شرح العقيدة الطحاوية [47]


الحلقة مفرغة

مما يتعلق بالأمور الاعتقادية مسألة الإيمان بالله تعالى وما يلحق به، ولا شك أن الإيمان هو السمة والصفة التي تميز بها أتباع الرسل، ولأجل ذلك يدعو الله تعالى من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه بهذا الاسم، فيناديهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104] ، ولم يرد: يا أيها الذين أسلموا، ولا: يا أيها الذين صدقوا، ولا: يا أيها الذين اتبعوا. بل تتابعت الآيات التي فيها الأوامر بهذا السياق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

ولاشك أن هذا الوصف ميزة لمن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل بسنته، وصدقه حق تصديقه، ووطن نفسه على العمل بما جاء به.

ولأجل ذلك يوجه الله الأوامر لهؤلاء تارة بالأعمال وتارة بالاعتقادات، فمن الأعمال قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] .. وما أشبه ذلك.

ومن العقائد قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، فهذا أمر بالاعتقاد، والمعنى: صدقوا بذلك كله، ومعلوم أن من صدق بالكتب المنزلة وبالكتاب الذي بين أيدينا؛ ظهرت عليه آثار هذا التصديق بالاتباع والعمل، وأما من لم يتبعه ولم يعمل به؛ فإنه لا يصدق عليه أنه مؤمن، فلابد أن يكون للإيمان آثار وعلامات على من ادعى تصديقه.

وقد تكلم العلماء على هذا المسمى، وجعلوا هذا النوع تحت عنوان (أسماء الإيمان والدين)، وجعلوا هذه المسميات لها حقائق، واعتقدوها مسميات شرعية، نقلها الشرع من المسميات اللغوية إلى مسميات شرعية، فيقال -مثلاً-: الإيمان في اللغة التصديق، والإيمان في الشرع قول وعمل واعتقاد، كما يقال: الإسلام في اللغة الإذعان، والإسلام في الشرع الاتباع والعمل.

فالشرع نقل هذه المسميات إلى مسميات شرعية، فأصبحت بذلك ذات معانٍ مقصودة للشارع؛ ولأجل ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عاماً للأعمال، وعاماً للاعتقادات، وعاماً للأقوال.

وفي الحديث أن شعب الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، ذكر منها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث شعب في نفس الحديث: شعبة قولية، وشعبة اعتقادية، وشعبة عملية. فالشعبة القولية أن: تقول: لا إله إلا الله. والشعبة الاعتقادية: الحياء من الإيمان. والشعبة العملية: إماطة الأذى عن الطريق. ومعنى ذلك: أن الإيمان يستوعب الأعمال كلها، ويستوعب الأقوال كلها، ويستوعب الاعتقادات كلها، فكلها داخلة في اسم الإيمان.

ولأجل ذلك يتفاوت الناس في الإيمان، فيكون هذا ناقص الإيمان، وهذا متوسط الإيمان، وهذا كامل الإيمان، وهذا قدحت السيئات في إيمانه، وهذا قد استوفى خصال الإيمان وما أشبه ذلك، ونتج من ذلك أن الأعمال الصالحة من مسمى الإيمان، فيقال: الصلاة من الإيمان، والصدقة من الإيمان، والصوم من الإيمان، يعني: أنها أبعاض وأجزاء من هذا الإيمان الذين سمى الله به عباده.

فلا يكون الإنسان كامل الإيمان إلا إذا كمل هذه الشعب، وأتى بها كما ينبغي، سواء كانت أفعالاً أو تروكاً، يعني: أن الأعمال من الإيمان، والتروك من الإيمان، وكيف تكون التروك من الإيمان؟

نقول: لا شك أنها إذا تركت خوفاً من الله تعالى كان الدافع على تركها هو قوة اليقين، ولأجل ذلك يعد تركها من الخصال العظيمة، وفي الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وعد منهم رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله)؛ فما هو العمل الذي عمله حتى استحق أن يكون من أهل الظلال؟ هو أنه ترك الشهوة الجنسية التي في النفس منها دوافع، ومع ذلك لا يخاف محذوراً، فتركه هذا من أعظم الأفعال، يعني: أن هذا الترك مع قوة الدافع أعظم من كثير من الأعمال.

وللعلماء خلاف: أيهما أفضل: ترك المحرمات أو فعل الطاعات؟

فمثلاً: إذا كان هناك إنسان له شهوة قوية تدفعه إلى فعل فاحشة الزنا ونحوه، ولكنه أمسك نفسه، وعصمها، وحفظها، وقادها بزمامها إلى الطاعات، وترك هذا الحرام مع قوة الدوافع إليه، أليس هذا قد جاهد نفسه؟

لا شك أن نفسه تدفعه دفعاً قوياً، ولكنه يقوى على قمعها، ويقوى على ردها، فهو دائماً في جهاد مع نفسه، فهذا يعتبر من أفضل القربات.

كذلك إنسان أمامه المشروبات المحرمة كالخمور والمسكرات وما أشبهها، وهو يعرف أنها لذيذة الطعم، وأن النفس تشتهيها، ولكن عرف أنها محرمة، وأن فيها عقوبة؛ فرد نفسه، واجتهد في قمعها، وأمسك بزمامها، وحمى نفسه عن هذه المحرمات؛ فهو في نفسه مجاهد، مجتهد في قمع هذه الشهوة، تدفعه نفسه ولكنه يردها، ماذا تكون حالته؟

لا شك أنه في جهاد، قد يكون جهاد نفسه وقمعها مساوياً لجهاد الكفار، الذي هو بذل المال وبذل النفس في قتال أعداء الله تعالى.

عندنا فعل يكون عبادة: كقتال الكفار، وكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكالصلاة والصدقة والصوم والحج والعمرة.. وما أشبه ذلك.

وعندنا ترك يكون عبادة: كترك الشهوات مع الدوافع إليها، فيثاب على ترك الزنا مع وجود الدوافع، وعلى ترك الخمور مع وجود الشهوات، وعلى ترك الأكل الحرام مع تيسره وسهولة تناوله، وعلى ترك المعاملات الربوية، وعلى ترك الغش مع وجود الدوافع له، وعلى ترك الجدال بغير حق، وعلى ترك السباب مع وجود من يسبه، وما أشبه ذلك.

فيثاب الإنسان على التروك كما يثاب على الطاعات والقربات، والكل داخل في مسمى الإيمان.

وبهذا نعرف أن الإيمان يستوعب خصال الطاعة، والخصال الخيرية كلها، ويستوعب ترك المحرمات، وكل ذلك داخل في مسمى الإيمان، فمن استكمله استكمل الإيمان، ومن نقص منه شيئاً نقص حظه من الإيمان.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[وأما من يجوز الاستثناء وتركه فهو أسعد بالدليل من الفريقين، وخير الأمور أوسطها، فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء، وهذا مما لا خلاف فيه. وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4] ، وفي قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]؛ فالاستثناء حينئذ جائز، وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، وكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله، لا شكاً في إيمانه، وهذا القول في القوة كما ترى].

من مسائل الإيمان: مسألة الاستثناء، أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ هل يجوز أو لا يجوز؟

فمنعه قوم، وقالوا: لا يجوز أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن في ذلك توقفاً. وسموا من يستثني شاكاً، يقولون: أتشك في أنك مصدق؟! أتشك في أنك من أهل الدين؟! أتشك في أنك من أهل هذا الإسلام؟! هؤلاء منعوا الاستثناء.

وأوجبه آخرون وقالوا: لا يجوز الجزم، فلا يجوز لأحد أن يقول: أنا مؤمن، أو أنا مؤمن حقاً؛ وذلك لأنه ربما ينقصه شيء من الإيمان، وربما يكون من غير أهل الإيمان في العاقبة، فأوجبوا الاستثناء، فصاروا يقولون: أنا مؤمن إن شاء الله. وتقدم أن منهم من يستثني حتى في الأشياء الحقيقية، فيقول بعضهم: هذا رجل إن شاء الله، أو: هذا بيت إن شاء الله، أو: هذا مالي إن شاء الله. وهؤلاء فيهم تشدد.

والصحيح القول الوسط: أنه يجوز الاستثناء ويجوز تركه، فإن كان الذي يستثني شاكاً ومتردداً فلا يجوز الاستثناء على وجه الشك ولا على وجه التردد، وإن كان الذي يستثني إنما يستثني لأنه لم يصل إلى درجة الكمال جاز الاستثناء، ومعلوم أننا لم نصل إلى درجة كمال الإيمان، كمال الإيمان استيفاء بضع وسبعين شعبة، من الذي يستكملها على التمام؟!

إذاً: فلنا أن نستثني؛ لعدم وثوقنا باستيفاء هذه الشعب كلها، لأنه لابد أن يكون عندي خلل، وعندي نقص في خصلة من الخصال، إما لم أكملها، وإما لم أعملها، وإما لم آت بها على الكمال.. أو ما أشبه ذلك، فإذاً: أنا أستثني حيث إن إيماني لم يصل إلى درجة الكمال، فأقول: أنا مؤمن إذا شاء الله، أو: إلا ما شاء الله، أو: إن شاء الله.

كذلك معلوم أن من خصال المؤمنين ما يكون جامعاً لأفضل الخصال، والإنسان لا يثق بأنه وصل إلى ذلك، قال الله تعالى في سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]؛ قليل منا من يوجل قلبه عند ذكر الله إلا ما شاء الله، إ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] يعني: يزدادوا أعمالاً، ونحن كل يوم نسمع آيات الله، ومع ذلك قليل منا من يزداد عملاً، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] قليل من يكون متوكلاً على الله حق التوكل، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3] يعني: يتمونها تماماً كاملاً، فمثل هؤلاء قليل وجودهم، فلأجل ذلك إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله. يعني: أرجو أن أكون من أهل هذه الصفات؛ فلا بأس.

وكذلك الآيات التي سمعنا في سورة الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، هذه -أيضاً- خصال قد يتعذر في الكثير استيفاؤها، وبذلك نعرف أن الاستثناء يعود إلى الكمال، يعني: أنا مؤمن ولكن لا أجزم بكمال إيماني، بل أرجو أن أكون من أهل هذه الخصال، ولكني لم أتحقق وصولي إليها، فيكون الاستثناء نظراً إلى الكمال، أو يكون الاستثناء نظراً إلى عاقبة الإنسان التي يموت عليها، فالله أعلم بها، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. أي: أرجو أن أكون مؤمناً وأن أستمر على هذا الإيمان حتى يأتيني أجلي، فإذا استثنى بهذا الاعتبار جاز الاستثناء. هذا هو القول الوسط، لا أنه شك وتردد في تصديقه، ولا أنه جزم ببلوغه الرتبة العالية، وخير الأمور أوسطها.

قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق).

يشير الشيخ رحمه الله بذلك إلى الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة، القائلين بأن الأخبار قسمان: متواتر، وآحاد، والمتواتر وإن كان قطعي السند لكنه غير قطعي الدلالة، فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، وبهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات.

قالوا: والآحاد لا تفيد العلم، ولا يحتج بها من جهة طريقها، ولا من جهة متنها. فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية سموها قواطع عقلية وبراهين يقينية، وهي في التحقيق كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:39-40].

ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي، وعزلوا لأجلها النصوص؛ فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص، ولم يظفروا بقضايا العقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية، ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح، الموافق للفطرة السليمة.

بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته، وما ظنه معقولاً، فما وافقه قال: إنه محكم، وقبله واحتج به! وما خالفه قال: إنه متشابه، ثم رده، وسمى رده تفويضاً أو حرفه، وسمى تحريفه تأويلاً! فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم].

موقف المؤمن من الأدلة السمعية

أكمل الشارح الكلام على أسماء الإيمان والدين، وابتدأ المتن في إجمال قول أهل السنة في الأدلة، معلوم أن الأدلة عقلية ونقلية، الأدلة العقلية: هي ما دلت عليه الفطرة، وما تشهد بسلامته وملاءمته العقول المستقيمة والفطر السليمة، ولا شك أن الإسلام هو دين الفطرة، يقول الله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] ، ولا شك أن دين الإسلام موافق لما دلت عليه العقول السليمة، وغير مخالف لها.

أما النوع الثاني: فهو الأدلة السمعية النقلية، ويراد بها: الكتاب والسنة، فإنهما نقول منقولة نقلها كابر عن كابر، وهي أدلة سمعية، سمعها هذا عن شيخه، والشيخ عن شيخه.. إلى أن اتصلت بالرسول صلى الله عليه وسلم، وتناقلوها، فأنت -مثلاً- علمك أستاذك القرآن والسنة، وشيخك علمه شيخه، وهكذا شيخ شيخك تعلم من شيخه، إلى أن اتصلت السلسلة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء إليه الوحي من الله تعالى، ولا شك أن وحي الله إلى أنبيائه لا يتطرق إليه شك، ولا يكون فيه توقف في صحته؛ فإذاً: هي أدلة سمعية يقينية متلقاة عن الشرع الشريف.

فماذا يجب علينا نحوها؟

يجب علينا أن نؤمن بها، وأن نعمل بها، وأن نتقبلها، ولا نتوقف في قبول شيء منها، فنعمل بها في العقائد كما نعمل بها في الأحكام، ونعتبر بها، ونمتثل ما فيها، وإذا سمعنا آيات الوعيد خفنا، وإذا سمعنا آيات الوعد رجونا، وإذا سمعنا القصص تفكرنا، وإذا رأينا الأمثال اعتبرنا، وإذا جاءتنا الأحكام عملنا، وإذا جاءتنا الأخبار صدقنا، هذه وظيفة المسلم، وهذا عمله، عمل المؤمن أنه يتقبلها؛ لماذا؟

لأنه جاءك الوحي من الله بواسطة الرسول، وعقولنا قاصرة لا تصل إلى معرفة ما يحبه الله وما يكرهه، ولا تحيط بما في الملأ الأعلى، ولا بما في الدار الآخرة، وكل ذلك يتوقف على النقل، ويتوقف على السمع الذي طريقه الاتباع.

فنقول: إن من واجب المسلمين أن يقدموا قول الله وقول رسوله على قول كل أحد، وأن يعملوا بهذه الأدلة وبهذه النصوص، ويقدموها على العقول، وعلى أقوال المشايخ، وعلى أقوال فلان وفلان؛ حتى يكونوا بذلك متبعين حق الاتباع.

قد أمر الله تعالى المؤمنين بالاتباع في قوله: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، وفي قوله: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، متى يكون الإنسان متبعاً للرسول عليه الصلاة والسلام؟

إذا عمل بما جاء به، وهل العمل بما جاء به يختص بالأفعال أو يعم العقائد؟

لا شك أنه يعم العقائد، فيجب على المسلم أن يتلقى العقيدة من كتاب الله، فترسخ في قلبه، وإذا رسخت وتمكنت في قلبه كان من آثارها أن تنبعث جوارحه لتعمل، وإلا فليس بمصدق، وليس بمتبع، وليس بمؤمن حقاً.

موقف المبتدعة من الأدلة السمعية

ذكر الشارح رحمه الله أن المخالفين سدوا على أنفسهم باب السمع، فالأدلة من القرآن والأدلة من السنة لما كانت مخالفة لعقولهم لم يقبلوها، الأدلة من القرآن قطعية الدلالة قطعية الثبوت، فلا يترددون في أن هذا القرآن هو كلام الله المنزل، ولا يترددون في أنه نقل نقلاً متواتراً، نقلته الأمة في شرق الأرض وفي غربها، يقرؤه هؤلاء لهؤلاء، لا يترددون في صحته ولا في ثبوته.

ولكن فيه نصوص تخالف معتقداتهم، وفيه أدلة قطعية الثبوت تخالف ما ذهبوا إليه؛ فالمعتزلة والأشعرية والجهمية والجبرية والشيعة.. وما أشبههم؛ لهم عقائد منحرفة، من أين أخذوا عقائدهم؟

من عقولهم، فحكموا عقولهم وجعلوها هي المرجع!

قرأت لبعضهم يقول: ما علمنا صدق الرسل إلا بعقولنا، فإذا جاء عن الرسل شيء يخالف ما في عقولنا رددناه.

نقول: عجباً لكم! ما دامت قد أيقنت عقولكم بصدقهم، فما عليكم إلا أن تتقبلوا كل ما جاء عنهم، فأما أن تشهد عقولكم بصدقهم، ثم تقولون: نأخذ من أقوالهم ما يوافق عقولنا، ونرد ما يخالف عقولنا، فما كنتم بمصدقين ولا بصادقين في الاتباع.

كذلك هم يقولون: الآيات القرآنية ثابتة يقينية قطعية الثبوت؛ ولكن ليست بقطعية الدلالة، فدلالتها غير واضحة. فأخذوا يسلطون عليها التحريف، وسموا هذا التحريف تأويلاً، وبالأخص فيما يتعلق بالصفات وبالأسماء، سلطوا عليها التأويل، وهو في الحقيقة تحريف.

مثلاً: الأشعرية أولوا كثيراً من آيات الصفات: كآيات المحبة، وآيات الرحمة، وآيات الغضب والرضا.

وكذلك الصفات الذاتية: أولوا صفة الوجه، وصفة اليدين.

وأولوا الصفات الفعلية: كصفة العلو، وصفة الاستواء.

ما كذبوها لكن أولوا أدلتها، ثم أثبتوا بعض الصفات: كصفة الكلام، مع أن قولهم في الكلام غير واضح كما تقدم، وأثبتوا الرؤية في الآخرة ولكن لم يثبتوها كما ينبغي، وأثبتوا صفة الإرادة وصفة السمع والبصر... إلى آخرها.

فجاءت الجهمية والمعتزلة وقالوا: نحن نفعل كما فعلتم، أنتم أولتم آيات المحبة والرحمة والغضب والرضا، لماذا خصصتم هذه بالتأويل؟! نحن كذلك نتأول آيات القدرة، وآيات العلم، وآيات السمع والبصر، وآيات الكلام، وآيات الحياة.. وما أشبهها، فقدرتكم على التأويل ليست أقل من قدرتنا ولا نحن أضعف منكم، فدخلوا من باب التأويل، فسدوا على أنفسهم أخذ الأدلة من القرآن.

قالوا: إن الآيات قطعية الثبوت، ولكنها ليست قطعية الدلالة، بل هي محتملة للتأويل، فأولوها وحرفوها، فصاروا لا يستدلون بآيات القرآن على هذا النوع.

جاءتهم السنة، والأحاديث النبوية المنقولة بالأسانيد الصحيحة، فقالوا: نقسمها قسمين: متواتر، وآحاد.

فأما المتواتر: فنجعله كالقرآن قطعي الثبوت، ولكنه ظني الدلالة، فدلالته ضعيفة وغير واضحة، فنسلط عليه التأويلات التي سلطناها على الآيات فنستريح منه.

أما القسم الثاني: الذي هو الأحاديث الآحادية، ويسمونها أخبار الآحاد، فهذه يردونها كلها، ولا يقبلونها في العقائد، ويقولون: إنها ظنية الثبوت، مع كونها ظنية الدلالة، وإذا كانت قطعية الدلالة فإنها ظنية الثبوت، فلا تفيد إلا الظن، والظن أكذب الحديث، فلا نقبلها، لأن الله قد نهانا عن الظن في قوله: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12] ، وفي قوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ [النجم:23] ، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم:28] فالأحاديث ولو كانت في البخاري وفي مسلم ، وفي السنن، وفي المسانيد، ولو رواها من رواها؛ فهي ظنية، لا تفيد إلا الظن؛ فسدوا على أنفسهم هذا الباب.

ناقشهم العلماء كـابن القيم رحمه الله، وبين أن قولهم هذا خطأ، وأن الواجب قبولها، وأنها قطعية الثبوت، ولو كانت آحاداً، فهي تفيد اليقين، والناس يضطرون إلى العمل بها، فكما يعملون بها في الفروع فكذلك يعتقدونها في الأصول، وكما يعملون بها في الواقع فكذلك يصدقونها في الواقع، والكلام عليها طويل.

قد ناقش أدلتهم العلماء، وأول من أثار الكلام فيها الإمام الشافعي في رسالته التي تعرف بـ(الرسالة في أصول الفقه)، وكذلك الإمام البخاري في آخر صحيحه قال: كتاب أخبار الآحاد. وبين أدلتها والعمل بها في الفروع وفي الأصول.

وتكلم عليها ابن القيم في كتابه (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)، وكسر ما يتعلق به الجهمية من رد هذه الأخبار، وبين أنها تفيد العلم القطعي، وأنها ليست ظنية الثبوت كما يقولون، وعلى هذا تصير دلالتها واضحة، ولو ردها من ردها منهم.

فمثلاً: أحاديث الشفاعة متكاثرة متواترة، وإن كانت أفرادها آحاداً، ولكن مجيئها من طرق وعن عدد من الصحابة يثبتها ويوضحها، ولم تقبل ذلك المعتزلة الذين ينكرون شفاعة الشافعين، وكذلك الخوارج الذين ينكرون شفاعة الشافعين وإخراج العصاة من النار، فيقال لهم: أحاديث الشفاعة قطعية؛ لكثرتها، ولكنهم يردونها.

مثلاً: أحاديث رؤية المؤمنين لربهم في الجنة، مروية عن عدد كبير من الصحابة بروايات قوية ثابتة، ليس فيها توقف، وليس فيها تردد، فهي متواترة في المعنى، وإن لم تكن متواترة في اللفظ، ومع ذلك يردونها، ويقولون: إنها لا تزال آحاداً ولم تخرج عن خبر الواحد.

والحاصل: أن عقيدة أهل السنة أن الدلالة السمعية هي الأصل وهي المرجع، فكما أننا صدقنا بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا نكون متبعين له حق الاتباع إلا إذا تقبلنا كل ما بلّغه من الشريعة، فهو الذي بلغ القرآن فنعمل به في الأصول والفروع، وهو الذي علمنا، وبين لنا القرآن بفعله وبقوله، فلابد أن نعتقد ذلك، وهو الذي أخبرنا عن الأولين، وهو الذي أخبرنا عن الآخرين، وهو الذي أخبرنا عن الدنيا، وهو الذي أخبرنا عما يكون في الآخرة، وكل ذلك من شريعته وسنته، ولا نكون مصدقين له إلا إذا صدقناه بكل دقيق وجليل.

طريقة أهل السنة في التعامل مع النص

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وطريق أهل السنة: ألا يعدلوا عن النص الصحيح، ولا يعارضوا بمعقول ولا قول فلان، كما أشار إليه الشيخ رحمه الله، وكما قال البخاري رحمه الله: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي رحمه الله، فأتاه رجل فسأله عن مسألة، فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال رجل للشافعي : ما تقول أنت؟! فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة! تراني في بيعة! ترى على وسطي زناراً؟! أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت؟!

ونظائر ذلك في كلام السلف كثير، وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَة مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].

وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملاً به وتصديقاً له، يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وهو أحد قسمي المتواتر، ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع، كخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات) ، وخبر ابن عمر رضي الله عنهما: (نهى عن بيع الولاء وهبته) ، وخبر أبي هريرة : (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) ، وكقوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) .. وأمثال ذلك، وهو نظير خبر الذي أتى مسجد قباء، وأخبر أن القبلة تحولت إلى الكعبة، فاستداروا إليها.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل رسله آحاداً، ويرسل كتبه مع الآحاد، ولم يكن المرسل إليهم يقولون: لا نقبله؛ لأنه خبر واحد! وقد قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33]، فلابد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه؛ لئلا تبطل حججه وبيناته].

هذا بيان أدلة حجية أخبار الآحاد، يقول: إن الله تعالى فرض على الأمة قبول ما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبول الشريعة التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم، ووصف المؤمنين بأنهم يقدمون ذلك على قول كل أحد في مثل هذه الآيات، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] يعني: إذا جاءنا قضاء الله وقضاء رسوله فلا نقدم عليه أهواءنا، ولا نجعله محل تردد، ولا نقول: نعرضه على عقولنا، ولا نقول: نختار عليه قول مشايخنا فلان أو فلان، بل نجعله هو الأصل، وهو المقدم على قول كل أحد صغيراً كان أو كبيراً، وذلك هو وصف كل مؤمن، وهكذا -أيضاً- عمل أئمة الإسلام؛ كانوا يقدمون قول النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهاداتهم وعلى آرائهم، فهذا أبو حنيفة يقول: إذا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي الحائط، وإذا جاء عن الصحابة فاضربوا بقولي الحائط، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال؛ وذلك لأنه من علماء التابعين.

وهذا الإمام مالك رحمه الله يقول: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر. يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإمام مالك جعل على نفسه أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرد منه شيء، أما قول غيره فإنه محل للقبول وللرد؛ وذلك لأنه محل اجتهاد، وأما قول الرجال فإنها تدور على قدر الأدلة في النقد.

والثابت عن الإمام الشافعي في ذلك أكثر وأكثر كما في هذه القصة، جاء رجال إلى الإمام الشافعي ، وسأله عن مسألة، والإمام الشافعي يحفظ فيها حديثاً ثابتاً، فيقول: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، وذلك السائل كأنه ما قنع، فقال: ما تقول أنت يا شافعي ؟ فغضب الإمام الشافعي أشد الغضب ، وقال له هذه المقالة: سبحان الله! أتراني في بيعة! أتراني في كنيسة! أترى على وسطي زناراً؟! أقول: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، وتقول: ماذا تقول أنت؟!

يعني: أنني إذا عرفت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يكون لي اختيار؟! هل يكون لي رأي مع رأي الرسول عليه الصلاة والسلام؟! حاشا الشافعي وحاشا غيره من الأئمة أن يكون لهم أي اختيار.

كذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ثبت عنه أنه قال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان الثوري - والله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] ، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.

سفيان بن سعيد الثوري إمام من الأئمة وعالم من علماء العراق، مشهور بالعلم، ومع ذلك له آراء قد تكون مخالفة للدليل، فيقول: إن هؤلاء الذين يأخذون رأي سفيان ، ويتركون الأحاديث مع معرفتهم بصحتها، حري أن تنطبق عليهم هذه الآية، وهي قوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

من الأدلة الدالة على قبول خبر الآحاد

أخبار الآحاد لا شك أنها متى ثبتت فإنها تفيد اليقين، وتفيد العلم، وضرب الشارح لذلك أمثلة، وذكر على ذلك أدلة، منها: أن أهل قباء كانوا يصلون إلى القبلة التي كانوا عليها، إلى جهة بيت المقدس، فجاءهم رجل واحد وهم في نفس الصلاة، وقال لهم: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها)، فصدقوه وهو واحد، وهم على قبلة متحققين لها، فاستداروا من الشمال إلى الجنوب نحو الكعبة، وعملوا بقوله وهو واحد، فلا شك أن هذا دليل على أن خبر الواحد الصادق المتثبت يعمل به ويقدم ويصدق.

رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد، ومع ذلك صدقوه وقبلوا ما جاء به، والرسل الذين يرسلهم الله تعالى غالباً أنهم أفراد، أرسل الله نوحاً وحده، وأرسل هوداً وأرسل صالحاً وأرسل شعيباً وأرسل لوطاً وأرسل موسى وهارون، ولا شك أن هذا دليل على أن خبر الواحد يقبل ويفيد العلم.

كذلك نبينا صلى الله عليه وسلم كان يرسل الدعاة أفراداً، فأرسل معاذاً -مثلاً- إلى اليمن داعية إلى الله، وكذلك أرسل أبا موسى ، وأرسل علياً ، وأرسل عماراً ، وأرسل سلمان ، كل منهم إلى جهة، أرسلهم للدعوة.

كذلك -أيضاً- كان يرسل جباة الزكاة أفراداً، يأتي الفرد الواحد إلى أهل الإبل أو الغنم، ويقول: أعطوني زكاتكم، أنا مرسل من النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يقولون له: أنت واحد. بل يقولون: خذ زكاة أموالنا. فيقبلون خبره.

الحاصل: أن الأدلة متنوعة، وإنما هذه نماذج مما ذكر منها.

وبذلك يعرف أن الحق قبول خبر الواحد إذا كان ثابتاً ويقيناً، وأن الناس يعملون بذلك، فما دام كذلك فلا مجال لرد ثلث السنة أو ثلثيها بهذه الشبهة، ومع ذلك فالذين ردوها ما ردوا إلا قسماً خاصاً وهو ما يتعلق بالعقائد، وأما ما يتعلق بالأعمال فإنهم رأوا الناس يعملون به، وقالوا: إن الناس يعملون بخبر الآحاد فهو يفيد العمل ولا يفيد العلم.

وهذا في الحقيقة تناقض، ومعلوم أن كتب السنة قد تلقتها الأمة بالقبول وعملوا بها، فصحيح البخاري تلقته الأمة بالقبول، واعتقدوا ما فيه، وصاروا يعملون به ويطبقونه، ولم يقولوا: إنه أخبار آحاد. وكذلك صحيح مسلم، وكذلك الكتب التي تعتمد الصحة تلقتها الأمة بالقبول بدون توقف، فكانوا يعملون بما فيها؛ لأنها ثابتة، وأسانيدها قوية، ليس فيها كذاب، وليس فيها من يشك في صدقه، وبذلك يعرف أن الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم محل القبول، لا يجوز ردها، حتى ولو خالفت ما في العقول، حتى ولو خالفت ما في فطر الناس أو في أفكارهم، تقدم على قول كل قائل، وعلى عقل كل عاقل، سيما وعقول أولئك الذين ردوا السنة أو ردوا الآيات عقول مضطربة، عقول مختلفة، وشبهاتهم التي يشبهون بها لا شك أنها مضطربة أيما اضطراب، ويحصل فيها التناقض.

فيشاهد أن الواحد منهم يبقى -مثلاً- ثلاثين سنة وهو يقول: إن هذه الصفة ينكرها العقل، ثم بعد ثلاثين سنة، وبعدما يكون نضج عقله، يرجع ويقرها!

سبحان الله! ثلاثين سنة من زمانك ومن عمرك وأنت تنكرها، ثم بعد ذلك أقررت بها، هل تغير عقلك؟! هل تبدل عقلك؟! فهذا دليل على أن عقولهم ليست ميزاناً.

وكذلك نجد مجموعة -مائة أو ألفاً- من العلماء في هذا البلد ينكرون هذه الصفة، ويقولون: العقل ينكرها، ونجد في البلد الثاني ألفاً أو ألوفاً يقرون بها، ويقولون: العقول تثبتها، فإذاً: كيف تكون هذه العقول مختلفة؟ هؤلاء يقولون: نثبت، وهؤلاء يقولون: ننفي، هؤلاء يقولون: لا يقر بها العقل، وهؤلاء يقولون: بل يثبتها ويوجبها..! إذاً: فهذه العقول تضطرب؛ فهي عقول غير متزنة.

فأدلتهم وشبهاتهم هذه لا عبرة بها، وقد شبهها بعض العلماء بالزجاج الذي يضرب بعضه بعضاً فيتكسر، إذا ضربت الزجاجتين إحداهما بالأخرى بقوة هل يبقى منهما شيء؟ كلاهما تتكسر، فهكذا أدلة هؤلاء مع هؤلاء تضرب هذا بهذا فيتكسر الدليلان، أما أدلة أهل السنة من الكتاب والسنة فإنها ثابتة، لا يعتريها شيء من التغير.