القلب السليم
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
الخطبة الأولىالحمدُ لله على إحسانه، والشُّكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه صلاةً دائمةً إلى يوم القيامة ؛ أما بعد:
فيا عباد الله، يقول الله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89] يقول السعدي رحمه الله: "والقلب السليم، معناه الذي سَلِمَ من الشِّركِ والشَّكِّ ومحبة الشر والإصرارِ على البدعة والذنوب، ويلزمُ من سلامته مما ذُكرَ اتصافُهُ بأضدادها من الإخلاص والعلم واليقين ومحبة الخيرِ وتزيينهِ في قلبه، وأن تكون إرادتُه ومحبتُه تابعةً لمحبة الله، وهواهُ تبَعًا لما جاء عن الله"[1]، وهكذا يا عباد الله فإنَّ القلب السليمَ هو الذي سلِمَ من أمراض الشُّبهات والشَّهوات، سلم من الشرك فعبدَ اللهَ وحدَهُ لا شريك له مُخلصًا له الدين، وسَلِمَ من البِدَع فسار على سُنَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وسَلِمَ من المعاصي، فصلَّى وصام وحَجَّ واعْتَمر وزكَّى وتصدَّق طاعةً لله واستجابةً لأمره، وسَلِم من الهوى والغفْلةِ، فلزِمَ ذكْر الله في كل حين، وسَلِمَ من كُلِّ خُلُقٍ دنيء وسلوكٍ وضيع، فابتعد عن الحِقْد والحسَد والخِيانة والغِيبة والنميمة وقولِ الزُّور والكذِبِ والفُجور وكُلِّ ما يُسخطُ اللهَ سبحانه وتعالى.
يقول ابن القيم رحمه الله عن القلب السليم: "...
ولا يتِمُّ له سلامته مُطْلقًا حتى يسلمَ من خمسة أشياء: من شِرْكٍ يُناقضُ التوحيد َ، وبِدْعةٍ تُخالفُ السُّنةَ، وشَهْوَةٍ تُخالِفُ الأمرَ، وغَفْلةٍ تُناقضُ الذِّكرَ، وهَوًى يُناقضُ التَّجْريدَ"[2].
عباد الله، "والقلب السليم هو الذي سَلِمَ من الشِّرْكِ والغِلِّ، والحِقدِ والحسد، والشح والكبر، وحب الدنيا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شُبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله"[3].
وصاحب القلب السليم كُلَّما فعلَ ذنبًا أسْرعَ في التوبة والاستغفار {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]، وصاحب القلب السليم لا يفتُرُ عن ذكرِ الله تعالى ولا يسْأمُ من الأنْسِ به، فذكْرُ اللهِ عندَهُ أحْلى من العسل، وأشْهى من الماء العذْب الصافي لدى العطشان في اليوم الصائف، كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزالُ لسانُك رطْبًا من ذكر الله »[4]، والقلب السليم إذا عُرضت عليه الفِتَنُ والقبائحُ والشَّهواتُ والشُّبُهاتُ نَفَرَ منها بطبْعه وأبْغَضَها ولم يلْتفتْ إليها، واستعاذَ بالله منها، واستعانَ به على حفْظِه منها ومن كُلِّ شَر، كما أنَّ حياءه يمنَعُهُ من الوُقوع في المعاصي والمخالفات، ويحْميهِ من الفِتَن بحفْظِ اللهِ تعالى له.
والقلب السليم عندما تفوتُه طاعةٌ من الطاعات أوْ وِرْدٌ من القرآن يجدُ لفواتِها ألَمًا عظيمًا، وفي الحديث: "عن عبدالله بن عمر أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَالَ: «الذي تَفُوتُهُ صَلَاةُ العَصْرِ، كَأنَّما وُتِرَ أهْلَهُ ومَالَهُ» [5].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، إنه تعالى جواد كريم، ملك بر، رؤوف رحيم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ تعالى وطاعته، ولْنَعْلمْ أنَّ المسلمَ بحاجة إلى أن يتعاهد قلبه بالإيمان والعمل الصالح، وأن من وسائل إصلاح القلوب : تلاوةَ القرآن، فهي أعظمُ دواءٍ لأمراض القلوب وأسقامِها، بشرط أن تجِدَ قلبًا يَقْبلُ الحقَّ ويرفُضُ الباطل، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]؛ أي: شفاء لما في الصدور من الشُّبَه والشُّكوك، وهو إزالة ما فيها من رجسٍ ودَنَس، ومن وسائل سلامة القلوب الدُّعاء؛ لذا على المسلم أنْ يلجأ إلى الله، ويسألَه أنْ يجعلَ قلبَه سليمًا من كُلِّ وباء، ومعافًى من كل داء، والدعاءُ بسلامة القلبِ من صفات عبادِ الرحمن؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]؛ أي: لا تجعل في قلوبنا غِلًّا وحِقْدًا وحَسَدًا للمؤمنين.
عباد الله، ومن وسائل سلامة القلوب: إفشاءُ السلام؛ ففيه سلامةٌ للقلوب، ويُقوِّي الروابطَ، ويُؤلِّفُ بين القلوب المتنافرة، وينشُرُ المَحبَّةَ، ويُذهِبُ العداوةَ والبغضاءَ بين المسلمين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»[6]، وإنَّ حُبَّ الخير للآخرين وعدمَ الرغبةِ في الانتقام منهم، وحُبَّ نجاتِهم، من علامات القلب السليم، وأسْلمُ تلك القلوب قلبُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فانْظرْ أيها المسلم إلى سلامةِ قلبِه صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يغضبْ لنفْسِه، إنما سلَّم أمْرَه لله تعالى وحده، ورغِب في نجاة من خالفوه؛ بل جعَلَ يدعو لهم، كما في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»[7].
فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على محمدٍ رسولِ الله، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا».
[1] السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 593.
[2] شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، الداء والدواء، تحقيق محمد أجمل الإصلاحي، خرج أحاديثه: زائد النشيري، إشراف: بكر بن عبدالله أبوزيد، تمويل مؤسسة الراجحي الخيرية، مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي، جدة، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، ص283.
[3] ابن القيم، الجواب الكافي (الداء والدواء)، دار المعرفة - المغرب الطبعة: الأولى، 1418هـ - 1997م ص: (84).
[4] صحيح الترمذي، رقم: 3375.
[5] صحيح البخاري صحيح البخاري ، رقم: 552.
[6] صحيح مسلم ، رقم: 54.
[7] صحيح البخاري، رقم: 3477، مسلم، رقم: 1792.
___________________________________________________________
الكاتب: محمد بن حسن أبو عقيل