شرح العقيدة الطحاوية [56]


الحلقة مفرغة

تقدم لدينا ما يتعلق بحث الإسلام وتحريضه على الاجتماع ونهيه عن الافتراق، وحثه على الائتلاف وتحذيره من الاختلاف، وذلك أن المسلمين كلما كانوا مجتمعين، وكلما كانت كلمتهم واحدة؛ كان نفوذ كلمتهم أقوى من غيرهم ممن خالفهم، وكلما تفرقت كلمتهم وتشتت أهواؤهم، واختلفت آراؤهم، ضعفت معنويتهم، وقوي عليهم أعداؤهم، فلأجل ذلك جاء الإسلام يحث على الاجتماع، قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] فأمر بالاجتماع، ونهى عن التفرق، والتفرق يعم تفرق الأبدان وتفرق الأهواء والآراء والمذاهب والشيع والفرق والأحزاب، يعم ذلك كله، ويقول تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105] (تَفَرَّقُوا) أي: تفرقت كلمتهم، (وَاخْتَلَفُوا) أي: اختلفت آراؤهم، واختلفت أهواؤهم، وقد امتن الله تعالى على المؤمنين بأن جمعهم على كلمة التوحيد، وألف بين قلوبهم، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:62-63] أي: جمع بينهم، ورزقهم المحبة والألفة، بحيث إن بعضهم يؤثر أخاه المسلم على نفسه، وعلى ولده، وعلى أحبابه وأحفاده وأنسابه وأقربائه، وذلك لما في قلبه من الود والرحمة للمسلمين عموماً.

ولا شك أن هذه الأوصاف كلما تأكدت وقويت وثبتت كان المسلم مؤثراً لإخوته، ومقدماً لهم، ومحباً لهم غاية الحب، ومقدماً لمصالحهم، وإذا كانوا مجتمعةً كلمتُهم، ومتآلفين على كلمة التقوى؛ نتج من ذلك تعاونهم على البر والتقوى، وتعاونهم على تنفيذ كلمة الله، وعلى إظهار شعائر دينه، وكلما كانوا كذلك ضعف أعداؤهم وتخاذلوا وتفرقوا، وحصل النصر والتمكين للمؤمنين، والتفرق والانهيار للكافرين، وهذه سنة الله.

خطورة الاختلاف والتفرق

اختلاف الكلمات واختلاف الآراء والأهواء سبب للتعصب، فيتعصب كل لرأيه، ولمذهبه، ولهواه، وهذا يحدث في أهل البدع، فإن هذه الطائفة إذا كانت تنتحل بدعة وتهواها وتفضلها فإنها لا تقبل ممن خالفها، بل ترى أن من خالفها على باطل وعلى ضلال، ونشاهد -مثلاً- الذين يسمون أنفسهم شيعة وهم الروافض، نشاهدهم يتآلفون فيما بينهم، ويحب بعضهم بعضاً، ويقدم بعضهم بعضاً ربما على نفسه، كما حكى لي أحد أهل السنة في هذا المسجد أنهم جماعة من أهل السنة نحو المائة أو المائتين، وحولهم من الرافضة أكثر من عشرين ألفاً، فهؤلاء الرافضة تأتيهم الإمدادات ويأتيهم العون من الشيعة في العراق وإيران والمملكة، ويشجعونهم.

والواجب أن أهل السنة يشجعون أهل السينة ويثبتونهم ويواسونهم، ويعطونهم ويمكنونهم؛ لأنه تجمع بينهم الأخوة الدينية التي هي أخوة الإسلام، فإذا كان أهل الباطل يجتمعون ويتناصرون على مذهبهم، الذي هو في الحقيقة باطل، ولكنه عمي عليهم، وزين لهم أنه حق، فما بال الذين هم على الحق وعلى الصراط؟!

قرأت في بعض الكتب أن المسلمين في أول القرن الثاني، لما كانوا في خراسان مجتمعين من جهات متعددة، فإذا لم يغزو ولم يذهبوا إلى قتال أعدائهم وقع الاختلاف بينهم، وأخذوا يتفاخرون، وكل يتعصب لقبيلته، وكل يتعصب لمذهبه، وكل يتعصب لأميره ولشيخه، ويحصل بينهم تشتت واختلاف أهواء، وربما حصل بينهم تقاتل أو تناوش أو ما أشبه ذلك، فجاءهم أمير ناصح مخلص، وجمع كلمتهم، ووحد وجهتهم إلى قتال أعدائهم، وتوجهوا كلهم نحو الأعداء؛ عند ذلك زالت العداوة والبغضاء التي كانت بينهم، وصاروا إخوة متآخين متوجهين إلى العدو الذي هو أكبر الأعداء، العدو في الدين، فكانت هذه الفعلة التي يفعلها أولئك القادة -من جمعهم على التوحيد- أعظم نصيحة حتى يقاتلوا أعداءهم.

فنحن نحث المسلمين أن تجتمع قوتهم وتتوجه نحو أعدائهم، سواء الأعداء الكفار أو الأعداء المبتدعون، أو نحوهم. وننهاهم عن التمادي في اختلاف الآراء والأهواء، وقد مر بنا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مرة على أصحابه وهم يتنازعون في القدر وقد اختلفوا، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، يعني: من شدة الغضب، فقال: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، أبهذا أمرتم؟! أم بهذا كلفتم؟! ما عرفتم فقولوا به، وما لم تعرفوا فكلوا أمره إلى عالمه)، فنهى عن اختلاف الكلمة في مسألة القدر.

مقومات الوحدة والتآلف بين المسلمين

الإسلام جاء بجمع الكلمة والحث على الجماعة، فحثهم على الألفة فيما بينهم، والأسباب التي بها يتآلفون، ويتعارفون، ويتآخون كثيرة منها:

أولاً: يتعارفون لأنهم مسلمون، ويتحابون لأجل الإسلام.

ثانياً: يتعارفون ويتآلفون؛ لأن قصدهم وهدفهم واحد، وهو أن كلاً منهم يطلب الأجر الأخروي، ويطلب النصر من الله تعالى على الأعداء.

ثالثاً: أن كلاً منهم يدين بدين واحد فيجمعهم هذا الدين، فإذا دانوا بدين واحد فإن عليهم أن يتحابوا في ذات الله تعالى، ويزيلوا الأسباب التي توقع بينهم العداوة والبغضاء، وبذلك يتآلفون ويتحابون فيما بينهم.

وكما أنهم مأمورون على اختلاف طبقاتهم وجنسياتهم أن يتحابوا وأن يجتمعوا ولو تفرقت بلادهم، ولو تناءت أماكنهم، فإنهم أيضاً مأمورون بمقاطعة أعدائهم، وبمباينتهم، وبغضهم، والابتعاد عنهم، وإذلالهم، سواء كانوا مبتدعة أو كفرة أو مشركين، فإنهم إذا رأوا منهم الغلظة والشدة والبغضاء والكراهية ذلوا وهانوا، وهانت عليهم أنفسهم، وعرفوا عزة الإسلام ورفعته وتمكنه وعزة أهله؛ فأذعنوا له وانقادوا إما طوعاً وإما كرهاً، وهذه الأمور مجربة في الأزمنة المتقدمة والقرون الماضية، فإن المسلمين كلما اجتمعوا وأظهروا لأعدائهم المقت والاحتقار ذل الأعداء وقوي الأولياء، وارتفعت كلمة الله، وانخفضت كلمة المشركين.

اختلاف الكلمات واختلاف الآراء والأهواء سبب للتعصب، فيتعصب كل لرأيه، ولمذهبه، ولهواه، وهذا يحدث في أهل البدع، فإن هذه الطائفة إذا كانت تنتحل بدعة وتهواها وتفضلها فإنها لا تقبل ممن خالفها، بل ترى أن من خالفها على باطل وعلى ضلال، ونشاهد -مثلاً- الذين يسمون أنفسهم شيعة وهم الروافض، نشاهدهم يتآلفون فيما بينهم، ويحب بعضهم بعضاً، ويقدم بعضهم بعضاً ربما على نفسه، كما حكى لي أحد أهل السنة في هذا المسجد أنهم جماعة من أهل السنة نحو المائة أو المائتين، وحولهم من الرافضة أكثر من عشرين ألفاً، فهؤلاء الرافضة تأتيهم الإمدادات ويأتيهم العون من الشيعة في العراق وإيران والمملكة، ويشجعونهم.

والواجب أن أهل السنة يشجعون أهل السينة ويثبتونهم ويواسونهم، ويعطونهم ويمكنونهم؛ لأنه تجمع بينهم الأخوة الدينية التي هي أخوة الإسلام، فإذا كان أهل الباطل يجتمعون ويتناصرون على مذهبهم، الذي هو في الحقيقة باطل، ولكنه عمي عليهم، وزين لهم أنه حق، فما بال الذين هم على الحق وعلى الصراط؟!

قرأت في بعض الكتب أن المسلمين في أول القرن الثاني، لما كانوا في خراسان مجتمعين من جهات متعددة، فإذا لم يغزو ولم يذهبوا إلى قتال أعدائهم وقع الاختلاف بينهم، وأخذوا يتفاخرون، وكل يتعصب لقبيلته، وكل يتعصب لمذهبه، وكل يتعصب لأميره ولشيخه، ويحصل بينهم تشتت واختلاف أهواء، وربما حصل بينهم تقاتل أو تناوش أو ما أشبه ذلك، فجاءهم أمير ناصح مخلص، وجمع كلمتهم، ووحد وجهتهم إلى قتال أعدائهم، وتوجهوا كلهم نحو الأعداء؛ عند ذلك زالت العداوة والبغضاء التي كانت بينهم، وصاروا إخوة متآخين متوجهين إلى العدو الذي هو أكبر الأعداء، العدو في الدين، فكانت هذه الفعلة التي يفعلها أولئك القادة -من جمعهم على التوحيد- أعظم نصيحة حتى يقاتلوا أعداءهم.

فنحن نحث المسلمين أن تجتمع قوتهم وتتوجه نحو أعدائهم، سواء الأعداء الكفار أو الأعداء المبتدعون، أو نحوهم. وننهاهم عن التمادي في اختلاف الآراء والأهواء، وقد مر بنا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مرة على أصحابه وهم يتنازعون في القدر وقد اختلفوا، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، يعني: من شدة الغضب، فقال: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، أبهذا أمرتم؟! أم بهذا كلفتم؟! ما عرفتم فقولوا به، وما لم تعرفوا فكلوا أمره إلى عالمه)، فنهى عن اختلاف الكلمة في مسألة القدر.

الإسلام جاء بجمع الكلمة والحث على الجماعة، فحثهم على الألفة فيما بينهم، والأسباب التي بها يتآلفون، ويتعارفون، ويتآخون كثيرة منها:

أولاً: يتعارفون لأنهم مسلمون، ويتحابون لأجل الإسلام.

ثانياً: يتعارفون ويتآلفون؛ لأن قصدهم وهدفهم واحد، وهو أن كلاً منهم يطلب الأجر الأخروي، ويطلب النصر من الله تعالى على الأعداء.

ثالثاً: أن كلاً منهم يدين بدين واحد فيجمعهم هذا الدين، فإذا دانوا بدين واحد فإن عليهم أن يتحابوا في ذات الله تعالى، ويزيلوا الأسباب التي توقع بينهم العداوة والبغضاء، وبذلك يتآلفون ويتحابون فيما بينهم.

وكما أنهم مأمورون على اختلاف طبقاتهم وجنسياتهم أن يتحابوا وأن يجتمعوا ولو تفرقت بلادهم، ولو تناءت أماكنهم، فإنهم أيضاً مأمورون بمقاطعة أعدائهم، وبمباينتهم، وبغضهم، والابتعاد عنهم، وإذلالهم، سواء كانوا مبتدعة أو كفرة أو مشركين، فإنهم إذا رأوا منهم الغلظة والشدة والبغضاء والكراهية ذلوا وهانوا، وهانت عليهم أنفسهم، وعرفوا عزة الإسلام ورفعته وتمكنه وعزة أهله؛ فأذعنوا له وانقادوا إما طوعاً وإما كرهاً، وهذه الأمور مجربة في الأزمنة المتقدمة والقرون الماضية، فإن المسلمين كلما اجتمعوا وأظهروا لأعدائهم المقت والاحتقار ذل الأعداء وقوي الأولياء، وارتفعت كلمة الله، وانخفضت كلمة المشركين.

قال الشارح رحمنا الله وإياه: [قوله: (ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه.)

تقدم في كلام الشيخ رحمه الله تعالى أنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد ما اشتبه عليه إلى عالمه، ومن تكلم بغير علم فإنما يتبع هواه، وقد قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ [القصص:50]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:3-4]، وقال تعالى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].

وقد أمر الله نبيه أن يرد علم ما لم يعلم إليه، فقال تعالى: قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:26]، قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [الكهف:22]، وقد قال صلى عليه وسلم لما سئل عن أطفال المشركين: (الله أعلم بما كانوا عاملين).

وقال عمر رضي الله عنه: (اتهموا الرأي في الدين، فلو رأيتني يوم أبي جندل ، فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله برأيي، فأجتهد ولا آلو، وذلك يوم أبي جندل والكتاب يُكتب، وقال اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، قال: اكتب: باسمك اللهم، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب وأبيت، فقال: (يا عمر ! تراني قد رضيت وتأبى؟!) وقال أيضاً رضي الله عنه: (السنة ما سنه الله ورسوله، ولا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة).

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إن قلت في آية من كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم).

وذكر الحسن بن علي الحلواني حدثنا عارم حدثنا حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة عن ابن سيرين قال: لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر ، ولم يكن بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر رضي الله عنه، وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلاً، ولا في السنة أثراً، فاجتهد برأيه، ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني وأستغفر الله].

هذه مسألة جديدة، وهي: مسألة الفتيا بغير علم، والجرأة على الفتيا، والقول في الشرع بغير علم ذنب كبير، وقد روي عن بعض السلف، وروي مرفوعاً: (أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار) يعني: الفتيا بغير علم؛ وذلك لأن الذي يتكلم ويقول في الشرع وفي الدين برأيه وبهواه وبما يستحسنه، ينصب نفسه مشرعاً، وكأنه نائب عن الله، ومزاحم للرب تعالى في شرعه، يقول: أحل الله كذا، وحرم كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وليس عنده مستند، وإنما يعتمد على ما يستحسنه، وما يراه في هواه ملائماً لواقعه، أو نحو ذلك، فلا جرم أن كان هذا ذنباً كبيراً، حتى قال بعضهم: القول على الله بلا علم أكبر من الشرك، واستدلوا بهذه الآية التي في سورة الأعراف، والتي حرم الله فيها خمسة أشياء، فبدأ بالأسهل ثم الذي فوقه إلى أن أتى إلى أعلاها وأشدها تحريماً، فقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ َ [الأعراف:33] فهذا التحريم الأول، ثم جاء بعده ما هو أشد منه: وَالإِثْمَ [الأعراف:33] فالإثم أشد من الفواحش، ثم جاء بعد الإثم ما هو أشد منه تحريماً فقال: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:33] والبغي: الاستطالة على الناس بغير حق، فهو أكبر من الإثم، ثم جاء بعد البغي أكبر منه: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً [الأعراف:33]، ثم جاء بعد الشرك أكبر منه: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فجعل القول على الله أكبر الخمسة التي حرمت في هذه الآية؛ وذلك لأن الذي يقول على الله كأنه رفع نفسه فوق الأنبياء، ورفع نفسه فوق العلماء، وجعل نفسه مشرعاً يحلل ويحرم ويقول على الله ما ليس له به علم.

منهج السلف في الإفتاء

كان العلماء الجهابذة الذين بلغوا الذروة في المعرفة، وكانوا على جانب من الورع، يسأل كثير منهم فيتوقفون في المسألة إذا لم يكن فيها دليل صريح واضح، يردها هذا إلى هذا إلى أن يتولى الفتيا والقول فيها أحدهم، فيكتفي به عن نفسه.

وكان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يتلو الآية التي في سورة النحل وهي قول الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116] الذين يقولون: هذا حلال بأهوائهم، وهذا حرام بأهوائهم، بدون دليل، يقول: إن هذا من الافتراء والكذب على الله تعالى، والقول عليه بغير علم، والآيات التي تقدمت كلها تدل على النهي عن أن يقول الإنسان على الله بغير علم.

ذكروا أن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة الذي كانت تضرب إليه آباط الإبل، وكان هو المرجع في زمانه، سأله مرة قوم عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع مسائل، وتوقف عن ست وثلاثين مسألة! فقالوا له: أتتوقف وتقول: لا أدري وأنت مالك بن أنس؟! فقال: نعم، لا أدري، لا أدري، قولوا: مالك بن أنس لا يدري، قولوا: مالك يقول: لا أدري.

وكان كثير من العلماء يحثون على التوقف عن المسائل، فيقولون: من أخطأ (لا أدري) أصيبت مقاتله، أي: أنه إذا صار يفتي ولا يتوقف، ويستحيي أن يقول: لا أدري، فإنه قد تصاب مقاتله، بأن يزل مرة هنا، ومرة في هذه المسألة، ويحاسبه الله تعالى على أقواله بغير علم، فيقع في الهلاك والعياذ بالله، فالذي عنده علم بالمسألة، وعنده يقين بحكمها، ودليل عليها، وسئل عنها، لا يجوز له السكوت، ولا يجوز له التوقف، بل يقول بموجب علمه بالدليل، ولا يكتم العلم لقوله صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من النار)، أما إذا سئل وهو لا يعلم، وليس عنده خبرة بهذه المسألة، فلا يجوز له الإقدام عليها، بل يحيله إلى من هو أعلم منه، وإلى من عنده علم بتفصيل هذه المسائل ونحوها.

ولقد اعتنى علماء الإسلام بهذه المسائل التي يمكن أن تقع، اعتنوا بها غاية الاعتناء، واجتهدوا في بيانها، وفي إيضاحها أتم الاجتهاد، والحقوا كل مسألة بنظيرها، فلم يبق لأحد قول، فأنت إذا سئلت عن مسألة فارجع إليها في كتب أهل العلم، وقل: هذه المسألة أفتى فيها العالم الفلاني بكذا، والشيخ الفلاني بكذا، ويوجد بيانها في الكتاب الفلاني، وتورع أنت أن تستحسن فيها أو تقول فيها، يقول بعضهم:

وقل إذا أعياك ذاك الأمر ما لي بما تسأل عنه خبر

فذاك شطر العلم فاعلمنه واحذر هديت أن تزيغ عنه

يقولون: إن كلمة (الله أعلم) شطر العلم، كأن الذي تعلم مسائل كثيرة، وقرأ العلوم المتنوعة، قرأ في التفاسير، وقرأ في كتب الحديث، وقرأ في كتب الآداب والأحكام، وقرأ في كتب العقائد، وحصّل منها معلومات، يقال له: أنت لم تحصل إلا على علم قليل يسير، ولذلك يقول بعضهم:

وليس كل العلم قد حويته أجل ولا العشر ولو أحصيته

ولو أحصيته ما حصلت إلا على العشر أو أقل من عشر العلوم، فالعلوم واسعة، وما ظفرت منها إلا بنزر يسير، فعليك أن تقتصر على ما تعلمه وتتحققه وتتيقنه.

إذا اجتهد العالم فأخطأ فله أجر

هناك مسائل فيها مجال للاجتهاد، ولأجل ذلك اختلفت فيها آراء العلماء، واختلفت فيها المذاهب، فذهب فيها الصحابي الفلاني إلى كذا، والصحابي الآخر إلى كذا، وذهب فيها الإمام أبو حنيفة إلى كذا، والإمام مالك إلى كذا، والشافعي إلى كذا، هذه المسائل فيها مجال للاجتهاد والاختلاف، وقد حصلت بسبب اختلاف الأفهام، واختلاف الآراء، وسعة المعلومات أو قلتها، فهذا هو السبب، ونحن نعذر الذين خالفوا الدليل، وأفتوا بخلافه، نعذرهم ونقول: هذا ما وصل إليه اجتهادهم، فهم قالوا عن اجتهاد، وقد اضطروا إلى القول فيها، وإلى الحكم بما يلزم السائل، وكانت واقعة لابد من الفتيا فيها، فاجتهدوا، ولو خالفوا الدليل فهم معذورون بهذا الاجتهاد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عذر المجتهد في قوله: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) يعني: على اجتهاده يعني: أنه معذور ومغفور له ذلك الخطأ، ومع ذلك يحصل له هذا الأجر.

ولكن ليس ذلك لكل أحد، فالذي لم يتأهل للاجتهاد، ولم يصل إلى رتبة المعرفة، ولم يكن من أهل الإتقان، ولم يعرف مراجع المسائل، ولا تفاصيل الأدلة، ولا وجوه الاستدلال، ولا ثبوت الأدلة أو عدم ثبوتها، ولا يعرف الجمع بين مختلفها، ولا يعرف متقدمها ومتأخرها، ولا يفرق بين خاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها.. وما أشبه ذلك؛ فهذا لا يفتي إلا بالشيء الذي قد اتضح عنده حكمه كالشمس، أما الباقي فعليه أن يتوقف حتى لا تنطبق عليه هذه الآيات التي استدل بها الشارح رحمه الله، وكذلك الآيات التي أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم برد العلم إلى الله، مثل قوله: قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [الكهف:26]، فنحن نقول: الله أعلم، ونقول كما قالت الملائكة: لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة:32].

والله تعالى يذم الذين يجادلون في آيات الله بغير علم، فدل على أنهم إذا كان عندهم علم وجادلوا فإنهم يجادلون مجادلة حسنة، وأما الذين يجادلون بغير علم فإنهم مذمومون: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:3-4] يعني: أنه في هذه المجادلة قد اتبع الشيطان.

وبكل حال فالعلوم والحمد لله مدونة وموجودة وميسرة، والعلماء هم الذين يعرفون مراجعها، ويعرفون الراجح منها والمرجوح، ومن كان معه أهلية، وأخذ العلم من مظانه؛ فله أن يقول به، ولا يتبع غيره ممن لم يتمكن؛ ومن لم يكن عنده أهلية رجع إلى أهل العلم، وقال بما قالوا به، أو بما وصلت إليه أفهامهم واجتهاداتهم.