مقدمة في علم التوحيد - تعريف علم التوحيد [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:102].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كثيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

معشر الإخوة الكرام! في بداية لقائنا المبارك نحمد الله أولاً على أن جمعنا على طاعته والمناصحة في دينه، ثم أعتذر إليكم ثانياً لما حصل من الانقطاع والتأخر عن المحاضرات، ولا أريد أن أعلق على ما حصل إلا بقولي: لله حكمة في كل ما يقضيه ويقدره سبحانه وتعالى، وبإمكاننا إن نتدارك ما فاتنا في المستقبل، لا سيما في الفصل الثاني إن شاء الله، وستُعرض عليكم هذه المحاضرات، فإن أعجبكم الطِحْن أمكننا أن نزيد في الطَّحن، ونسأل الله أن يتقبل منا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

ومحاضراتنا -إخوتي الكرام- ستكون في توحيد ذي الجلال والإكرام، وقد كنت ألقيت محاضرات متنوعة في عدد من الأماكن لم يكن في تلك الأماكن محاضرات عامة في توحيد الله جل وعلا، فبعض الأماكن كانت تُلقى فيها محاضرات عامة، حتى موضوعات متنوعة تُطلب منى، وفي بعض الأماكن ألقيت محاضرات في التفسير وفي حديث نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه، وقد ادَّخر الله لكم محاضرات التوحيد، فهي أول ما سألقيه في المحاضرات العامة عندكم.

وهذه المحاضرات -إخوتي الكرام- نافعة قيمة كما سترونها إن شاء الله، كيف لا وهي تتعلق بتوحيد ربنا جل وعلا، ولذلك أريد أن تتابعوني من أول المحاضرات، وأن تكتبوا ما يتيسر لكم كتابته معي، ثم إن فاتكم شيء أن تتداركوا هذا من الشريط، وإذا أمكن لبعضكم أن يترجم هذه المحاضرات أولاً فأولا لتنشر بين المسلمين والمسلمات فهذا فيه خير عظيم.

إخوتي الكرام! في بداية مدارستنا لتوحيد ربنا الرحمن يحسن بنا، بل يجب علينا أن نتدارس مقدمة لتوحيد الله عز وجل، هذه المقدمة التي سنتدارسها تقوم على أمور كثيرة، سنتدارس في هذه الليلة المباركة أربعة منها، ثم نكمل مدارستنا لهذه الأمور التي تقوم عليها المقدمة في المحاضرات الآتية إن شاء الله.

في هذه الليلة المباركة ستندارس أربعة أمور:

أولها: تعريف علم التوحيد.

ثانيها: موضوع علم التوحيد.

ثالثها: ثمرة علم التوحيد.

رابعها: فضل علم التوحيد ومنزلته.

ولنبدأ بالمبحث الأول وهو: تعريف علم التوحيد:

علم التوحيد -إخوتي الكرام- مركب إضافي كما تعلمون، فهو مركب من مضاف ومن مضاف إليه، علم: مضاف، التوحيد: مضاف إليه، (علم التوحيد)، هذا المركب الإضافي جُعل لقباً وعنواناً على علم معهود سنتدارس مباحثه إن شاء الله.

إذا أردنا أن نعرف المركب الإضافي بعد صيرورته لقباً على علم معين، يحسن بنا أن نعرف المركب الإضافي قبل التركيب، ثم ننتقل إلى بيان معناه بعد التركيب، فلْنعرف إذاً المركب الإضافي باعتبار جزأيه ومفرديه قبل التركيب، وما معنى كل لفظة من هاتين اللفظتين: لفظة (العلم)، ولفظة (التوحيد)، ثم ننتقل بعد ذلك إلى بيان معنى هذه اللفظة بعد أن صارت علماً على علم معهود مقرر.

وإذا أردنا أن نعرف المركب الإضافي فلأئمتنا الكرام قولان في تعريف المركب الإضافي، هل نبدأ بالمضاف أو بالمضاف إليه، والذي يظهر للعبد الضعيف: أن البدء بتعريف المضاف إليه أولى من البدء بتعريف المضاف، وسبب ذلك أن المضاف لا يتحدد معناه ولا تظهر دِلالته إلا بواسطة المضاف إليه، فعندما تقول: علم التوحيد، أضفت العلم إلى التوحيد فصار للعلم دلالة معينة: علم الحديث، علم الفقه، غلام زيد، أما لفظ غلام لمن؟ هذه لا يتحدد معناها إلا بالإضافة، ولذلك من باب الأدب العلمي إذا أردت أن تعرف المركب الإضافي فابدأ بالمضاف إليه، والمضاف إليه هنا هو كلمة (التوحيد).

تعريف المضاف إليه (التوحيد)

التوحيد -إخوتي الكرام- مصدر وحَّد يوحِّد توحيداً، معناه في اللغة: العلم بأن الشيء واحد.

ومعناه في الاصطلاح: توحيد الله. وتوحيد الله ما معناه؟

توحيد الله: هو إفراد الله بالعبادة حسبما أمرنا ربنا جل وعلا وطلب منا، مع الجزم بانفراده في ذاته وصفاته وأفعاله، فلا شبيه له ولا مثيل، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] .

المراد من توحيد الله أن تعبد الله وحده لا شريك له، وهذه العبادة حسبما شرع وبيَّن وأحب على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم هذا الإله الذي عبدته وهو الله لا إله غيره ولا رب سواه، تجزم بانفراده في ذاته، فهو أحد، وفي صفاته، وفي أفعاله، فلا نظير له ولا مثيل في شيء من ذلك، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] والمِثلية منتفية عن ربنا جل وعلا في ذاته وصفاته وأفعاله، فليست ذاته كذواتنا، ولا أفعاله كأفعالنا، ولا صفاته كصفاتنا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

وهذا التعريف للتوحيد هو الذي ذهب إليه الإمام الحجة الثقة أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي ، الذي توفي سنة (535هـ)، فهو من علماء القرن السادس للهجرة، وكان يلقب بقِوام السنة.

وهذا التعريف نقله عنه ختام المحدثين شيخ الإسلام الإمام ابن حجر في فتح الباري (13/344) أن التوحيد هو: إفراد الله بالعبادة حسبما شرع الله وأحب، مع الجزم بانفراده في ذاته وصفاته وأفعاله، فلا نظير له ولا مثيل، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

وهذا الإمام المبارك الذي يلقب بقوام السنة أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي انظروا ترجمته العطرة المباركة في البداية والنهاية (12/217).

والبداية والنهاية -إخوتي الكرام- للإمام ابن كثير كما لا يخفي عليكم، الذي توفي في غالب ظني سنة (774هـ) أو سنة (771هـ)، وألف البداية والنهاية على حسب السنين سنة كذا سنة كذا، فانظر لحوادث سنة (535هـ) التي توفي فيها هذا الإمام المبارك، وانظروا ترجمته في كتاب العلو للعلي الغفار للإمام الذهبي وهو كتاب نفيس جداً، انظروا ترجمة الإمام أبي القاسم التيمي في هذا الكتاب (ص:192).

ومن كراماته ولا أريد أن أزيد على هذه الكرامة شيئاً في ترجمته، أنه بعد وفاته رحمة الله عليه وعلى جميع المسلمين والمسلمات، أراد الغاسل أن ينزع ثيابه ليغسل تحت إزاره -أي مكان العورة- فقبض أبو القاسم على يد الغاسل، فقال الغاسل: سبحان الله أحياة بعد الموت؟! فضحك أبو القاسم ؛ نعم حياة بعد الموت! والله يكرم الصالحين بما شاء، وكيف ستنزع عن هذا الميت إزاره، ولا يجوز للإنسان أن يرى عورة حي ولا ميت، كيف ستنزع إزاره؟ وإذا كان ميتاً فلا يحل لك أن تنظر إلى عورته، فلما أراد الغاسل أن ينزع الإزار قبض على يده، كأنه يقول له: قف عند حدك، والتزم بأدب الشرع، فلا يحل لك أن تجردني، إنما عندما يغسل الميت يطرح عليه خرقة ويصب عليه الماء ويوضع عليه الإزار من السرة إلى الركبة بحيث لا يبدو شيء من ذلك للغاسل، ولا يجوز أن نطلع على عورة الميت كما لا يجوز أن نطلع على عورة الحي، وما يؤذي الحي يؤذي الميت.

ولذلك: (كسر عظم الميت ككسر عظم الحي)، كلاهما في التحريم سواء، وهذا إن كان فقد الحياة التي نحيا بها، فهو في حياة خاصة وهي حياة البرزخ، له شعور وإدراك وإحساس يتناسب به وبالحالة والدار التي هو فيها، فلا تعتد عليه.

إذاً: هذا هو تعريف الإمام أبي القاسم التيمي عليه رحمة الله للتوحيد.

إذاً: التوحيد باختصار: وحد يوحد توحيداً، وهو: العلم بأن الشيء واحد لا ثاني له.

وأما التوحيد في الاصطلاح: فهو إفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له، عن طريق ما أمر حسبما أمر وأحب، مع الجزم بانفراده في ذاته وصفاته وأفعاله، فلا نظير له ولا مثيل ولا شبيه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، هذا فيما يتعلق بالمضاف إليه.

تعريف المضاف (علم)

وأما المضاف وهو علم، كلمة العلم -إخوتي الكرام- تأتي في اللغة العربية بمعنيين اثنين، كل منهما حق مقبول، وبكل منهما ورد كلام العزيز الغفور في القرآن الكريم.

يأتي العلم بمعنى: غلبة الظن، ومنه قول الله جل وعلا في سورة الممتحنة: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة:10]، (أعلم) هنا: علماً قطعياً أو ظنياً؟ قطعياً قطعاً وجزماً؛ لأن الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو بكل شيء عليم سبحانه وتعالى، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ [الممتحنة:10] (علمتموهن) ليست كـ(الله أعلم بإيمانهن)؟ شتان بينهما، (علمتموهن) أي: غلب على ظنكم إيمانهن.

لماذا قلتم العلم هناك علم قطعي لا خفاء فيه، وهنا علم ظني؟

نقول: ما في القلوب لا يعلمه إلا علام الغيوب، والركن الركين في الإيمان محله القلب، الإيمان كما اتفق على ذلك سلفنا الكرام: تصديق بالجنان -وهو القلب- وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، الركن الركين من هذه الأمور الثلاثة هو الاعتقاد القلبي، ولذلك لو قال بلسانه ما ليس في قلبه فهو منافق النفاق الأكبر: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، فالركن الركين في الإيمان محله القلب، وما في القلب هل نعلمه أم لا يعلمه إلا من لا تخفي عليه خافية؟ لا يعلم من في القلب إلا الرب؛ لأنه هو الذي يعلم السر وأخفى.

والسر وهو: ما تسره في نفسك، وهل يوجد شيء أخفى من السر؟ قال بعض الإخوة: لا يوجد. قلت: بل يوجد؛ لأن الله يقول: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7] ما هو السر؟

السر ما تضمره في قلبك، تعلمه أنت وأنا لا أعلمه، وأما ما هو أخفى منه فهو ما لا تعلمه أنت ولا أنا، كيف؟ ما ستسره بعد شهر لا تعلمه، لكن يعلمه الله، ما في الغيب لا تعلمه لا أنت ولا أنا، أنت ماذا ستفعل غداً؟ لا تعلم، لكن الله يعلم السر وأخفى، فما في القلب لا يطلع عليه إلا الرب، فقول الله: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة:10] علماً حقيقياً تاماً من جميع الوجوه، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ [الممتحنة:10] أي: غلب على ظنكم إيمانهن فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10].

التوحيد -إخوتي الكرام- مصدر وحَّد يوحِّد توحيداً، معناه في اللغة: العلم بأن الشيء واحد.

ومعناه في الاصطلاح: توحيد الله. وتوحيد الله ما معناه؟

توحيد الله: هو إفراد الله بالعبادة حسبما أمرنا ربنا جل وعلا وطلب منا، مع الجزم بانفراده في ذاته وصفاته وأفعاله، فلا شبيه له ولا مثيل، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] .

المراد من توحيد الله أن تعبد الله وحده لا شريك له، وهذه العبادة حسبما شرع وبيَّن وأحب على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم هذا الإله الذي عبدته وهو الله لا إله غيره ولا رب سواه، تجزم بانفراده في ذاته، فهو أحد، وفي صفاته، وفي أفعاله، فلا نظير له ولا مثيل في شيء من ذلك، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] والمِثلية منتفية عن ربنا جل وعلا في ذاته وصفاته وأفعاله، فليست ذاته كذواتنا، ولا أفعاله كأفعالنا، ولا صفاته كصفاتنا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

وهذا التعريف للتوحيد هو الذي ذهب إليه الإمام الحجة الثقة أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي ، الذي توفي سنة (535هـ)، فهو من علماء القرن السادس للهجرة، وكان يلقب بقِوام السنة.

وهذا التعريف نقله عنه ختام المحدثين شيخ الإسلام الإمام ابن حجر في فتح الباري (13/344) أن التوحيد هو: إفراد الله بالعبادة حسبما شرع الله وأحب، مع الجزم بانفراده في ذاته وصفاته وأفعاله، فلا نظير له ولا مثيل، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

وهذا الإمام المبارك الذي يلقب بقوام السنة أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي انظروا ترجمته العطرة المباركة في البداية والنهاية (12/217).

والبداية والنهاية -إخوتي الكرام- للإمام ابن كثير كما لا يخفي عليكم، الذي توفي في غالب ظني سنة (774هـ) أو سنة (771هـ)، وألف البداية والنهاية على حسب السنين سنة كذا سنة كذا، فانظر لحوادث سنة (535هـ) التي توفي فيها هذا الإمام المبارك، وانظروا ترجمته في كتاب العلو للعلي الغفار للإمام الذهبي وهو كتاب نفيس جداً، انظروا ترجمة الإمام أبي القاسم التيمي في هذا الكتاب (ص:192).

ومن كراماته ولا أريد أن أزيد على هذه الكرامة شيئاً في ترجمته، أنه بعد وفاته رحمة الله عليه وعلى جميع المسلمين والمسلمات، أراد الغاسل أن ينزع ثيابه ليغسل تحت إزاره -أي مكان العورة- فقبض أبو القاسم على يد الغاسل، فقال الغاسل: سبحان الله أحياة بعد الموت؟! فضحك أبو القاسم ؛ نعم حياة بعد الموت! والله يكرم الصالحين بما شاء، وكيف ستنزع عن هذا الميت إزاره، ولا يجوز للإنسان أن يرى عورة حي ولا ميت، كيف ستنزع إزاره؟ وإذا كان ميتاً فلا يحل لك أن تنظر إلى عورته، فلما أراد الغاسل أن ينزع الإزار قبض على يده، كأنه يقول له: قف عند حدك، والتزم بأدب الشرع، فلا يحل لك أن تجردني، إنما عندما يغسل الميت يطرح عليه خرقة ويصب عليه الماء ويوضع عليه الإزار من السرة إلى الركبة بحيث لا يبدو شيء من ذلك للغاسل، ولا يجوز أن نطلع على عورة الميت كما لا يجوز أن نطلع على عورة الحي، وما يؤذي الحي يؤذي الميت.

ولذلك: (كسر عظم الميت ككسر عظم الحي)، كلاهما في التحريم سواء، وهذا إن كان فقد الحياة التي نحيا بها، فهو في حياة خاصة وهي حياة البرزخ، له شعور وإدراك وإحساس يتناسب به وبالحالة والدار التي هو فيها، فلا تعتد عليه.

إذاً: هذا هو تعريف الإمام أبي القاسم التيمي عليه رحمة الله للتوحيد.

إذاً: التوحيد باختصار: وحد يوحد توحيداً، وهو: العلم بأن الشيء واحد لا ثاني له.

وأما التوحيد في الاصطلاح: فهو إفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له، عن طريق ما أمر حسبما أمر وأحب، مع الجزم بانفراده في ذاته وصفاته وأفعاله، فلا نظير له ولا مثيل ولا شبيه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، هذا فيما يتعلق بالمضاف إليه.

وأما المضاف وهو علم، كلمة العلم -إخوتي الكرام- تأتي في اللغة العربية بمعنيين اثنين، كل منهما حق مقبول، وبكل منهما ورد كلام العزيز الغفور في القرآن الكريم.

يأتي العلم بمعنى: غلبة الظن، ومنه قول الله جل وعلا في سورة الممتحنة: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة:10]، (أعلم) هنا: علماً قطعياً أو ظنياً؟ قطعياً قطعاً وجزماً؛ لأن الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو بكل شيء عليم سبحانه وتعالى، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ [الممتحنة:10] (علمتموهن) ليست كـ(الله أعلم بإيمانهن)؟ شتان بينهما، (علمتموهن) أي: غلب على ظنكم إيمانهن.

لماذا قلتم العلم هناك علم قطعي لا خفاء فيه، وهنا علم ظني؟

نقول: ما في القلوب لا يعلمه إلا علام الغيوب، والركن الركين في الإيمان محله القلب، الإيمان كما اتفق على ذلك سلفنا الكرام: تصديق بالجنان -وهو القلب- وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، الركن الركين من هذه الأمور الثلاثة هو الاعتقاد القلبي، ولذلك لو قال بلسانه ما ليس في قلبه فهو منافق النفاق الأكبر: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، فالركن الركين في الإيمان محله القلب، وما في القلب هل نعلمه أم لا يعلمه إلا من لا تخفي عليه خافية؟ لا يعلم من في القلب إلا الرب؛ لأنه هو الذي يعلم السر وأخفى.

والسر وهو: ما تسره في نفسك، وهل يوجد شيء أخفى من السر؟ قال بعض الإخوة: لا يوجد. قلت: بل يوجد؛ لأن الله يقول: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7] ما هو السر؟

السر ما تضمره في قلبك، تعلمه أنت وأنا لا أعلمه، وأما ما هو أخفى منه فهو ما لا تعلمه أنت ولا أنا، كيف؟ ما ستسره بعد شهر لا تعلمه، لكن يعلمه الله، ما في الغيب لا تعلمه لا أنت ولا أنا، أنت ماذا ستفعل غداً؟ لا تعلم، لكن الله يعلم السر وأخفى، فما في القلب لا يطلع عليه إلا الرب، فقول الله: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة:10] علماً حقيقياً تاماً من جميع الوجوه، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ [الممتحنة:10] أي: غلب على ظنكم إيمانهن فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10].

وهذه الآية -إخوتي الكرام- نزلت بعد صلح الحديبية كما لا يخفي عليكم؛ لأنه في صلح الحديبية تم الاتفاق بين نبينا عليه الصلاة والسلام وبين المشركين اللئام على شروط قاسية في حق أهل الإسلام، ومن جملة تلك الشروط:

أن من جاء إلى المسلمين من المشركين يرد إلى مكة ولا يقبله النبي عليه الصلاة والسلام، ومن جاء من المسلمين إلى المشركين مرتداً لا يردونه إلى المدينة، أي إلى الدولة الإسلامية، وقبل النبي عليه الصلاة والسلام بهذا، مع شروط أخرى قاسية من جملتها أن يرجع في ذلك العام، وألا يدخل مكة لا هو ولا أصحابه، على أن يدخلوها في العام الذي بعده، وكان صلح الحديبية في العام السادس، أي: على أن يدخلوها في العام السابع وهي عمرة القضاء، ويدخلونها بشرط ألا كون معهم سلاح إلا في قِرابه، ما تكون أسلحتهم أيضاً مشهورة، هكذا فرض المشركون هذه الشروط وقبل النبي عليه الصلاة والسلام هذه الشروط.

وهذه هي السياسة الشرعية، وهي أن من ارتد من المسلمين لا خير فيه، وعلامَ نحرص على بقائه عندنا؟ ومن جاءنا من المشركين مؤمناً كيف نعيده؟ نقول: نعيده لأن الإيمان في قلبه، ثم هو عندما يبقى هناك يقارع المشركين، وإذا أُوذي وقُتل ففي سبيل رب العالمين، إذا آمن الإنسان وقُتل من أجل إيمانه خسر أو ربح؟ ربح، إذاً: لا حرج، من آمن فيجعل الله له مخرجاً، وإن قُتل ففي الجنة، ومن ارتد منا فلا خير فيه.

وهذه الموقعة -إخوتي الكرام- والشروط القاسية في الظاهر على أهل الإسلام، قبلها نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه ترتب عليها فتح مكة، ولذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية فتحاً لمكة، وهذا الذي حصل.

ولما تأثر بعض المسلمين وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عن الصحابة أجمعين من هذه الشروط، وذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله ألسنا على الحق؟ قال بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: وعلام نعطي الدنية في ديننا)؟ لماذا نرضى بهذه الشروط المذلة لنا -في الظاهر- فماذا كان جواب النبي عليه الصلاة والسلام؟ (يا عمر ! إني رسول الله ولن يضيعني الله)، أنا لا أتصرف إلا على حسب توجيه الوحي، وأنا رسول الله ولن يضيعني، لا يعلم ما في الغيب إلا الله، أما أنت فلا تعلم إلا هذه الساعة.

ماذا سيترتب على هذه الشروط؟ لا تعلم؛ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27] هذه نزلت في صلح الحديبية، وقال النبي عليه الصلاة والسلام عن الصلح: (إنه فتح)، أي هذا فتح يترتب عليه الفتح، وبعد سنتين دخل مكة ظافراً مظفراً في العام الثامن للهجرة، على نبينا صلوات الله وسلامه.

فذهب عمر لعله يرى من يوافقه على رأيه لأجل أن يثني النبي عليه الصلاة والسلام عن عزمه، فذهب إلى صاحبه وخليله أبي بكر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، وقال: (يا أبا بكر ألسنا على الحق؟ قال: بلى، أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: علام نعطي الدنية في ديننا)؟ فماذا كان جواب أبي بكر ؟ صورة طبق الأصل لجواب النبي عليه الصلاة والسلام لكن يختلف الناطق، هناك رسول الله وهنا أبو بكر ، فقال: (يا عمر ! إنه رسول الله ولن يضيعه الله)، أنت كيف تقول هذا الكلام! أما تعلم أن هذا رسول الله؟ هذا ليس أبا بكر وعمر وعثمان وعلي حتى نقترح عليه ونقول له: أعرض عما فعلت، هذا رسول الله ولن يضيعه الله!

إخوتي الكرام! من تأمل تصرفات أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، يراها كتصرفات النبي عليه الصلاة والسلام صورة طبق الأصل تماماً لا يختلفان إلا في شيء واحد، ذاك ينزل عليه جبريل وهو رسول الله، وهذا لم ينل تلك الرتبة، وأما ما عدا هذا فأقرب الخلق والخليقة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام هو أبو بكر في الحياة وفي الممات وفي نعيم الجنات.

ولذلك كان أئمتنا يقولون: منزلة أبي بكر من النبي حياً كمنزلته منه ميتاً، من أقرب الناس لنبينا عليه الصلاة والسلام في حال موته ودفنه أبو بكر ، ورأس أبي بكر عند صدر النبي عليه الصلاة والسلام، ورأس عمر عن صدر أبي بكر ، فهو متأخر، إنما هذا النبي عليه الصلاة والسلام وراءه أبو بكر بحيث رأسه بجوار صدره، ثم رأس عمر بجوار صدر أبي بكر ، أي: هو قرابة فَخَذي نبينا عليه الصلاة والسلام، فأقرب الناس من نبينا عليه الصلاة والسلام في الحياة وفي الممات وفي نعيم الجنات أبو بكر رضي الله عنه، وما طلعت الشمس ولا غربت على رجل أفضل من أبي بكر بعد النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.

ولذلك كان بعض شيوخنا الكرام يقول: من رحمة الله بالصحابة الكرام أن جعل الله عليهم خليفة بعد النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر ، ولو صار غيره من الصحابة الكرام لربما فقد كثير من الناس عقولهم من شدة وقع الكرب عليهم؛ لأنهم في حياة أبي بكر رضي الله عنه فقدوا شخص النبي عليه الصلاة والسلام فقط ولم يفقدوا لطفه ومعاملته ورحمته، التصرفات هي هي، لكن الذي يتصرف الآن صديق وليس بنبي، فالذي غاب عنهم شخص النبي، أما فعله فما غاب، لكن من عدا أبا بكر رضي الله عنه يوجد فيه شيء من الاختلاف، لا أقول هذا تحقيراً لشخصية أخرى غير أبي بكر ، فكل الصحابة على العين والرأس، لكن شتان بين من هو فيه جمال أو جلال أو كمال.

ولذلك يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: إن نبي الله عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام مظهر للجمال الإلهي، وإن نبي الله موسى مظهر للجلال الإلهي، وإن نبي الله محمداً عليه الصلاة والسلام مظهر للكمال الإلهي، والكمال هو ما جمع الجلال والجمال، وهو الضحوك القتَّال عليه صلوات الله وسلامه، ويضع كل شيء في موضعه، جمال وجلال، هذا هو الكمال.

نعم، أبو بكر مظهر للكمال، كحال نبينا عليه الصلاة والسلام، أما عمر فحقيقة هو مظهر للجلال والقهر والشدة في الحق، فحاله يشبه حال نبي الله نوح وحال نبي الله موسى على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، والكمال أعلى من الجلال، وأعلى من الجمال، لأنه يجمع الجلال والجمال ويضع كل واحد منهما في موضعه، هذا من باب التعليق الطريف -إخوتي الكرام- على هذه الحادثة الجليلة.

إذاً: هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، بعد أن وُقِّع على هذه الشروط واتُفق عليها جاء بعض المسلمات مهاجرات من مكة إلى المدينة، نحن لم نتفق على النساء إنما اتفقنا على الرجال، إذا جاءنا مسلم نعيده إليكم، وإذا جاءكم منا مرتد لا تعيدونه إلينا، أما النساء فوضعهن يختلف.

انتبهوا -إخوتي الكرام- عندنا المرأة تختلف عن الرجل، المرأة عندنا عرض يصان، وسمعة غالية، وهي أنفس شيء في هذه الحياة، كما قال خير البريات عليه الصلاة والسلام: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)، والحديث في صحيح مسلم وغيره.

إذاً: هذه هي أنفس شيء في الدنيا وعرض يصان، والمؤمن الغيور يبذل ماله ودمه في المحافظة على عرضه، فهل يجوز أن نسوي المرأة بالرجل في هذا؟ لا، ولذلك لا يجوز للمرأة أن تسافر من غير محرم، فلما هاجر النساء إلى المدينة من مكة جاء المشركون يطالبون بإعادتهن، فأنزل الله حكماً في شأنهن، لأنهن ما اتُفق عليهن في صلح الحديبية.

إذاً: الله يقضي في شأنهن، هو ربنا ورب الخليقة جميعاً، هو رب الموحدين والمشركين، رضوا أم أبوا، فلنقبل بحكم الله في هذه القضية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة:10]، فنستحلفها بالله ونختبرها ونسألها أنها ما هاجرت بغضاً لزوج، ولا كراهية لأرض، ولا رغبة في مال، إنما هاجرت من أجل الله ورسوله، فإذا قالت: نعم، لا أبغض زوجي ولا أريد غيره، وما كرهت أرضي، ولا أطلب عرض الدنيا، فنحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.

فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ أي: بعد هذا الاختبار: لم هاجرت؟ لله ولرسوله، أتكرهين زوجك؟ تقول: لا، وليته آمن لأبقى زوجة له، أتكرهين أرضك؟ تقول: لا، ليتها صارت بلاد إسلام لأستوطن فيها، أتريدين عرض الدنيا؟ تقول: تركت مالي ولا أريد إلا الله ورسوله، فنقول: لنا الظاهر والله يتولى السرائر فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ أي غلب على ظنكم إيمانهن، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ.

إخوتي الكرام! وتفسير العلم هنا فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ بأن المراد منه غلبة الظن، هو الذي اتفق عليه أئمتنا المفسرون، ولا خلاف بينهم في ذلك.

يقول الإمام النسفي في مدارك التنزيل: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ أي: العلم الذي تبلغه طاقتكم، والعلم الذي تبلغه طاقتي وقدرتي ووسعي نحو ما في قلبك، وهو علم ظني.

ثم علق الإمام النسفي على ما يستفاد من هذه الآية فقال: وفي تسمية الظن علماً إشارة إلى أن الظن وما يقضي إليه القياس جارٍ مجرى العلم، فالقياس عندما نقيس نظيراً على نظير، أي عندما نقيس ما لم يُنَص عليه على ما نُص عليه، فهو ظني وليس بقطعي، لكن هذا القياس يجري مجرى العلم.

إخوتي الكرام! الظن يطلق على معنيين:

ظن يساوي العلم، وهو غلبة الظن الذي يُبنى على أمارات ودِلالة.

وظن يساوي الوهم، وهو الذي يبنى على تخيلات وافتراضات، ولذلك يقول الله: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النجم:27-28]، الظن هنا الوهم، ما الذي يدريك أن الملائكة إناث أشهدوا خلقهم؟ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19]، والقراءة الثانية المتواترة: (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون)، من أين لك؟ الملائكة من عالم المشاهد أو من عالم الغيب؟ عالم الغيب، وعالم الغيب لا لك أنت سبيل إلى إدراكه.

إذاً: ما تقوله في عالم الغيب محض تخرص ووهم وافتراض باطل، فهنا ظن يساوي الوهم، وهنا ظن يساوي العلم فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ ، أي: علماً تبلغه طاقتكم، بُني على اعتبارات ودلالات وأمارات، فهذا علم وغلبة ظن، وما يقضي به القياس، ويؤدي إليه القياس يسمى علماً، وإن كان ما فيه من العلم هو من باب غلبة الظن.

إذاً: يأتي العلم بمعنى غلبة الظن، وغلبة الظن -كما يقول أئمتنا الأتقياء العلماء الفقهاء- كافية في الأحكام العملية، وأكثر الأحكام العملية أدلتها ظنية، صلاتنا الآن إلى جهة القبلة ظنية، ولو كنا في صحراء واشتبهت علينا القبلة ونحن أربعة، وكل واحد رأى جهة وقال هي القبلة، فهذا قطعي أم ظني؟ ظني، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن لابد من أمارة ودلالة وبينة تحدد بها هذا الأمر، فهذا يعتبر ظناً بُني على دليل، فهو معتبر عند ربنا الجليل.

عندما يقضي القاضي بقطع يد السارق بشاهدة اثنين هذا ظن أو قطع؟ ظن قطعاً، لأنه يمكن أن يتواطأ شاهدان على الكذب، فخبر الاثنين يفيد غلبة الظن ولا يفيد القطع إلا جمع كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وأما اثنان فما أيسر أن يتواطئا على الكذب، نعم، القاضي يتحرى فإن كان الشاهدان عدلين في الظاهر حكم بقطع يد السارق، وكل واحد يلقى جزاءه في الآخرة.

إذاً: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ علماً تبلغه طاقتكم وهو غلبة الظن.

والمعنى الثاني للعلم: يأتي بمعنى الاعتقاد الجازم، وليس بمعنى غلبة الظن، بل قطع (100%)، ولا تشك في ذلك، ومنه قول الله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، ما المراد بالعلم هنا: غلبة الظن أو العلم القطعي؟ العلم القطعي قطعاً.

ولو قال: الله موجود ومعبود، وهذه القضية سليمة (99%)، لكن واحد في المائة أشك، لعله خرافة أو لعله لا يستحق العبادة، هل يقبل اعتقاده؟ لا يقبل، أمور الاعتقاد لابد لها من قطع، ولذلك قال الله في كتابه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146].

قال عبد الله بن سلام شيخ اليهود اللئام، كان من شيوخهم لكنه تبرأ منهم، وهداه الله إلى الهدى والحق، و(من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشى على الأرض فلينظر إلى عبد الله بن سلام ).

وقصة إسلامه -إخوتي الكرام- ثابتة في صحيح البخاري وغيره، عندما قال للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن اليهود قوم بُهت)، والبهت: أنهم يكذبون الرجل في وجهه، يعني: يقولون لك كذا، ثم إذا حضر هذا يقول: أنا ما قلت، تقول: يا عبد الله أنت قلت لي هذا، يقول: أبداً ما قلت لك شيئاً، هذا هو البهت، أن يكذبك في وجهك بعد أن يقر على نفسه بأمر، ولذلك ذكر الله جل وعلا عن الذين قذفوا أمنا عائشة رضي الله عنها بأن ما أتوا به بهتان وإفك مبين.

قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن اليهود قوم بهت، وإذا علموا بإسلامي غمصوني، أي حقروني ووضعوا من شأني، فأريد أن تسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله بن سلام في زاوية من البيت، وبينه وبين اليهود حاجزاً، ثم سأل اليهود عنه؟ فقالوا: حبرنا وإمامنا وعالمنا وابن عالمنا وسيدنا وابن سيدنا، قال: ما تقولون إن أسلم؟ قالوا: نعيذه بالله من ذلك، فخرج عبد الله بن سلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقالوا: يا رسول الله! هذا أكذبنا وابن أكذبنا -في مجلس واحد-.

عبد الله بن سلام لما نزلت الآية: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، قال: والله أنا لنعلم أن محمداً رسول الله أكثر مما نعرف أبناءنا، قيل له: كيف؟ قال: هذا رسول الله حقاً، يعني: لا يوجد مجال للشك، ولا للاشتباه، ولا للشبهة، فهو أمر قطعي يقيني، وأما أولادنا فلا ندري ماذا صنعت النساء، يعني: هذا ولدي، أما يوجد هناك احتمال ولا أقول واحد بالمائة، بل واحد من مليون، أما يوجد احتمال أن الزوجة خانت؟ يوجد، ولا نبني على هذه الاحتمالات أحكاماً، لكن يوجد، فهل علمي بأن محمداً رسول الله كعلمي بأن هذا الولد من صلبي؟ قطعاً لا.

هناك علم يقيني لا يعتريه شك، وأما هنا فعلم يقيني -انتبه- يمكن أن يتطرق إليه شك، يوجد مجال للاحتمال، أما هنا فلا مجال للاحتمال قطعاً، هذا رسول الله حقاً لا يوجد مجال للشبهة فيه، رضي الله عن عبد الله بن رواحة عندما يقول:

لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تنبيك بالخبر

وهذا أحسن ما قيل في مدح نبينا عليه الصلاة والسلام، يقول: لو لم تكن فيه آيات مبينة على أنه رسول الله حقاً وصدقاً، لهذا القرآن الذي أتى به، وللمعجزات التي أيده الله بها، وللأمور الكثيرة التي فيه، كانت بديهته تنبيك بالخبر، أي: البديهة فقط تدلك على أنه رسول الله، ما هي البديهة؟ رؤية وجهه، فبمجرد ما ترى وجه نبينا عليه الصلاة والسلام تقول: هذا وجه نبي وليس هذا بوجه دَعِي، وليس بوجه كذاب مفتر.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [5] 3762 استماع
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [1] 3464 استماع
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [3] 3417 استماع
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [2] 3275 استماع
مقدمة في علم التوحيد - تعريف علم التوحيد [2] 3228 استماع
مقدمة في علم التوحيد - موضوع علم التوحيد [2] 3133 استماع
مقدمة في علم التوحيد - منزلة علم التوحيد [2] 3030 استماع
مقدمة في علم التوحيد - ثمرة علم التوحيد [1] 2689 استماع
مقدمة في علم التوحيد - الأقوال المرجوحة في مصير غير أولاد المسلمين [2] 2684 استماع
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [1] 2673 استماع