إبراهيم عليه السلام أبو الحجة والمنطق (3)
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
سلسلة تأملات تربوية في بعض آيات القرآن الكريمإبراهيم عليه السلام..
أبو الحجة والمنطق
الحلقة الثالثة
لقد أعطى الله عزَّ وجل خليلَه إبراهيم عليه السلام الحجَّة البالغة، القوية الدَّامغة، التامَّة الكاملة، التي ليس فيها نقصٌ ولا غموض، وحاجَّ بها قومَه عبَّاد الكواكب والتماثيل، وبَهَتَ بها النَّمرودَ.
﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾ [الأنعام: 83].
وتهدف هذه المقالة إلى:
1- بيان ما كان يتمتَّع به إبراهيم عليه السلام من ذَكاء بالِغ؛ استخدمه في مشوار حياته الدَّعوي، ومارس قدرات فكريَّة متعددة، يسمِّيها الآن علماء النفس بالذَّكاء الناجح؛ وهو آخر ما توصَّل إليه العالِم "روبرت ج ستيرنبرغ" منذ عشرين عامًا فقط.
2- بيان ما كان يتمتَّع به إبراهيم عليه السلام من الحجَّة كمنهج علمي امتاز به خطاب الوحي؛ خطاب عقلي مَنطقي، يَجهله الكثيرون، ولا يجيدونه في دعوتهم، ممَّا جعل أعداء الإسلام يتَّهمونه بالجمود والتخلُّف.
3- بيان الأنواع المختلفة من المنهج العلمي، والمواقف الواقعيَّة التي يستخدم فيها.
4- بيان بعض الإعجاز العلمي في القرآن الكريم التي جاءت في ثنايا الأحداث.
5- بيان ما يظنُّه البعض كذبًا في أقوال إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 89]، ﴿ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ [الأنبياء: 63]؛ بل هي فروض افترضها إبراهيم عليه السلام بما يتماشى مع معتقدات القوم وأهوائهم؛ كقوله أيضًا للكوكب ثمَّ القمر ثمَّ الشمش لما رأى كل واحد منهم: ﴿ هَذَا رَبِّي ﴾ [الأنعام: 76، 77، 78]، ثمَّ أعقب ذلك إثباته لهم عدم صحَّة هذه الفروض بالمنهج العلمي الذي يَقبله العقل؛ وهذا منتهى الذَّكاء، والذي يسمى الآن "الذَّكاء الناجح"؛ أي: الذي يعني التفكير القائم على العِلم بالبيانات الموجودة، وتحليلها، واستخدامها لحلِّ مشاكل في الواقع الحياتي بنجاح.
لقد مرَّت رحلة دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه في مَراحل متتابعة، كل مرحلة تمهِّد للمرحلة التالية لها، وتقوم على المرحلة السَّابقة لها، كما تدلُّ على ذلك الأحداث التي روَتها العديد من السور القرآنيَّة، وإن كان ما جاء في كلِّ سورة ليس تكرارًا لِما جاء بالأخرى، ولكن يكمل بعضه بعضًا، وما جاء في كل سورة يناسِب موضوعها، فالقرآن الكريم ليس به تكرار؛ كما يؤكِّد على ذلك المفسِّرون.
♦♦♦♦
الموقف الرابع
الإبداع الفكري لإبراهيم عليه السلام
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
وكان الملِك الذي آتاه الله المُلك ويسمَّى "النمرود" قد طلَب من إبراهيم عليه السلام أن يقيم له الدَّليلَ على وجود الربِّ الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، هذه المعجزة المتكررة الظاهرة المستترة؛ معجزة الحياة والموت، عندئذٍ قال الملِك: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، وأتى بسجين مَحكوم عليه بالإعدام فأَطلق سراحَه، وجاء ببريء وقتله؛ وبذلك أثبت أمام القوم أنه يُحيي ويُميت، وهكذا أظهر هذا النمرود بطشَه وجبروته للقوم حتى يَخشوه، ولا يتَّبعوا إبراهيم عليه السلام.
وهذا ما يمارِسه الحكَّام الظَّلمة في ممارسة قتل الأنفس البريئة التي لا تَرضى بالظلم، وترك الفسدة التابعين لهم يعيثون في الأرض الفساد معهم؛ كما فعلَت أوربا الاستعمارية في نقل مساجين بلادهم إلى الأمريكتين أثناء ما يسمَّى بالكشوف الجغرافية، فأبادوا بهم السكَّان الأصليين للبلاد (الهنود الحمر)، وأصبحوا هم ملَّاك هذه البلاد الجديدة.
وهكذا يقوم كل الحكَّام الظلمة في الماضي والحاضر، بالاستعانة بالمساجين (البلطجية والشبيحة) في قَهر الأمم وقتل الأبرياء؛ لتثبيت حكمهم بالبطش والإرهاب وقهرِ الشعوب.
في هذا الموقف ظهرت براعة إبراهيم عليه السلام في دَحْض حُجَّة النمرود في أنه يُحيي ويميت؛ فلقد تعلَّم من ربه كيف يُمعن التفكير ويَستخدم عقلَه، ويستخدم الأدلَّة (الحقائق) التي لا يمكن لأحد إنكارها.
ولذلك ترك إبراهيم عليه السلام الخوضَ مع الملِك في مكابرته، وجاءه بواقعة لا يستطيع معها جوابًا، قال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 258]؛ أي: إذا كنتَ قادرًا على الإحياء والإماتة، وهما من صِفات الربِّ، فيلزم أن يكون بمقدورك التصرُّف في الكون، وأن تأتي بالشمس من المغرب، عندئذٍ ﴿ بُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
وقد ذكر سيد قطب في الظلال أنه عندما قال النمرود:
﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، عند ذلك لم يُرِد إبراهيم عليه السلام أن يَسترسل في جدَلٍ حول معنى الإحياء، وعدَل عن هذه السنَّة الكونية الخفيَّة إلى سُنَّة أخرى ظاهرة مرئية، وعدَل عن طريقة العرض المجرَّد للسنة الكونية والصِّفة الإلهية في قوله: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، إلى قوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 258]، وهي حقيقة كونية مكرورة؛ تطالِع الأنظار والمدارك كلَّ يوم، ولا تتخلَّف مرة ولا تتأخَّر، وهي شاهد يخاطِب الفِطرة، ومن ثمَّ كان هذا التحدِّي الذي يخاطب الفِطرة كما يتحدَّث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدَل.
إن انتقال إبراهيم من دليل إلى آخر دون مناقشة لإجابة الملِك السَّاذجة - ليس عن هزيمة، ولكن عن إبداع فِكري، وتحوُّل عما هو مألوف الخوض فيه والخداع والتلبيس فيه على العامَّة، إلى مَسار جديد غير مألوف التفكير فيه عند هذا الظالم المتكبِّر.
فماذا كانت نتيجة هذه الحجَّة الدامغة التي قذَفها إبراهيم عليه السلام في وَجه خَصمه؟ كانت نتيجتها كما حكى القرآن: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾؛ أي: غُلب وقُهِر، وتحيَّر وانقطع عن حجاجه، واضطرب ولم يستطع أن يتكلَّم؛ لأنه فوجئ بما لا يَملِك دفْعه.
ويا للعجب!
إنَّ هذا التفكير الذي مارسه إبراهيم عليه السلام يَعتبره العلماء من أحدث أنواع التفكير، والذي يسمَّى عندهم "بالتفكير الجانبي"؛ والذي اكتشفة حديثًا العالم "إدوارد دي بونو".
والذي يتم تعريفه على أنَّه: حلُّ المشكلات بالنظر إليها من نَواحٍ غير متوقعة.
أو أنه منهجية في التفكير، تتعلَّق بتغيير المفاهيم والإدراكات عما اعتدنا التعلُّم به في قضايا التفكير.
أو هي تكنيك لتوليد الأفكار وحلِّ المشكلات في صورة مفاهيم جديدة مبتكرة من خلال النظر إلى الأشياء.
أو طرق تفكير جديدة أكثر سعة ممَّا اعتدنا عليه، والوصول إلى حلول إبداعية.
كم كان إبراهيم عليه السلام مبدعًا!
هل نحن نتعلَّم ونعلِّم هذا الفكر لأبنائنا؟!
لماذا لم نكتشف هذه الكنوز العلمية وهي تحت نظرنا؟!
إلى متى سنظل عالَة على الغرب في اكتشاف العلوم في هذا العصر؟!
لم يعد الغرب يعلِّم أبناءه المعلومات.
إن التعليم الآن منصبٌّ على تعلُّم وتعليم التفكير والإبداع.
أين نحن من كل هذا؟!
♦♦♦♦
الموقف الخامس
الابتلاء الأعظم لإبراهيم عليه السلام في دعوته
لقد مرَّ إبراهيم عليه السلام أثناء دعوته لقومه في المراحل السابقة بالعديد من المِحَن، مثل معظم الرسل والأنبياء، فبعد الإفلاس العقلي الذي وصَل إليه قوم إبراهيم عليه السلام، عند ذلك أخذَتهم العزَّة بالإثم كما تَأخذ الطغاة دائمًا حين يَفقدون الحجَّةَ ويعوزهم الدَّليل، فيلجؤون إلى القوَّة الغاشمة والعذاب الغليظ.
وكعادة كل المفلسين عقليًّا والمستبدين في الأرض لا يجِدون وسيلة إلَّا البطش والتخلُّص من خصومهم بأبشَع السُّبل؛ فلا قيم ولا رحمة لديهم، فكان القرار:
• ﴿ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات: 97].
• ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68].
• ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ﴾ [العنكبوت: 24].
وفعلًا..
بدأ الاستعداد لإحراق إبراهيم، انتشر النَّبأ في المملكة كلِّها، وجاء الناس من القرى والجبال والمدن ليَشهدوا إحراق الذي تجرَّأ على الآلهة وحطَّمها واعترف بذلك وسخر من الكهنة، وحفروا حفرةً عظيمة، ملؤوها بالحطب والخشب والأشجار، وأشعلوا فيها النار، وأحضروا المنجنيق ووضعوا إبراهيم عليه السلام فيه بعد أن قيَّدوا يديه وقدميه، واشتعلَت النار في الحفرة وتصاعد اللَّهب إلى السماء، وأصدر كبير الكهنة أمرَه بإطلاق إبراهيم في النار.
وكما اتَّضح لنا من قبل أنَّ إبراهيم عليه السلام قد وصَل في علمه إلى مستوى عَين اليقين في أن الله هو الذي يُحيي ويميت، عندما أراه ربُّه كيفيَّةَ إحياء الموتى، ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260].
ومن هنا كان ثَباته وشجاعته ورباطة جَأشه عندما أُلقي في النار، فهو الذي تمَّ وضعه نفسه في موضع الإحياء والإماتة الآن.
ولكن ماذا فعل إبراهيم عليه السلام في هذا الموقف؟!
انطلق المنجنيق ملقيًا إبراهيم في حفرة النار، كانت النار موجودة في مكانها، ولكنها لم تكن تمارس وظيفتها في الإحراق؛ فقد أصدر الله جلَّ جلاله إلى النار أمرَه بأن تكون ﴿ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، أحرقَت النار قيودَه فقط، وجلس إبراهيم وسطها، كان يسبِّح بحمد ربه ويمجِّده، لم يكن في قلبه مكان خالٍ يمكن أن يَمتلئ بالخوف أو الرَّهبة أو الجزع، كان القلب مليئًا بالحبِّ وحده، ومات الخوف، وتلاشتِ الرَّهبة، واستحالت النار إلى سلام بارِد يلطف عنه حرارة الجو.
خرج إبراهيم من النَّار، وتصاعدَت صيحات الدَّهشة الكافرة، خسروا جولتهم خسارة مريرة وساخرة.
• ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69].
• ﴿ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ﴾ [الصافات: 98].
• ﴿ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 70].
وهنا في هذا الموقف الجديد وصَل إبراهيم عليه السلام إلى مستوى حق اليقين؛ ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 51].
فهو الذي قال وكلُّه يقين:
• ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 99].
ما أحلاها كلمة تقال من قلب تعلق بالله ﴿ ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ﴾!
كذلك قال موسى عليه السلام من بعده: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62].
وكذلك قال محمد صلى الله عليه وسلم من بعدهما: ((يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثهما؟))؛ (مسلم).
لقد استنفد إبراهيم عليه السلام كلَّ ما أعطاه ربه من فِكر وأساليب عمل، حينها لاذ بربِّه معترفًا بمحدوديَّة قدرته وطالبًا منه الهداية.
وهذا ما يجب أن يتعلَّمه أي متعلِّم، وما يجب أن يتم تعليمه للمتعلمين.