خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [98]
الحلقة مفرغة
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (.. ونرى الجماعة حقاً وصواباً والفرقة زيغاً وعذاباً ..):
قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعَاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]
وقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118-119]، فجعل أهل الرحمة مستثنَين من الاختلاف.
وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176].
وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابَين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني: الأهواء- كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة. وفي رواية: قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)، فبين أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة، وأن الاختلاف واقع لا محالة.
وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاة الشاردة القاصية، فإياكم والشعاب! وعليكم بالجماعة، والعامة، والمسجد).
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما نزل قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابَاً مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام:65] قال: (أعوذ بوجهك! أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام:65] قال: أعوذ بوجهك! أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعَاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65] قال: هذه أهون)، فدل على أنه لا بد أن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض، مع براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الحال، وهم فيها في جاهلية.
ولهذا قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية.
وقد روى مالك بإسناده الثابت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: (ترك الناس العمل بهذه الآية) يعني: قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم كما أمر الله تعالى، فلما لم يُعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية.
وهكذا مسائل النزاع التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع -إذا لم ترد إلى الله والرسول- لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم الله أقر بعضهم بعضاً، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد، فيقر بعضهم بعضاً، ولا يعتدي ولا يُعتدى عليه، وإن لم يُرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله، والذين امتَحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء، ابتدعوا بدعة، وكفَّروا مَن خالفهم فيها، واستحلوا منعَ حقه وعقوبتَه..].
هذا الكلام يتعلق بوقوع الاختلاف في هذه الأمة كما وقع في الأمم السابقة، ويجب على الأمة -أمة الإجابة والدعوة الاجتماع والائتلاف، يقول: إن الواجب على المسلمين جميعاً أن يأتلفوا ولا يختلفوا، وأن يكونوا إخوة كما سماهم الله تعالى.
الجماعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين
ولما جاء الإسلام زال ذلك الاختلاف، وزالت تلك الفرقة، واجتمعوا على الإسلام، فذكَّرهم الله تعالى بذلك في قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعَاً [آل عمران:103] أي: تمسكوا بحبل الله الذي هو دين الإسلام.
وَلا تَفَرَّقُوا أي: لا تكونوا فرقاً وأحزاباً.
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَاً [آل عمران:103]: فجعلهم إخوة وهو حق، فإنهم بعد أن دخلوا في الإسلام أصبحوا مثل الإخوة متحابين، وهكذا أصبحوا يحبون كل مؤمن، لما جاءهم المهاجرون صاروا يحبونهم كما يحبون إخوانهم أولاد آبائهم وأمهاتهم، كما ذكر الله ذلك بقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9] يحبون المهاجرين، بل يقدمون محبتهم على محبة أنفسهم، كما في قوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
وما ذاك إلا أنهم عرفوا أن الله يحبهم فأحبوهم، ما دام أن الله يحب المؤمنين فإننا نحبهم، وما دام أنهم يحبون الله، ويحبون رسول الله فإننا نحب من يحب الله، نحب من يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، وإذا ثبتت هذه المحبة فلا بد أن لها آثارها، وهي: الاجتماع، أن نكون مجتمعين غير متفرقين، أهدافنا موحدة .. مقاصدنا محددة .. كل منا على الإسلام .. كل منا يعبد الله ويعرف الله، ويعرف دين الله ويدين به، وكل منا على عقيدة واحدة، وعلى شريعة واحدة وهي: شريعة الإسلام.
هكذا كان الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الشريعة، وكذلك في عهد أبي بكر ، وفي عهد عمر ، وفي عهد عثمان ، كانوا على هذه الشريعة، لم يكن بينهم أي اختلاف يسبب التقاطع والتباغض والعداوات.
من مقاصد الشريعة المحبة والاجتماع
ومن تأمل المنهيات التي تتعلق بالمعاملات وجد أن الحكمة من تحريمها ومن النهي عنها أنها تسبب البغضاء، وتوقع العداوة والوحشة بين المسلمين.
لأجل ذلك نهى الله عن أشياء تسبب هذا، فمثلاً قال الله تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11]، لماذا نُهينا عن السخرية؟
لأنها تسبب الفُرقة.
وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرَاً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11].
اللمز هو العيب، قال الله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]، وقال: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11] وهو الذي يتتبع العثرات، ويلصق بالإنسان ما ليس فيه، لماذا نهينا عن الهمز واللمز والعيب والثلب وتتبع العثرات وإظهار السوءات؟!
لأنه يسبب الفُرقة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تَقاطَعوا، ولا تَدابَروا، ولا تَهاجَروا، ولا تَحاسَدوا، ولا تَنافَسوا) لماذا نهانا عن التقاطع والتهاجر؟
لا شك أن هذه الأشياء التي نهانا عنها تسبب الفُرقة، فإذا تركناها أصبحنا مجتمعين، ولا شك أن الإسلام يهدف إلى الاجتماع، ويحث عليه، وينهى عن الاختلاف.
الآيات الدالة على لزوم الجماعة
قال الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، وقال: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118-119].
فدل على أن من رحمهم الله فإنهم غير مختلفين، وأن أولئك الذين اختلفوا قد فاتتهم الرحمة، ولا شك أن فوات الرحمة أمر عظيم وكبير، حيث حصل لهؤلاء رحمة، ولهؤلاء ضد الرحمة، أو نُزعت منهم الرحمة.
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً [الأنعام:159] يعني: أحزاباً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ [الأنعام:159].
وقال سبحانه: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32].
إلى آخر الآيات التي سمعتم، ولا شك أنها نهي عن التحزبات، ونهي عن الاختلافات.
وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]أي: لا تتبعوا السبل المنحرفة فتتفرق بكم عن سبيله، فسبيل الله هو سبيل النجاة.
ومعلوم أن هذه الشريعة قد من الله تعالى ببقائها، وحفظها على الأمة، وأن حفظها عليهم نعمة عظيمة وكبيرة، حيث وفقهم لحفظها، ووفقهم لبقائها، وبين لهم تعاليمها، فكل شيء مما يتعلق بهذا محفوظ مبين.
خطر التفرق والتنازع والتحزب
القصد واحد، والجماعة واحدة، والتفرق -بلا شك- سبيل إلى التحزبات وإلى تفرق الكلمة، ولا شك أن المسلمين كلما تفرقوا وتباعدوا وتناءت كلماتهم ضعفت قوتهم، وإذا ضعفت قوتهم قوي أعداؤهم عليهم، فتسلطوا عليهم.
ولو تتبعنا التواريخ والوقائع التي وقعت على الأمم السابقة، بل وعلى هذه الأمة؛ لوجدنا أنهم إنما يسلط عليهم الأعداء عندما تتفرق كلمتهم، أما إذا اجتمعوا فإنهم يصيرون إخوة، وهدفهم واحد، ووجهتهم نحو العدو واحدة، وهكذا.
ذكروا في تاريخ آخر القرن الأول، أن المسلمين كانوا يقاتلون في حدود أفغانستان، فتركوا القتال في وقت من الأوقات، فظهرت بينهم أحزاب وخلافات بسبب المفاخرات، هذه القبيلة تفتخر، وهذه القبيلة تذكر نسبها، وهذه تذكر حسبها، فحصل بينهم شقاق وخلافات ومنازعات، مع أن كلهم مسلمون.
فتولى عليهم قتيبة بن مسلم الباهلي، وهو أحد القواد المصلحين، فخطبهم وقال: لماذا تتفرقون؟! ولماذا تتحزبون؟! كلكم من آدم! وكلكم مسلمون! وكلكم على شريعة واحدة! تعبدون رباً واحداً، وتدينون ديناً واحداً، فاجتمعوا ووجهوا قوتكم إلى عدوكم، فإن عدوكم بحاجة إلى أن تذلوه، وعدوكم يفرح بهذه التفرقات فيكم.
فلما لَمَّهم وجمعهم قويت كلمتهم، فتوجهوا وصاروا يفتحون بلاد أفغانستان، وبلاد السند، وبلاد ما وراء النهر، وفتحوها بلداً بلداً إلى أن وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وحصل هذا بعد أن جمع الله كلمتهم.
فعُرف بذلك أن الشياطين وأعوان الشياطين لهم أغراض في تفريق الكلمة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد كان يحث على الجماعة، وقد مثّل صلى الله عليه وسلم المنفردين بالشاة القاصية والبعيدة التي تبتعد وتنعزل عن الغنم، فيأتي الذئب على حين غفلة من الرعاة، فيأخذها ويختطفها، فهكذا الشيطان للإنسان، متى وجد هذا شاذاً في قول، وهذا منفرداً بعقيدة، وهؤلاء الفرقة القليلة على نحلة وعلى مذهب؛ تمكن منهم، وأدخل عليهم البدع، وأدخل عليهم الوساوس، فإذا انتبهوا لأنفسهم، ورجعوا إلى الطريق السوي، وتمسكوا بالصراط المستقيم، واجتمعت كلمتهم مع علمائهم ودعاتهم، ومع سائر إخوانهم؛ فإنهم يكونون يداً واحدةً، ولا يقوى عليهم الشيطان، كلما وسوس إليهم بوسوسة وألقى في قلوبهم أو في قلب أحدهم شكاً أو ريباً أو شبهةً احترقت بنور النبوة، احترقت بأنوار الشريعة، ولم يبق له سلطان: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:100].
حديث افتراق الأمة
وأكثر الصحابة أجلاء لم يدخلوها بل اعتزلوها، وإنما دخلها من لا بد منه كـعلي ومن معه وعائشة ومن معها، وقتل فيها من الصحابة الزبير وطلحة ، وقتل فيها من قتل من أتباع هؤلاء وهؤلاء.
ثم وقعت فتنة أخرى في صفين بين أهل الشام وأهل العراق، أهل الشام يطالبون بدم عثمان ، ويطلبون باستئصال قتلته، وأما أهل العراق فيطالبون بجمع الكلمة ويقولون: إننا سوف نستأصلهم بعدما تجتمع الكلمة، فوقعت هذه الفتنة التي حصل فيها قتل كثير يقدر بعشرات الألوف من هؤلاء وهؤلاء، وكانت فتنة عظيمة، وممن قتل فيها من الصحابة عمار بن ياسر رضي الله عنه، وأكثر القتلى من غير الصحابة.
ثم انعزلت فرقة من أصحاب علي ، وكفروا علياً ومعاوية ، وسُموا بالخوارج؛ لأنهم خرجوا عن طاعة أمير المؤمنين، وعن موافقة المسلمين، وليس فيهم أحد من الصحابة، بل كلهم من غير الصحابة، فحصل أن الصحابة غزوهم وقاتلوهم، وحصل منهم ثورات وقتال استمر أكثر من سبعين سنة مع المسلمين، ولا شك أن ذلك من أسباب الفرقة، وأن الشيطان أوقع هذا الخلاف بينهم في هذه العقائد، حتى يضللهم ويوقعهم فيما أوقعهم فيه، مما له فيه هدف وقصد، ثم حدثت بعد ذلك فرق كثيرة، ومنها ما وصلت بدعتهم إلى الكفر، ومنها ما وصلت إلى الابتداع الذي هو دون الكفر.
الحث على التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة
ومعلوم أن سنة الصحابة وطريقتهم مجتمعة، وأنهم -والحمد لله- لم يكن بينهم اختلاف تضاد في الدين، ومعلوم أن ما كانوا عليه محفوظ مدوَّن قد يسر الله من العلماء من نقل عنهم أقوالهم وأفعالهم التي يتعبدون بها ويدينون بها، فعلينا أن نحرص على الاقتداء بسنتهم، وأن نترك كل المحدثات التي جاءت من بعدهم، ونعلم أنها بدع وضلالات.
النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على التمسك بسنته، في آخر حياته وعظ الصحابة رضي الله عنهم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقال الصحابة: (كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسكوا بها، وعَضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة).
فأمرهم أن يتمسكوا بالسنة بالأيدي، وكأنها شيء يُمسك بالأيدي، وإذا خافوا أن تتفلت من أيديهم عضوا عليها بالنواجذ التي هي أقصى الأسنان، وهذا أقصى شيء يمكن التمسك به، ألَّا يجد إلَّا أقصى أسنانه يُمسكه ويعض عليه به حتى لا يتفلت منه، وذلك لوجود من يحاول انتزاعه، فإن هذه السنة التي أنت متمسك بها هناك من يحاول أن ينتزعها منك، ويريد أن يبطلها، وذلك بما يلقي في قلبك من الشبهة والتشكيك والتوهمات، حتى يُضعف تمسكك، فإذا كنت متمسكاً تمسكاً قوياً فلن يستطيع أن يتغلب عليك، وأخبر بأن كل محدثة بدعة، وأن السنة طريقة واحدة.
وكان مما حُفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكرر قوله: (إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) هكذا كان يخطب على المنبر على رءوس الأشهاد، يحث على هديه، وعلى التمسك بكتاب ربه، وينهى عن المحدثات في دين الله.
وكذلك يخبر بأن دينه لا يجوز تغييره، ولا الزيادة فيه، ولا النقص فيه، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، والكلام في هذه المسألة معروف وطويل.
كان أهل المدينة قبل الإسلام مختلفين، ويقع بينهم قتال كثير، ويستمر القتال حتى يُقتل فيه أعداد من هؤلاء وهؤلاء.
ولما جاء الإسلام زال ذلك الاختلاف، وزالت تلك الفرقة، واجتمعوا على الإسلام، فذكَّرهم الله تعالى بذلك في قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعَاً [آل عمران:103] أي: تمسكوا بحبل الله الذي هو دين الإسلام.
وَلا تَفَرَّقُوا أي: لا تكونوا فرقاً وأحزاباً.
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَاً [آل عمران:103]: فجعلهم إخوة وهو حق، فإنهم بعد أن دخلوا في الإسلام أصبحوا مثل الإخوة متحابين، وهكذا أصبحوا يحبون كل مؤمن، لما جاءهم المهاجرون صاروا يحبونهم كما يحبون إخوانهم أولاد آبائهم وأمهاتهم، كما ذكر الله ذلك بقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9] يحبون المهاجرين، بل يقدمون محبتهم على محبة أنفسهم، كما في قوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
وما ذاك إلا أنهم عرفوا أن الله يحبهم فأحبوهم، ما دام أن الله يحب المؤمنين فإننا نحبهم، وما دام أنهم يحبون الله، ويحبون رسول الله فإننا نحب من يحب الله، نحب من يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، وإذا ثبتت هذه المحبة فلا بد أن لها آثارها، وهي: الاجتماع، أن نكون مجتمعين غير متفرقين، أهدافنا موحدة .. مقاصدنا محددة .. كل منا على الإسلام .. كل منا يعبد الله ويعرف الله، ويعرف دين الله ويدين به، وكل منا على عقيدة واحدة، وعلى شريعة واحدة وهي: شريعة الإسلام.
هكذا كان الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الشريعة، وكذلك في عهد أبي بكر ، وفي عهد عمر ، وفي عهد عثمان ، كانوا على هذه الشريعة، لم يكن بينهم أي اختلاف يسبب التقاطع والتباغض والعداوات.
من تأمل شرائع الأنبياء وشريعتنا خاصة، وجد أن كل المعاملات والأحكام تهدف إلى هدف واحد وهو تحصيل الأخوة بين المسلمين، الذي يكون من آثاره جمع الكلمة، إخوة في ذات الله تعالى، فعلى المسلمين أن يتركوا التقاطع والتباغض جانباً؛ ليكونوا متحابين في ذات الله.
ومن تأمل المنهيات التي تتعلق بالمعاملات وجد أن الحكمة من تحريمها ومن النهي عنها أنها تسبب البغضاء، وتوقع العداوة والوحشة بين المسلمين.
لأجل ذلك نهى الله عن أشياء تسبب هذا، فمثلاً قال الله تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11]، لماذا نُهينا عن السخرية؟
لأنها تسبب الفُرقة.
وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرَاً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11].
اللمز هو العيب، قال الله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]، وقال: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11] وهو الذي يتتبع العثرات، ويلصق بالإنسان ما ليس فيه، لماذا نهينا عن الهمز واللمز والعيب والثلب وتتبع العثرات وإظهار السوءات؟!
لأنه يسبب الفُرقة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تَقاطَعوا، ولا تَدابَروا، ولا تَهاجَروا، ولا تَحاسَدوا، ولا تَنافَسوا) لماذا نهانا عن التقاطع والتهاجر؟
لا شك أن هذه الأشياء التي نهانا عنها تسبب الفُرقة، فإذا تركناها أصبحنا مجتمعين، ولا شك أن الإسلام يهدف إلى الاجتماع، ويحث عليه، وينهى عن الاختلاف.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2711 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2629 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2589 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2559 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2471 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [77] | 2407 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2385 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [99] | 2372 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2335 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2299 استماع |