الحلقة الثانية - خواطر قرآنية (سورة السجدة) - أيمن الشعبان
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
الحمد لله مُنزِلَ الكتاب، ومُجريَ السحاب، ومُعلِّمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلَّى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:سورة السجدة آخر سورة من السور التي افتُتِحت بالحروف المقطَّعة {الم}، كأخواتٍ لها من السور كسورة البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم ولقمان، وهذه الأحرف تشير إلى إعجاز القرآن العظيم وأنه من عند الله، وليس افتراء من عند النبي محمد عليه الصلاة والسلام ولا كذبًا من عند غيره، ومن عارض في ذلك فليأتنا بحديثٍ مثله أو بسورةٍ أو بحرف من مثله؟! وهيهات لهم ذلك!
معنى حروف مقطعة أي أن كل حرف ينطق بمفرده، وفي القرآن تسع وعشرون سورة ابتدأت بهذه الحروف، كلها مكية عدا سورتي البقرة وآل عمران، وعدد الحروف التي جاءت في فواتح السور أربعة عشر حرفًا وهي نصف حروف الهجاء.
اختلف المُفسِّرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من قال: "هي مما استأثر الله بعِلمه، فردُّوا عِلمها إلى الله، ونقل القرطبي في تفسيره هذا القول عن جمع منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وغيرهم".
ومنهم من اجتهد في تفسيرها وذكروا عدة أقوال فاقت العشرين، رجح ابن عاشور في تفسيره أنها لتبكيت المعاندين وتسجيلًا لعجزهم عن المعارضة.
قال السعدي في تفسيره: "وأما الحروف المقطعة في أوائل السور، فالأسلم فيها، السكوت عن التعرُّض لمعناها "من غير مستندٍ شرعي"، مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثًا بل لحكمة لا نعلمها".
حكى الأصمعي قال: "سمعت جارية أعرابية تُنشِد وتقول:
أستغفر الله لذنبي كله *** قبلت إنسانًا بغير حِلّه
مثل الغزال ناعمًا في دله *** فانتصف الليل ولم أصله
فقلت: قاتلكِ الله ما أفصحكِ! فقالت: أَوَ يُعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين".
في خمسة مواضع ورد قوله تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ}، في ثلاثة منها: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}، وواحدة {الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، والخامسة التي معنا: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}.
{تَنزِيلُ} أي أنه منزَّلٌ من فوق، وإشارة إلى أن الله فوق سماواته العلي الأعلى، إذ نزل القرآن على مرحلتين:
الأولى: نزل جملة واحدة إلى بيت العِزَّة في السماء الدنيا ، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان من الآية:3].
الثانية: نزل منجمًا -أي مفرًّقًا- بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام على قلب النبي صلى الله عليه وسلم على مدار ثلاث وعشرين سنة، قال تعالى: {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلًا} [الإسراء:106].
{الْكِتَابِ} أي: مكتوب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة، ومكتوب في المصاحف التي بأيدينا.
افتتحت الآية بالجملة الاسمية لدلالتها على الرسوخ والثبوت والدوام.
يُخبر تعالى أن هذا الكتاب الكريم، أنه تنزيل من ربِّ العالمين، الذي ربَّاهم بنعمته، وأن بداية نزوله من الله، وهذا فيه تطمين لكافة الناس بأن أحكامه عدلٌ وصدقٌ وحقٌ وحِكمٌ وإنصاف.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} {مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} مبتدأٌ وخبر، لكن جاءت بينهما جملةٌ قبل ذكر الخبر مُعترِضة بين المبتدأ والخبر {لا رَيْبَ فِيهِ}، لأن هذه الجملة تحمل موضوع ومقصود وخلاصة السورة، وهو الخضوع الذي لا يتحقق إلا بيقينٍ ثابت وإيمانٌ راسخ، فناسب أن تأتي جملة {لا رَيْبَ فِيهِ} فتأمَّل!
{لا رَيْبَ فِيهِ} أي أنه حق لا يتخلَّله شك ولا تهمة، في هذا التنزيل أنه كتاب ربّ العالمين.
والريب: هو أدنى درجات الشك، وكأنه أول درجات الشك.
وجود جملة {لا رَيْبَ} في الوسط تعني، أنك لا تجد طاعنا عنده حق، ولا مدعيًا له حجة أن القرآن ليس مُنزِّل، أو أن القرآن ليس من عند الله، وهذا من جميل السياق البلاغي في الآية.
فإذا رسخ اليقين في القلوب أن هذا القرآن حق لا ريب فيه؛ في أمره ونهيه..
وعده ووعيده..
مواعظه وأحكامه..
أخباره وقِصصه..
سنُقبِل عليه بكليتنا، من تلاوةٍ وحفظٍ وتدبرٍ وتفكُّرٍ وعمل، حتى نتلذَّذ ونستأنِس بكلام ربنا سبحانه.
فالحياة الحقيقية هي الحياة مع القرآن، والعيش الهانئ في ظلاله، والسعادة الفعلية بالإقبال عليه.
تنزيل الكتاب المتلو لا ريب فيه، ولا شك، وأنه مُنزَّلٌ من ربِّ العالمين، وأنه ليس بكذب، ولا سحر، ولا كهانة، ولا أساطير الأولين.
الرب هو المربي لجميع العالمين، بالخلق والإعداد لكل ما ينفعهم ويصلحهم، والإنعام عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدت لفنيت حياتهم.
وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: تربيته لأوليائه، فيُربيهم بالإيمان، ويُوفِّقهم له، ويُكمله لهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه، وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة عن كل شر.
ولعل هذا -المعنى- هو السِرّ في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب.
فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.
فدل قوله {رَّبِّ الْعَالَمِينَ} على انفراده بالخلق والتدبير، والنعم، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه، بكل وجه واعتبار.
كلمة {رَّبِّ}: توحي بالعطف والرحمة، وأنه لن يضرّنا بما أنزل إلينا، لأن الناس اعتادوا أن يُسمُّوا الإنسان الملاحظ للشيء المعتني به المحافظ عليه ويحب له الخير يُسمّى رب، كرب الأسرة..
وربة منزل..
ورب المال وهكذا.
وليس ربك فقط بل هو رب العالمين، بمعنى ربوبيته عظيمة!
فالآية ذكرت أمرين:
أن الله هو الذي أنزل القرآن، وأنه أنزله من قبيل رحمته لا من قبيل قهره وجبروته، مع أنه الجبار القهار المتكبر القوي المتين المنتقم.
العالمون جمع عالَم، وقال العلماء : "العالم هو كل موجود سوى الله جل في علاه، فعالم البحار والأشجار والسماء والأرض كل هذه عوالِم".
لطيفة: فإن قيل لِمَ جمع {الْعَالَمِينَ} جمع قلة مع أن المقام يستدعي الإتيان بجمع الكثرة؟ أجيب بأن فيه تنبيهًا على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه.
واستحضار الجلالة بطريق الإضافة بوصف ربّ العالمين دون الاسم العلم وغيره من طرق التعريف لِما فيه من الإيماء إلى عموم الشريعة وكون كتابها منزّلًا للناس كلهم بخلاف ما سبق من الكتب الإلهية.
وفيه إيماء إلى أن من جملة دواعي تكذيبهم به أنه كيف خص الله برسالته بشرًا منهم حسدًا من عند أنفسهم لأن ربوبية الله للعالمين تنبىء عن أنه لا يسأل عما يفعل وأنه أعلم حيث يجعل رسالاته.
المعنى الإجمالي للآية:
إن الكتاب المتلو عليك يا محمد، لا ريب ولا شك في أنه مُنزَّل من ربِّ العالمين، وأنه ليس بكذب، ولا سحر ولا كهانة ولا أساطير الأولين.
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.