مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، يا أرحم الراحمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

نواصل ذكر شروط التكلف بالتوحيد فنقول:

الشرط الثالث: بلوغ الدعوة ووصول الحجة إليه، وهذا الشرط الثالث لتكليف الإنسان بتوحيد ذي الجلال والإكرام، والله جل وعلا جعل ثلاث حجج لتكليف الإنسان بتوحيد الله جل وعلا:

الحجة الأولى: أخذت على الإنسان عندما خلق الله أباه آدم، واستخرج الذرية من ظهره، بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]، إلى آخر الآيات، وهذا الذي يسمى بعالم الذَّر أخذ علينا العهد فيه، وسيأتينا تفصيل هذا وتفسيره والكلام عليه عند الميثاق الذي أخذ علينا في عالم الذر إن شاء الله، عند مباحث التوحيد، فأقرر الكلام عليه وعلى ما تحتمله الآية من معانٍ إن شاء الله، هذا العهد الأول والحجة الأولى أُقيمت علينا، وكلمنا الله كفاحاً، وأشهدنا على أنفسنا، أنه خالقنا وربنا فشهدنا.

عهد ثانٍ أخذه الله علينا: وهو ما ركزه في فطرنا، من الإقرار بربوبيته وألوهيته وحده لا شريك له: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30] ، (وكل مولود يُولد على الفطرة)، أي: على الدين الحق والحنيفية السمحة.

دليل ثالث: ليذكركم بما رُكز في فطركم، وليذكركم بما أخذ عليكم في عالم الذر، وهو: بلوغ الدعوة بواسطة رسول يرسله الله على نبينا وعلى جميع رسل الله صلوات الله وسلامه، فيبين للناس دعوة الله.

إذاً: بلوغ الدعوة هذه هي الحجة الثالثة من الحجج التي أقامها الله لتكليف الناس بتوحيده:

الحجة الأولى: العهد عليهم في عالم الذر.

الحجة الثانية: الفطر المستقيمة التي تقر بربوبية الله وألوهيته.

الحجة الثالثة ظاهرة واضحة بينة: كتاب ينزل ورسول يوضح: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

إخوتي الكرام! دلت آيات كثيرة وأحاديث متواترة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، بأنه يشترط بلوغ الدعوة للتكليف بتوحيد ذي الجلال والإكرام، سأذكر عشر آيات من الآيات الكثيرة التي تقرر هذا الشرط، وأقسم هذه العشر الآيات إلى ست دِلالات تدل على أنه يُشترط للتكليف بتوحيد الله جل وعلا بلوغ الدعوة إلى المكلفين على أتم وجه وأظهره.

الدلالة الأولى على اشتراط بلوغ الدعوة وقيام الحجة للتكليف بالتوحيد

الدلالة الأولى: أشار إليها ربنا في سورة الإسراء، في آية خمس عشرة، أنه لا يعذب العباد إلا بعد إرسال الرسل إليهم وإقامة الحجة عليهم، يقول الله جل وعلا: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:13-15] .

فقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] أي: حتى نرسل رسولاً إلى البشر من جنسهم ليبلغهم دعوة ربهم، وليقطع عذرهم، ويزيل شبههم، والرسول هو الذي يُرسل إليهم من جنسهم، وأما ما ذهب إليه علماء الكلام من المعتزلة وأصحاب الهذيان، بأن المراد من الرسول العقل، فهذه سفاهة في الاستدلال، ووضع كلام الله في غير موضعه.

فليس المراد من الرسول العقل البشرى، وليس معنى قوله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] ، أي: حتى نوجد عقلاً في الإنسان، فعقله ينبغي أن يهدى إلى توحيد الرحمن، هذا كلام باطل، الرسول: هو الذي يرسله الله من جنس البشر: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف:109]، وما قال: عقولاً في أجناس الناس يكلفون بسببها، وسيأتينا بعد ذلك من جملة الآيات (رسلاً) بعد أن قص الله أخبار الأنبياء: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

فالرسول هو الذي يُرسل من جنسنا، وهو من خصوص البشر، ويرسل للإنس والجن، فالجن تبع والإنس أصالة، ولا يكون الرسل إلا من البشر، لقول الله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف:109] ، فهم رجال، وهم من البشر، وهم ذكور، وهذه الوظيفة -النبوة والرسالة- لا تكون في الجن، إنما فيهم نذر يبلغون عن الرسل، ولا تكون في النساء، فغاية ما في النساء الصديقات، ولا يصلن إلى درجة النبوة.

فقد شذ ابن حزم فقال: يوجد في النساء نبيات، كما يوجد في الرجال أنبياء، وبنى وهمه على قول الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42]، وبنى وهمه على قول الله جل وعلا: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7] ، وقال: هذا الإيحاء دليل على أن الوحي نزل على النساء، وهذا دليل على نبوتهن، نقول: لا يلزم من نزول الملَك على إنسان أن يكون نبياً، لا رجلاً ولا أنثى، ينبغي أن ينزل عليه بتكليفه بالنبوة والرسالة، لا ينزل عليه فقط.

وقد كانت الملائكة قبل هذه الأمة تكلم الناس عياناً وتقابلهم، وحديث الأعمى والأبرص والأقرع مشهور متواتر، وحديث الذي قتل تسعة وتسعين ثم أكمل المائة، وأنزل الله ملائكة بعد ذلك يختصمون في أمره، هذا كله كان يقع في العصر الأول والناس يشاهدونه، وقد كان جبريل يأتي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في صورة رجل والصحابة يرونه، فما حصلت لهم النبوة في رؤيته، وقد كانت الملائكة تنزل على عمران بن حصين ، وهذا ثابت صحيح، فلما اكتوى رضي الله عنه وأرضاه نفرت منه الملائكة، ولذلك كان يقول: عندما اكتوينا ما أفلحنا ولا نجحنا! كانت الملائكة تنزل عليه تسليه وتثبته، أي حرج في ذلك إذا نزلت الملائكة على إنسان، وهل صار نبينا؟! لا. فلا يلزم من نزول الملائكة على مريم وعلى أم موسى أن يحصل لهما النبوة بذلك النزول.

ولذلك قيل لـابن حزم : لو أردت أن تستدل بهذه الآية على نبوة مريم وأم موسى بحصول الإيحاء لهن، فينبغي أن تقول: إن النحل أنبياء؛ لأن الله يقول: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68] ، وهل تقول بنبوة النحل؟! قطعاً لا، فلا يلزم من الإيحاء حصول النبوة لمن أوحى إليه، إنما عندما يوحى إليه بتكليفه بالنبوة، بتبليغ دعوة الله، عند ذلك تحصل له مرتبة النبوة.

إذاً: إخوتي الكرام! وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] ، الرسل من جنس بني آدم، وهذا خاص بالذكور، فليس في النساء نبية، وليس في الجن أنبياء، إنما هذا في بني آدم من البشر من الذكور، وعندما قال الله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فالرسول: هو رجل من البشر حر ذكر بالغ عاقل أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه، وأما أن يقال: الرسول هو العقل، فهذا كما قلت وضع لكلام الله في غير مواضعه.

وهذا الفهم لا يفهمه نساء البادية، فكيف استنبطه عقول المعتزلة؟ لا أعلم، يعني: لو قلت للنساء: ما معنى الرسول؟ تقول: الرسول يا ولدي هو من البشر الذي كلفه الله بتبليغ الدعوة، والمعتزلة يقولون: الرسول هو العقل البشري، فهذا تلاعب -كما قلت- ووضع لكلام الله في غير موضعه.

إذاً: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] الدلالة الأولى: لا تعذيب إلا بعد إرسال الرسل، وقطع العذر، وإقامة الحجة على أتم وجه.

الدلالة الثانية على اشتراط بلوغ الدعوة وقيام الحجة للتكليف بالتوحيد

الدلالة الثانية: يخبرنا الله فيها أنه ما عاقب أمة من الأمم بسبب كفرهم وعتوهم وعدم توحيدهم إلا بعد أن أقام الحجة عليهم، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وبلغتهم الدعوة على أتم وجه، فلما أصروا على طغيانهم عُوقبوا واستُأصلوا، هذه الدلالة الثانية، يقول الله جل وعلا مشيراً إليها في سورة الشعراء، في آية مائتين وثمانية: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ [الشعراء:208-209] .

وقرية: نكرة في سياق نفي تفيد العموم، فكل قرية عُذبت لكفرها كان بعد إرسال نذير إليها: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ [الشعراء:208-209]، حصلت لهم التذكرة، والموعظة، وقيام الحجة على أتم وجه، والرسل قطعوا العذر، فعندما عاقبناهم ما ظلمناهم، بل ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن توحيد ربهم.

وقال الله جل وعلا في سورة القصص، في آية تسع وخمسين: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59].

إذاً: جاءهم الرسول، وتلا عليهم الآيات، وأقام عليهم الحجة، وبلغهم دعوة الله على أتم وجه، إذاً عندما عوقبوا بسبب ظلمهم: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59] ، هذه دلالة ثانية يقررها الله جل وعلا في كتابه.

الدلالة الثالثة على اشتراط بلوغ الدعوة وقيام الحجة للتكليف بالتوحيد

الدلالة الثالثة: يشير الله فيها إلى أنه لو عذب الكفار لعدم توحيدهم لربهم قبل إرسال الرسل إليهم لاعترضوا وقالوا: ربنا كيف عاقبتنا قبل أن تبلغنا دعوتك، وقبل أن ترسل إلينا رسولك؟ فإذا أرسلت إلينا كنا نهتدي ونؤمن ونوحد.

يقول الله جل وعلا مشيراً إلى هذا في سورة طه في آخرها، في آية أربع وثلاثين ومائة: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه:134].

وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ [طه:134] أي: قبل إرسال الرسول إليهم، وإقامة الحجة عليهم، لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا [طه:134] ، أي: هلا أرسلت إلينا رسولاً لنؤمن ونوحد، كيف عاقبتنا ولم ترسل إلينا رسولاً؟ كأن عذرهم لا يُقطع إلا بعد إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وقيام الحجة على أتم وجه، وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى * قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى [طه:134-135] .

ويقول الله جل وعلا مقرراً هذه الدلالة الثالثة أيضاً في سورة القصص في آية سبع وأربعين: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ [القصص:47-48].

تحدث الله جل وعلا عن هذه الأمة وعن أحوالها، فيقول جل وعلا: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:47]، طيب، لما جاءهم الرسول ماذا كان حالهم؟ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى [القصص:48] ، أي: هلا جاء هذا النبي بما جاء به موسى من الآيات الواضحة البارزة البينة، كانفلاق البحر وغير ذلك: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا [القصص:48] أي: أهل الكتاب، بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [القصص:48] ، كفروا بذلك: قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا [القصص:48]، يعني: هذا القرآن وما أتى به موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا [القصص:48]، وفي قراءة متواترة: (ساحران تظاهرا)، أي محمد وموسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، كل واحد ينصر الآخر ويعضده ويقويه، لكن ساحران: قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا [القصص:48] (قالوا ساحران تظاهرا) وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ [القصص:48]، إذاً: لو عوقبوا قبل إرسال الرسول إليهم لقالوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً، هذه الدلالة الثالثة.

الدلالة الرابعة على اشتراط بلوغ الدعوة وقيام الحجة للتكليف بالتوحيد

الدلالة الرابعة: أخبر الله في كتابه بأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب مبشرين ومنذرين؛ ليقطع كلام الناس، وليزيل شبههم، ولئلا يتعلل متعلل إذا عُذب لعدم توحيده بربه جل وعلا.

يقول الله جل وعلا مشيراً إلى هذا في سورة النساء، آية ثلاث وستين ومائة: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:163-165].

إذاً: هؤلاء الرسل أُرسلوا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:165] .

وقال جل وعلا مشيراً إلى هذه الدلالة في سورة الأنعام، آية خمس وخمسين ومائة: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام:155-157] .

وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ تَقُولُوا [البقرة:168-169]، أي: لئلا تقولوا: إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا [الأنعام:156]، أي: الإنجيل على النصارى، والتوراة على اليهود، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ [الأنعام:156]، أي لا نفقه ما فيهما ولا نعرف ما فيهما، فهذا بالسريانية وذلك بالعبرية، أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [الأنعام:157]، لو نزل علينا كتاب لكنا أهدى من اليهود والنصارى فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام:157] .

إذاً: أُرسل الرسل ليقعطوا كلام الناس وأعذارهم، كما دلت هذه الدلالة الرابعة.

الدلالة الخامسة على اشتراط بلوغ الدعوة وقيام الحجة للتكليف بالتوحيد

الدلالة الخامسة: بين الله فيها أن إقامة الحجة وقعت على التمام، وعلى حسب ما يرام ويريد الإنسان، فوُضحت وبُينت وجاءهم الرسول وعاينوه، وأتى عليهم بكتاب من عند الله يدرسونه ويتلونه، وفيه حجج وبينات ظاهرة على أن الله رب كل شيء ومليكه سبحانه وتعالى، فينبغي أن يُفرد بالعبادة وحده لا شريك له.

يقول الله جل وعلا مشيراً إلى هذا في سورة الزمر، في آية أربع وخمسين وما بعدها: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:53-58] انتبه، بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:59] .

إذاً: البيان وقع على أتم وجه، على التمام والكمال: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي [الزمر:59] فيوم القيامة يتمنى الكافر الإيمان، والله يقول: أنيبوا في هذه الحياة حتى لا تتمنوا الإيمان بعد الممات؛ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:56-58]، أنبيوا إلى الله لئلا تقولوا هذا، فإذا قلتموه وسيقوله كل من لم يوحد الله جل وعلا، فسيأتيه الجواب: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:59].

الدلالة السادسة على اشتراط بلوغ الدعوة وقيام الحجة للتكليف بالتوحيد

الدلالة السادسة: وهي آخر الدلالات في الآيات العشر التي تلوتها، يخبرنا الله جل وعلا عن إقرار الكفار بأنفسهم عندما يلقون في النار، أنهم يقرون أن رسل الله جاءت إليهم وبلغتهم، لكنهم أعرضوا وجحدوا.

يقول الله جل وعلا في سورة الزمر في آخرها: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:71-72] .

والآية الثانية في سورة الملك، يقول الله جل وعلا: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك:6-9]، والنتيجة؟! وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10-11] .

فكل من يُلقى في النار يقر على نفسه في دار القرار، بأن الرسل وصلوه وبلغوه، وأقاموا الحجة عليه، لكنه أعرض وجحد وكفر وألحد، فلا يلومن إلا نفسه.

ولذلك يقول إبليس في أهل النار، عندما يجتمع بهم بعد أن يلقوا في جهنم وبئس المصير: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ [إبراهيم:22]، أي: بمخلصكم ومنقذكم ومفيدكم، وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].

الدلالة الأولى: أشار إليها ربنا في سورة الإسراء، في آية خمس عشرة، أنه لا يعذب العباد إلا بعد إرسال الرسل إليهم وإقامة الحجة عليهم، يقول الله جل وعلا: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:13-15] .

فقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] أي: حتى نرسل رسولاً إلى البشر من جنسهم ليبلغهم دعوة ربهم، وليقطع عذرهم، ويزيل شبههم، والرسول هو الذي يُرسل إليهم من جنسهم، وأما ما ذهب إليه علماء الكلام من المعتزلة وأصحاب الهذيان، بأن المراد من الرسول العقل، فهذه سفاهة في الاستدلال، ووضع كلام الله في غير موضعه.

فليس المراد من الرسول العقل البشرى، وليس معنى قوله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] ، أي: حتى نوجد عقلاً في الإنسان، فعقله ينبغي أن يهدى إلى توحيد الرحمن، هذا كلام باطل، الرسول: هو الذي يرسله الله من جنس البشر: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف:109]، وما قال: عقولاً في أجناس الناس يكلفون بسببها، وسيأتينا بعد ذلك من جملة الآيات (رسلاً) بعد أن قص الله أخبار الأنبياء: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

فالرسول هو الذي يُرسل من جنسنا، وهو من خصوص البشر، ويرسل للإنس والجن، فالجن تبع والإنس أصالة، ولا يكون الرسل إلا من البشر، لقول الله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف:109] ، فهم رجال، وهم من البشر، وهم ذكور، وهذه الوظيفة -النبوة والرسالة- لا تكون في الجن، إنما فيهم نذر يبلغون عن الرسل، ولا تكون في النساء، فغاية ما في النساء الصديقات، ولا يصلن إلى درجة النبوة.

فقد شذ ابن حزم فقال: يوجد في النساء نبيات، كما يوجد في الرجال أنبياء، وبنى وهمه على قول الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42]، وبنى وهمه على قول الله جل وعلا: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7] ، وقال: هذا الإيحاء دليل على أن الوحي نزل على النساء، وهذا دليل على نبوتهن، نقول: لا يلزم من نزول الملَك على إنسان أن يكون نبياً، لا رجلاً ولا أنثى، ينبغي أن ينزل عليه بتكليفه بالنبوة والرسالة، لا ينزل عليه فقط.

وقد كانت الملائكة قبل هذه الأمة تكلم الناس عياناً وتقابلهم، وحديث الأعمى والأبرص والأقرع مشهور متواتر، وحديث الذي قتل تسعة وتسعين ثم أكمل المائة، وأنزل الله ملائكة بعد ذلك يختصمون في أمره، هذا كله كان يقع في العصر الأول والناس يشاهدونه، وقد كان جبريل يأتي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في صورة رجل والصحابة يرونه، فما حصلت لهم النبوة في رؤيته، وقد كانت الملائكة تنزل على عمران بن حصين ، وهذا ثابت صحيح، فلما اكتوى رضي الله عنه وأرضاه نفرت منه الملائكة، ولذلك كان يقول: عندما اكتوينا ما أفلحنا ولا نجحنا! كانت الملائكة تنزل عليه تسليه وتثبته، أي حرج في ذلك إذا نزلت الملائكة على إنسان، وهل صار نبينا؟! لا. فلا يلزم من نزول الملائكة على مريم وعلى أم موسى أن يحصل لهما النبوة بذلك النزول.

ولذلك قيل لـابن حزم : لو أردت أن تستدل بهذه الآية على نبوة مريم وأم موسى بحصول الإيحاء لهن، فينبغي أن تقول: إن النحل أنبياء؛ لأن الله يقول: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68] ، وهل تقول بنبوة النحل؟! قطعاً لا، فلا يلزم من الإيحاء حصول النبوة لمن أوحى إليه، إنما عندما يوحى إليه بتكليفه بالنبوة، بتبليغ دعوة الله، عند ذلك تحصل له مرتبة النبوة.

إذاً: إخوتي الكرام! وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] ، الرسل من جنس بني آدم، وهذا خاص بالذكور، فليس في النساء نبية، وليس في الجن أنبياء، إنما هذا في بني آدم من البشر من الذكور، وعندما قال الله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فالرسول: هو رجل من البشر حر ذكر بالغ عاقل أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه، وأما أن يقال: الرسول هو العقل، فهذا كما قلت وضع لكلام الله في غير مواضعه.

وهذا الفهم لا يفهمه نساء البادية، فكيف استنبطه عقول المعتزلة؟ لا أعلم، يعني: لو قلت للنساء: ما معنى الرسول؟ تقول: الرسول يا ولدي هو من البشر الذي كلفه الله بتبليغ الدعوة، والمعتزلة يقولون: الرسول هو العقل البشري، فهذا تلاعب -كما قلت- ووضع لكلام الله في غير موضعه.

إذاً: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] الدلالة الأولى: لا تعذيب إلا بعد إرسال الرسل، وقطع العذر، وإقامة الحجة على أتم وجه.

الدلالة الثانية: يخبرنا الله فيها أنه ما عاقب أمة من الأمم بسبب كفرهم وعتوهم وعدم توحيدهم إلا بعد أن أقام الحجة عليهم، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وبلغتهم الدعوة على أتم وجه، فلما أصروا على طغيانهم عُوقبوا واستُأصلوا، هذه الدلالة الثانية، يقول الله جل وعلا مشيراً إليها في سورة الشعراء، في آية مائتين وثمانية: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ [الشعراء:208-209] .

وقرية: نكرة في سياق نفي تفيد العموم، فكل قرية عُذبت لكفرها كان بعد إرسال نذير إليها: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ [الشعراء:208-209]، حصلت لهم التذكرة، والموعظة، وقيام الحجة على أتم وجه، والرسل قطعوا العذر، فعندما عاقبناهم ما ظلمناهم، بل ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن توحيد ربهم.

وقال الله جل وعلا في سورة القصص، في آية تسع وخمسين: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59].

إذاً: جاءهم الرسول، وتلا عليهم الآيات، وأقام عليهم الحجة، وبلغهم دعوة الله على أتم وجه، إذاً عندما عوقبوا بسبب ظلمهم: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59] ، هذه دلالة ثانية يقررها الله جل وعلا في كتابه.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [5] 3755 استماع
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [1] 3457 استماع
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [3] 3411 استماع
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [2] 3270 استماع
مقدمة في علم التوحيد - تعريف علم التوحيد [2] 3222 استماع
مقدمة في علم التوحيد - موضوع علم التوحيد [2] 3126 استماع
مقدمة في علم التوحيد - منزلة علم التوحيد [2] 3025 استماع
مقدمة في علم التوحيد - ثمرة علم التوحيد [1] 2684 استماع
مقدمة في علم التوحيد - الأقوال المرجوحة في مصير غير أولاد المسلمين [2] 2679 استماع
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [1] 2668 استماع