خطب ومحاضرات
تفسير سورة التغابن [14-18]
الحلقة مفرغة
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]. إن قعود الشيطان للإنسان يكون بوجهين: أحدهما: يكون بالوسوسة. الثاني: أن يسلط على هذا الإنسان الزوجة أو الولد أو الصاحب. إذاً: الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان، وقعد له في طريق الهجرة، وقعد له في طريق الجهاد، وقلنا: إما أن يوسوس مباشرة في قلب الإنسان، وإما أن يسلط عليه نواباً يوصلون هذه الرسائل المثبطة إلى قلبه، كالزوجة أو الولد، يقول تعالى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [فصلت:25] وفي حكمة عيسى عليه السلام: (من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان للدنيا عبداً). وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة -وهي كساء أسود مربع له أعلام وخطوط-، تعس عبد القطيفة -وهي بساط له أهداب-، تعس وانتكس -يعني: هلك وانتكس حيث عاوده المرض كما بدأ به، أو انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة-، وإذا شيك -أي: إذا أصابته شوكة- فلا انتقش -أي: لم تخرج شوكته بالمنقاش-). لا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد! يقول القرطبي : كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدواً، كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدواً. أي: أن المرأة قد تكون هي الضحية؛ لأن كلمة أزواجكم في قوله: ((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)) عامة يدخل فيها الذكر والأنثى. قوله: ((فاحذروهم)) الحذر على النفس يكون بوجهين: إما لضرر في البدن، أو لضرر في الدين، وضرر البدن يتعلق بالدنيا، وضرر الدين يتعلق بالآخرة، فحذر الله سبحانه العبد بذلك وأنذره منه. عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ )) قال: (كان رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله عز وجل: (( وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))). وقال مجاهد في الآية: ما عادوهم في الدنيا، ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فأعطوه إياهم. والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد، وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم.
قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:15] نجد أن هناك قاسماً مشتركاً بين الفتنة والعداوة في الآيتين، والقاسم المشترك هم الأولاد، ففي الآية الأولى قال تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)) وهنا قال عز وجل في هذه الآية: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ))، فالأولاد قاسم مشترك يدل على أن هذه الفتنه من نوع خاص، حيث يخاف منها أكثر مما يخاف من غيرها. قوله: ((فِتْنَةٌ)) أي: بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى، فلا تطيعوهم في معصية الله، وقد جاء في بعض الآثار: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: أكل عيالُه حسناته). والعيال كلمة عربية فصيحة يدخل فيها كل من يعوله الإنسان، يدخل فيها الزوجة والأولاد وكل من يعولهم وينفق عليهم. يقول بعض السلف: العيال سوس الطاعات. يعني: كما أن السوس يأتي إلى لوح الخشب وينخر فيه حتى يضيع وينهار فكذلك الطاعات قد يفسدها الافتتان بالأولاد. وقال القتيبي : في قوله تعالى: (( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ )): أي: إغرام، يقال: فتن الرجل بالمرأة أي أغرم بها، وقيل: فتنه محنه، ومنه قول الشاعر: لقد فتن الناس في دينهم وخلا ابن عفان شراً طويلاً وقال ابن مسعود: لا يقولن أحدكم: اللهم اعصمني من الفتنة؛ فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. أي: ما من إنسان إلا وهو مبتلى، كما قال عز وجل: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2] وقال عز وجل: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وقال سبحانه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، وقوله سبحانه: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:15-16] فالإنسان في هذه الحياة كلها مفتون ومبتلى. وقال الحسن : في قوله تعالى: ((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)): أدخل (من) -وهي للتبعيض- لأن كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر (من) في قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)) لأن الأولاد والمال لا يخلوان من الفتنة وانشغال القلب بهما. وكيف نجمع بين قول ابن مسعود وبين الدعاء المأثور: (أعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)؟ ونقول: في هذه الحالة أنت لا تقصد بتعوذك من الفتن أصل الابتلاء؛ لأن الابتلاء لا ينفك عن الإنسان، ولا يصح أن تقول مثلاً: اللهم لا توردني على جهنم! هذا لا يليق، وليس من الأدب، وليس من فقه الدعاء أن تدعو بشيء قطع بأنه كائن؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] لم يبق أحد من الخلق إلا ويرد على النار. فكذلك إذا قصدت بالدعاء التعوذ من الفتنة التي بمعنى الابتلاء فهذا لن يقع، ولذلك لما جاء خباب بن الأرت يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقوا من أذى قريش صبرهم، قال خباب: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟) فالرسول صلى الله عليه وسلم عدل عن الدعاء بعدم البلاء إلى تعزيتهم وتسليتهم، بما جرى لمن قبلهم، وبين لهم أن هذه سنة ماضية لا تتخلف. فإذا تعوذت من الفتنة عموماً فيكون تعوذك من الفتنة التي تضلك في دينك، أما الفتنة التي هي بمعنى الاختبار، فالحياة كلها اختبار، ولا يبقى أحد أبداً بدون فتنة اختبار وامتحان؛ لأن الإنسان مبتلى إما بنعمة وإما بنقمة أو مصيبة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً إذا ذُكِّر ذكر)، وكما قال الراهب للغلام: (إنك خير مني وإنك ستبتلى)، وكما قال ورقة بن نوفل للرسول عليه الصلاة والسلام: (هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيه جذعاً، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم؟! قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) فانظر إلى هذه القاعدة: (لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا أوذي)، فهذه سنة الله ماضية، ولذلك الشافعي لما قال له الرجل: أيهما خير للإنسان أن يمكن أو أن يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى. فهذه سنة ماضية، يقول الله عز وجل: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت:2-3] إلى آخر الآيات، فالشاهد أنك إن تعوذت من الفتنة مطلقاً فيكون قصدك مضلات الفتن كما قال ابن مسعود وليس أصل الاختبار والابتلاء؛ لأنه لا يوجد أحد لا يبتلى ولا يختبر، حتى ولو كان مغموراً بنعم الله؛ لأن النعم كلها -مثل: العافية- فتنة واختبار وامتحان، هل يشكر أم يكفر. قوله: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)). روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما السلام وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال صدق الله عز وجل: (( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ )) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما، ثم أخذ في خطبته صلى الله عليه وسلم). قوله: ((وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) أي: الجنة، فهي الغاية ولا أجر أعظم منها. وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً) ولا شك أن الرضا غاية الآمال، يقول بعض الشعراء: امتحن الله به خلقه فالنار والجنة في قبضته فهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنته يقول القاسمي في قوله تعالى: (( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ )): أي تفتتن بهما النفس، ويجري عليها البلاء بهما إذا أوثرا على محبة الحق. يعني المنهي عنه ليس هو محبة الأموال والأولاد، وإنما الفتنة المحظورة هي التي تقود إلى طاعتهم في معصية الله، أو الانشغال بهم عن حقوق الله تبارك وتعالى. قوله: ((وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) أي: لمن آثر طاعة الله ومحبته عليهما. روى ابن جرير عن الضحاك قال: كان هناك أناس من قبائل العرب كان يسلم الرجل أو النفر من الحي، فيخرجون من عشائرهم ويدعون أزواجهم وأولادهم وآباءهم؛ عامدين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتقوم عشائرهم وأزواجهم وأولادهم وآباؤهم فيناشدونهم الله ألا يفارقوهم ولا يؤثروا عليهم غيرهم، فمنهم من يرق ويرجع إليهم، ومنهم من يمضي حتى يلحق بنبي الله صلى الله عليه وسلم. عن مجاهد قال: يحمل الرجل ماله وولده على قطيعة الرحم أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه.
قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16] أي: اتقوا الله جهدكم ووسعكم. قوله: ((وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)) أي: افهموا هذه الأوامر واعملوا بها. قوله: ((وَأَنفِقُوا)) أي: أموالكم التي ابتلاكم الله بها في مراضيه. قوله: ((خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ)) أي: اقصدوا في الأموال والأولاد ما هو خير لكم. فقوله: ((خيراً)) مفعول به، كقوله: انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء:171] وتقديره: يكن الإنفاق خيراً لكم، وقيل: أنفقوا أموالكم لتستنقذوا أنفسكم من عذاب الله. والخير في هذا الموضع يشمل كل خير، ويدخل فيه المال بدليل قوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] أي: لحب المال لشديد، وقوله: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] أي: إن ترك مالاً. فهذا يدل على أن المال لا يذم لذاته؛ لأن المال هو وسيلة لتحصيل كثير من الخيرات، حتى أطلق الله عليه الخير إذا كان من حلال، وأنفق فيما يرضي الله تبارك وتعالى. قوله: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أي: بالعصمة من هذا الشح، فكل إنسان فيه شح، لكن من الناس من يخلى بينه وبين شح نفسه فينقاد له، ومنهم من يحميه الله من شح نفسه ويعصمه من شره. قوله: ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: المنجحون الذين أدركوا النجاة والسعادة عند ربهم تبارك وتعالى. وقوله تعالى: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) معناه: اتقوا الله -أيها الناس- وراقبوه فيما جعل فتنة لكم من أموالكم وأولادكم، أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام، فتتركوا الهجرة وأنتم للهجرة مستطيعون؛ لأن الله تعالى ذم من ترك الهجرة بقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97] قال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء:98] فهؤلاء معذورون؛ ولذلك قال سبحانه بعدها: فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء:99]، أما من استطاع فهو غير معذور في ترك الهجرة. وقيل: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي: فيما تطوع به من نافلة صلاة أو صوم أو صدقة؛ فإنه لما نزل قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] اشتد ذلك على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفاً عنهم: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)). ويؤخذ من هذه الآية أن المكره على المعصية غير مؤاخذ عليها؛ لأنه لا يستطيع اتقاءها. قوله: ((وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)) أي: اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه، وقيل: أصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله، وقيل: اقبلوا ما تسمعون، وعبر عنه بالسماع؛ لأنه فائدته. يقول القرطبي : وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقصرها على عبد الملك بن مروان! يعني: أولها تأويلاً فاسداًً وقصرها فقط على الخليفة عبد الملك بن مروان . فقال الحجاج : ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)) هي لـعبد الملك بن مروان أمين الله وخليفته، ليس فيها مثنوية. يعني: لا يشاركه فيها أحد! ثم قال الحجاج : والله! لو أمرت رجلاً أن يخرج من باب المسجد فخرج من غيره لحل لي دمه! يقول القرطبي : وكذب في تأويلها، بل هي للنبي صلى الله عليه وسلم أولاً ثم لأولي الأمر من بعده، ودليله قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]. وقوله: ((وَأَنفِقُوا)) قيل: الزكاة، وقيل: النفقة في النفل، وقيل: النفقة في الجهاد، وقيل: نفقة الرجل في نفسه، يقول تعالى: إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:7]، فكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه، والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ما ينفق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له رجل: (عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على عيالك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به)، فبدأ بالنفس والأهل والولد، وجعل الصدقة بعد ذلك، وهو الأصل في الصدقة، يقول تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219] أي: ما زاد وفضل عن النفقة الواجبة.
قال الله تبارك وتعالى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [التغابن:17] يعني: بالإنفاق في سبيله مما تحبون من غير منٍّ ولا أذى، وكلمة القرض هنا فيها تلطف في الاستدعاء. قوله: ((يُضَاعِفْهُ لَكُمْ)) أي: يضاعف جزاءه وخلفه. قوله: ((وَيَغْفِرْ لَكُمْ)) أي: ذنوبكم بالصفح عنها. قوله: ((وَاللَّهُ شَكُورٌ)) أي: ذو شكر لأهل الإنفاق في سبيله بحسن الجزاء لهم على ما أنفقوا. قوله: ((حَلِيمٌ)) أي: عن أهل معاصيه بترك معاجلتهم بعقوبته.
قال الله تبارك وتعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [التغابن:18] أي: لا يغيب عن أبصار عباده وما يشاهدونه. قوله: (الْعَزِيزُ) أي: الغالب في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه. قوله: (الْحَكِيمُ) أي: في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما يصلحهم.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2404 استماع |