحد، إن كانت مرفوعة فهذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كانت موقوفة فلها حكم الرفع إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، والرواية المرفوعة ثابتة صحيحة، وهكذا الرواية الموقوفة، وهكذا الرواية الأولى رواية حديث الأسود بن سريع وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين.

الدليل الثالث على أن أطفال غير المسلمين يمتحنون في العرصات

الرواية الثالثة: رواية ثوبان مولى نبينا عليه الصلاة والسلام، رواها الحاكم في المستدرك (4/450) في كتاب الفتن والملاحم، وقال الإمام الحاكم : إن إسناد الحديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره على ذلك الإمام الذهبي في تلخيص المستدرك، والحديث رواه البزار من طريقين آخرين لكن بإسناد ضعيفين، وأما رواية الحاكم فهي ثابتة صحيحة، ورواية البزار أوردها الإمام الهيثمي في المجمع (10/347).

ولفظ الحديث: عن ثوبان رضي الله عنه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم، فيقول الله لهم جل وعلا: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: ربنا لم ترسل إلينا رسولاً، ولم يأتنا أمر منها، ولو أرسلت إلينا رسولاً لكنا أطوع خلقك لك وما عصيناك طرفة عين، فيقول الله: أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيقولون: نعم ربنا نطيعك، -أنت إلهنا، ولو أرسلت إلينا رسولا في الحياة لكنا أطوع الخلق لك، ففي هذه الدار من باب أولى- أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني فيقولون: نعم ربنا، فيأخذ الله عليهم مواثيقهم، ثم يأمرهم أن يعمدوا فيدخلوا النار، فينطلقون حتى إذا رأوها سمعوا لها تغيظاً وزفيراً فَرِقوا منها، فيقول الله لهم: ألم تعطوني مواثيقكم لتطيعوني، اعمدوا فادخلوها، فيذهبون حتى إذا رأوها سمعوا لها تغيظاً وزفيراً فَرِقوا منها ورجعوا، قالوا: ربنا لا نستطيع أن ندخلها، فيقول الله لهم: ادخلوها صاغرين، قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً)، هذه رواية ثالثة عن ثوبان ، والحديث صحيح ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

الدليل الرابع على أن أطفال غير المسلمين يمتحنون في العرصات

رواية رابعة عن أنس خادم النبي صلى الله عليه وسلم كـثوبان رضي الله عن الصحابة الكرام أجمعين، ورواية أنس رواها أبو يعلى في مسنده، والبزار في مسنده، ورواها البيهقي في كتاب الاعتقاد، وأشار الإمام الحافظ ابن حجر في الفتح إلى رواية البزار ، وقال الإمام الهيثمي في المجمع (7/216): في إسناد الحديث عطية بن سعد بن جنادة العوفي وهو ضعيف، وعطية العوفي يقول عنه الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلساً، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأهل السنن الثلاثة أبو داود والترمذي وابن ماجه.

قول الحافظ : صدوق، أي: إن حديثه في درجة الحسن إن شاء الله، ويخطئ كثيراً، ينبغي أن ننظر هل خالفه الرواة فيما روى أم لا؟ وهذه الرواية شهد لها رواية ثوبان ، ورواية أبي هريرة ورواية الأسود بن سريع ، فما انفرد عطية بشيء خُولف فيه، وهو صدوق فحديثه إذاً في درجة الحسن، وسيأتينا تنصيص السيوطي على تحسين الحديث، وقبول الإمام ابن القيم للحديث كيفما كان، سواء كان عطية ضعيفاً أو لا لوجود الشواهد له.

وقول الحافظ : كان شيعياً، انتبهوا إخوتي الكرام للفظ التشيع، فلفظ التشيع في العصور المتقدمة يطلق على شيء اختلف هذا الإطلاق في العصور المتأخرة، فكونوا على علم بذلك، كان التشيع يطلق في القرن الأول والثاني على مَن فضَّل علياً على الشيخين والصحابة، أو على من فضَّل علياً على عثمان، وعلى هذا كان شيعة الكوفة في أول الأمر: يقدمون الشيخين ثم يقدمون علياً على عثمان ، دون أن يقع أحد منهم في الصحابة الكرام.

والتشيع بهذا المعنى مع إنكارنا له أمره يسير، يعني: تفضيل علي على الشيخين غاية ما يقال: هذه بدعة، لكن لا توقع في الضلال والكفر الذي وقع بعد ذلك فيه الشيعة الذين سبوا الصحابة الكرام وعلى رأسهم الشيخين المباركين أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعن الصحابة الكرام، وقالوا بعد ذلك هذيانا وضلالا ما أنزل الله به من سلطان، عصمة أئمتهم ووجوب الإيمان بهم، وبعد ذلك تلاعبوا بالقرآن كما يريدون.

فلابد من التفريق بين إطلاق أئمتنا على راوٍ من الرواة أنه كان شيعياً، أي: كان ممن يقول بتفضيل علي على غيره من الصحابة، وحتماً هذه بدعة؛ لكن هذه البدعة مع شناعتها صاحبها إذا لم يكن داعية ولا يستحل الكذب وعند هذا الحد وقف، فيرد عليه بدعته ويُحمل العلم عنه، وأما إذا وقع في أعراض الصحابة الكرام رضوان الله عليهم فلا كرامة له ولا يُروى عنه، فلابد من التمييز بين إطلاق أئمتنا لراوٍ من الرواة على أنه شيعي للاصطلاح المعروف سابقاً، وبما صار بعد ذلك معروفاً بيننا في العصور المتأخرة، أن لفظ التشيع يقابل أهل السنة والجماعة، هو عنوان على فرقة ضالة عندها أصول تخالف أصولنا من أولها لآخرها، فلنكن على علم بذلك!

إذاً: صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً ومدلساً، ثم بيَّن أنه من رجال الإمام البخاري لكن في كتاب الأدب المفرد، وأخرج حديثه أهل السنن الثلاثة أبو داود والترمذي والإمام ابن ماجه القزويني ، هذا كلام الحافظ في تقريب التهذيب.

قال الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين (ص:525): الحديث وإن كان فيه عطية بن سعد بن جنادة العوفي، فهو ممن يعتبر حديثه، ويُستشهد به، وإن لم يكن حجة.

وقال الإمام السيوطي في مسالك الحنفاء: عطية بن سعد بن جنادة العوفي يحسن حديثه الترمذي في سننه، وهذا الحديث له شواهد -أي: رواية عطية عن أنس رضي الله عنه- تقتضي الحكم بحُسن الحديث وثبوته، إذاً: رواية أنس الرابعة كالروايات الثلاث المتقدمة فيها كلام يسير لكن ترتفع إلى درجة الروايات المتقدمة من حيث القبول؛ لأن الروايات المتقدمة شهدتْ لمضمون الرواية الرابعة.

ولفظ الرواية الرابعة: عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ييُؤتى بالهالك في الفترة -من مات قبل إرسال الرسل-، والمعتوه -المجنون-، والمولود) -أي: الذي مات قبل أن يبلغ، والمراد من المولود هنا خصوص أولاد الكفار؛ لأن أولاد المسلمين ورد فيهم دليل خاص كما تقدم معنا، إذاً (يؤتى بالهالك في الفترة، وبالمعتوه، وبالمولود، فيقول الهالك في الفترة: رب لم يأتيني كتاب ولا رسول، ويقول المعتوه: أي رب، لم تجعل لي عقلاً أعقل به شيئاً، ويقول المولود: رب لم أدرك العمل -أي: ما بلغت وعقلت لأوحدك ولأعبدك سبحانه وتعالى-، فيُرفع لهم نار ويقول الله لهم: ردوها، فيدخلها من كان في علم الله سعيداً، إن لو أدرك العمل، ويُمسك عنها من كان في علم الله شقياً، إن لو أدرك العمل) يعني: لو قُدر أنه مُدت حياته وجاءه رسول وأدرك العمل وهو شقي لن يطيع في هذه الحياة، هذا الذي يمسك عن الدخول في عرصات الموقف وساحة الحساب، فذاك دخل وهذا أمسك.

(فيقول الله لمن أمسك عن الدخول: إياي عصيتم، فكيف برسلي بالغيب)، أي: أمرتكم فعصيتموني فكيف لو أرسلت لكم رسلاً بالغيب ولم تروني، لكنتم لهم أشد تكذيباً وعصياناً، إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب، والحديث كما قلت إن شاء الله في درجة الحسن، وهو الرواية الرابعة وهي رواية أنس رضي الله عنه وأرضاه.

الدليل الخامس على أن أطفال غير المسلمين يمتحنون في العرصات

الرواية الخامسة: رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

إخوتي الكرام! الرواية رواية أنس التي تكلمت عليها، ذهب ذهني إلى الرواية التي بعدها وهي الرواية الخامسة، فلنصحح الكلام، موضوع عطية بن سعد بن جنادة هذا في الرواية الخامسة لا في الرواية الرابعة، فكونوا على علم بذلك، لذلك أغير الكلام، فالرواية الرابعة أتكلم عليها بعد أن أذكر الرواية التي ذكرتها لكم -وهي خامسة- بدلاً من أن تكون رابعة، ونجعلها رابعة وأجعل الرابعة خامسة فلا يضر.

الرواية الرابعة: هي رواية أبي سيعد الخدري وليس برواية أنس ؛ لأن عطية بن سعد بن جنادة العوفي هذا في إسناد حديث أبي سعيد وليس في إسناد حديث أنس ، حديث أبي سعيد الخدري انفرد بروايته البزار ، لم يروه من تقدم ذكرهم أبو يعلى والبزار والبيهقي في كتاب الاعتقاد كما تقدم، أولئك رووا رواية أنس ، وأما هنا -رواية أبي سعيد - فانفرد البزار بروايتها.

قال الإمام الهيثمي في المجمع ما ذكرته لكم: عطية بن سعد العوفي ضعيف، وذكرت الكلام عليه، ثم ذكرت كلام الإمام ابن القيم وكلام السيوطي ، وأن الإمام الترمذي يُحسن حديث عطية بن سعد العوفي، هذا كله حول رواية أبي سعيد الخدري ، والرواية التي ذكرتها يُؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود، كل هذا رواية أبي سعيد الخدري لا رواية أنس فغيروا اسم الصحابي، هناك أنس وهنا أبو سعيد ، وأما رواية أنس فأذكرها الآن، ورواية أبي سعيد انفرد البزار بروايتها، وأما رواية أنس فهي التي رواها أبو يعلى -كما قلت- والبزار والبيهقي في كتاب الاعتقاد، في رواية أنس راوٍ متكلَّم فيه، وهو ليث بن أبي سُليم، انتهينا من الرواية التي هي رواية أبي سعيد التي نسبتها إلى أنس فيُغير اسم الصحابي فقط.

الرواية الخامسة: رواية أنس ، فيها ليث بن أبي سليم بن زُنيم واختُلف في اسم والده، قيل أيمن رحم الله موتى المسلمين أجمعين، ليث بن أبي سليم يقول عنه الإمام الهيثمي في المجمع: مدلس، وبقية إسناد أبي يعلى رجاله رجال الصحيح، فيهم هذا الراوي وهو ليث بن أبي سليم بن زنيم مدلس.

ويقول الحافظ في التقريب عن ليث : صدوق، لكنه اختلط أخيراً، فتُرك حديثه لعدم تمييز رواياته، أي: قبل الاختلاط وبعد الاختلاط، ثم رمز إلى أن حديثه خرَّجه الإمام البخاري في صحيحه لكن تعليقاً، وخرَّج حديثه الإمام مسلم في صحيحه لكن ما روى له في الأصول إنما في الشواهد والمتابعات، وحديثه في السنن الأربعة، ليث بن أبي سليم هذا في رواية أنس رضي الله عنه، والحديث كما قلت في مسند أبي يعلى والبزار ، وكتاب الاعتقاد للإمام البيهقي، ولفظ الحديث:

(يُؤتى بأربعة يوم القيامة بالمولود من غير أولاد المسلمين، وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة، وبالشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجة)، أي: كل واحد يقول ما يدفع به عذاب الله عنه، (فالصبي يقول: ما عقلت وما بلغت، والشيخ الفاني يقول: جاء الإسلام وأنا خرف، والذي مات في الفترة يقول: ما جاءني رسول، فيقول الرب جل وعلا لعنق من النار: ابرُز -لسان من النار يخرج- ثم يقول الله لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسولاً من أنفسهم، وأنا رسول نفسي إليكم -دون واسطة بيني وبينكم-، ادخلوا هذه، أي: هذا اللسان وهذا العنق الذي خرج من النار، فيقول من كُتب عليه الشقاء: أنى ندخلها، وكنا منها نفر! ومن كُتب له السعادة يمضي فيقتحم فيها، فيقول الله لمن امتنع: أنتم كذبتموني، فكيف لو أرسلت إليكم رسلاً لكنتم لرسلي أشد تكذيباً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيُدخل الله هؤلاء الجنة وهؤلاء النار)، يعني: من اقتحم فيها ودخل يدخله الله الجنة، ومن امتنع قاده الله ذليلاً صاغراً داحراً إلى النار، فيدخل الله هؤلاء الجنة وهؤلاء النار.

هذه رواية خامسة وهي رواية أنس ، هاتان الروايتان رواية أنس ورواية أبي سعيد -كما قلت- حولهما كلام لوجود

إخوتي الكرام! من لم توجد فيه شروط التكليف بالتوحيد في هذه الحياة من غير أولاد المسلمين، الحكم فيهم عند أهل السنة المهتدين: أننا لا ننزلهم جنة ولا ناراً، إنما قولنا فيهم ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام ثبوتاً مستفيضاً بين المتواتر والمشهور، والأحاديث في ذلك صحيحة: أنهم يمتحنون في عرصات الموقف وفي ساحة الحساب، فمن أطاع منهم الكريم الوهاب دخل الجنة بفضل الله ورحمته، ومن عصى منهم في ساحة الحساب دخل النار بعدل الله جل وعلا، فيمتحنون في عرصات الموقف كما امتُحنا نحن في هذه الحياة، كما أن من اطاع منا في هذه الحياة مآله الجنة، ومن كفر في هذه الحياة مآله النار، هكذا العدل الإلهي في هؤلاء، يمتحنون في عرصات الموقف، فينقسمون إلى قسمين بعد امتحانهم في الآخرة، كما انقسم الناس إلى قسمين عند امتحانهم في الحياة الحاضرة، شقي وسعيد، فبعضهم يطيع الله فيدخل الجنة، وبعضهم يعصي الله فيدخل النار.

هذا القول سأقرره بكلام نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم سأبين أن هذا القول به يجتمع شمل الأحاديث الواردة عن نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة، وأقرره بأن هذا هو قول أهل الحق أهل السنة والجماعة، وهذه أمور ثلاثة، ثم أجيب على شبهتين تتعلق بهذا القول إن شاء الله، وأما الأقوال السبعة الأخرى نستعرضها فيما يأتي إن أحيانا الله.

إخوتي الكرام! سأسرد ستة أحاديث عليكم في هذه المسألة، وأبين درجة كل حديث كما ذكر أئمتنا، لنكون علم بذلك، وهذه المسألة حقيقة كثير من طلبة العلم يجهلون الكلام فيها، ويستشكلون حكمها، لذلك لابد من أن أبين الحق فيها، بأدلته لنكون على علم بذلك إخوتي الكرام.