شرح أخصر المختصرات [17]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وآله وصحبه أجمعين. أما بعد:

قال المصنف رحمه الله: [فصل: والاعتكاف سنة، ولا يصح ممن تلزمه الجماعة إلا في مسجد تقام فيه إن أتى عليه صلاة، وشرط له ‏طهارة مما يوجب غسلاً.

وإن نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة؛ فله فعله في غيره، وفي أحدها فله فعله فيه وفي ‏الأفضل، وأفضله المسجد الحرام ،ثم مسجد النبي-عليه السلام- فالأقصى.

ولا يخرج من اعتكف منذوراً متتابعاً إلا لما لا بد منه، ولا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة إلا ‏بشرط . ‏

ووطء الفرج يفسده، وكذا إنزال بمباشرة، ويلزم لإفساده كفارة يمين.

وسن اشتغاله بالقرب، واجتناب ما لا يعنيه .]

يذكرون الاعتكاف بعد الصيام اقتداء بالكتاب العزيز، فإن الله تعالى لما ذكر الصيام أتبعه بالاعتكاف في قوله تعالى : وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187].

والاعتكاف : لزوم مسجد لطاعة الله، هذا هو الاعتكاف في الشرع، فلابد أن يكون في مسجد؛ حتى لا تفوت المعتكف الجمعة والجماعة؛ لأن التفرد والوحدة التي تفوت صلاة الجماعة لا خير فيها.

والقصد من الاعتكاف : التفرغ للتزود من العبادة، فلأجل ذلك فالمعتكف يكون منفرداً مشتغلاً في زاوية من المسجد بأنواع الطاعة: فيقرأ القرآن، ويكثر من تدبره، ويكثر من ذكر الله تعالى بأنواع الذكر، ويكثر من الأدعية رجاء إجابتها، ويشتغل بالصلوات النوافل، ويكثر من التقرب إلى الله تعالى، ويعتزل مجالسة العامة، والخوض في الدنيا وفي أمورها الخاصة، ويصون لسانه عن الكلام السيئ الذي ينافي العبادة، ولا يهتم بأمور الدنيا، ولا ينشغل بشيء من ملذاتها، ولا يهتم بالسؤال عن شيء من أمور الدنيا من أمواله أو نحوه إلا لضرورة.

حكم الاعتكاف

الاعتكاف سنة مؤكدة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، وما ترك الاعتكاف إلا سنة من السنين ثم قضاه في شوال.

ودخل مرة معتكفه، وأمر أن يبنى له خباء في جانب المسجد، فبني له خباء يستتر به، واستأذنته عائشة أن تعتكف وتبني لها خباء، فلما رأتها حفصة بنت خباء، ثم رأتهن زينب فبنت خباء، فلما انصرف من صلاة الصبح وإذا بالمسجد قد امتلأ بتلك الأخبية التي ضيقت على المصلين، فعرف أن هذا من باب المنافسة، فأمر بها فنقضت؛ وترك الاعتكاف في تلك السنة، واعتكف في شوال عشرة أيام؛ لأنه أحب أن يداوم على هذه العبادة.

والاعتكاف سنة، ولكنه يجب بالنذر، فإذا نذر أن يعتكف لزمه الوفاء بنذره.

شروط الاعتكاف ومن يصح منه الاعتكاف

ممن يصح الاعتكاف؟

يصح ممن تلزمه الجماعة، وهو: المسلم الحر البالغ العاقل، فلا يصح الاعتكاف من الكافر، ولا من الصغير، ولا من المجنون، ولا يصح من العبد إلا بإذن سيده.

ويشترط أن يكون في مسجد، قال تعالى: (( وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ))[البقرة:187]، ويشترط في هذا المسجد أن تقام فيه صلاة الجماعة، وإذا كان يتخلل اعتكافه الجمعة اختار أن يعتكف في مسجد فيه جمعة حتى لا يخرج؛ لأنه إذا اعتكف في مسجد لا تصلى فيه الجماعة احتاج أن يخرج كل يوم خمس مرات، وكثرة الخروج تنافي الاعتكاف، فإذا كان في مسجد تقام فيه الجماعة فإنه يصلي فيه، ولا تفوته الجماعة، ولا يخرج من معتكفه.

ويشترط أيضاً: الطهارة مما يوجب غسلاً، فلا يعتكف في المسجد وهو جنب، وإذا قدّر أنه احتلم خرج فوراً واغتسل.

حكم نذر الاعتكاف

يجب الاعتكاف بالنذر، فإذا نذر أن يعتكف وجب عليه الوفاء، وخالف في ذلك الحنفية وقالوا: لا يجب الوفاء بالنذر إلا في أشياء جنسها واجب بأصل الشرع، والاعتكاف ليس جنسه واجباً بأصل الشرع، فيجب عندهم الوفاء بنذر الصلاة؛ لأن منها ما هو واجب، والوفاء بنذر الصوم؛ لأن هناك صوم الفرض، والوفاء بالصدقة؛ لأن هناك زكاة الفرض، والوفاء بالحج إذا نذره، وأما الاعتكاف فلا يجب عندهم، والصحيح أنه يجب لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ، فإذا نذر طاعة وجب عليه الوفاء، والاعتكاف طاعة فيجب عليه الوفاء، سواء كان النذر مطلقاً أو معلقاً، فإذا قال: إن رزقت ولداً فلله عليّ أن أعتكف عشراً في هذا الشهر، ثم رزق ولداً؛ وجب عليه الوفاء؛ وذلك لأنه ألزم به نفسه وتحقق الشرط، وكذلك إذا لم يعلق بأن قال ابتداء: لله علي أن أعتكف في هذا الشهر يوماً أو عشراً أو نحو ذلك.

أقل مدة للاعتكاف

اختلف في أقل الاعتكاف، فقيل: يكفي أن يعتكف ساعة: ستين دقيقة، وقيل: أقله يوم أو ليلة، ولعل هذا هو الأقرب؛ وذلك لأن في حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام -وفي رواية : ليلة- فقال: أوف بنذرك) ، فعلى هذا أقل مدة للاعتكاف اثنتا عشرة ساعة: يوم بدون ليلة أو ليلة بدون يوم، فأما اعتكاف ساعة فلا يسمى اعتكافاً؛ لأن الاعتكاف في الأصل هو طول الملازمة، وطول الإقامة في المكان الذي يجلس فيه، وقد كان المشركون يعكفون عند معبوداتهم كما في قولهم : نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ [الشعراء:71] يقيمون عندها يوما أو أياماً، وكذلك قول إبراهيم عليه السلام: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]، فالحاصل أنه إذا أراد أن يعتكف فلا أقل من يوم أو ليلة.

تعيين الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة غير ملزم

إذا نذر الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة لم يلزمه فيه، بل يجوز في غيره، ومثال ذلك: إذا نذرت وقلت: لله علي أن أعتكف في هذا المسجد يوماً ولا أخرج منه، جاز لك أن تعتكف في المسجد الثاني الذي يقع جنوب أو يقع شمال، وجاز لك أن تعتكف في كل مسجد يوماً؛ لأن القصد هو العبادة، وهذا المسجد ليس له مزية على غيره، فكلها مساجد تصح فيها العبادة.

أما إذا خص أحد المساجد الثلاثة فإنه يلزمه فيه، والمساجد الثلاثة هي التي تشد إليها الرحال، وأفضل المساجد الثلاثة : المسجد الحرام؛ لأن الصلاة فيه بمائة ألف، ثم يليه المسجد النبوي، والصلاة فيه بألف، ثم المسجد الأقصى والصلاة فيه بخمسمائة.

روي أن رجلاً قال: (يا رسول الله ! إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في المسجد الأقصى، فقال: صل ها هنا) يعني : في مسجد مكة؛ لأنه أفضل، فقال: (إني نذرت في ذلك المسجد، فكرر عليه ذلك مراراً، فقال: شأنك إذاً) فإذا اخترت ذلك فلك ذلك، فمن نذر أن يصلي أو يعتكف في المسجد الأقصى جاز له أن يقضي نذره أو صلاته في المسجد النبوي؛ لأنه أفضل، ومن نذر أن يعتكف أو يصلي في المسجد النبوي جاز له أن يعتكف أو يصلي في المسجد الحرام؛ لأنه أفضل، ومن نذر أن يعتكف أو يصلي في المسجد الحرام لم يجزئه في غيره؛ لأنه ليس هناك ما هو أفضل منه، فأما المساجد الأخرى فإن بعضها ينوب عن بعض، فإذا نذر أن يعتكف أو يصلي في مسجد قباء جاز أن يصلي أو يعتكف في غيره من مساجد المدينة، أو في المسجد الأموي في دمشق الشام أو في مسجد عمرو بن العاص في مصر، وكذلك في غيره.

والحاصل : أنه إذا نذر في غير المساجد الثلاثة صلاة أو اعتكافاً فإنه يجزئه في غيره، وأما في الثلاثة فلابد أن يجزئ في أحدها، وإن عين الأفضل لم يجزئه في غيره، والأفضل هو مسجد مكة (المسجد الحرام) ثم المسجد النبوي ثم المسجد الأقصى (مسجد بيت المقدس).

حكم نذر الاعتكاف متتابعاً

قوله: (ولا يخرج من اعتكف منذوراً متتابعاً إلا لما لابد منه) لأنه صار واجباً بنذره، فإذا نذر صياماً متتابعاً فإنه يلزمه التتابع إلا لعذر، وإذا نذر اعتكافاً متتابعاً وجب الوفاء به، والتتابع : كأن يقول: نذرت أن أعتكف هذا الأسبوع، والأسبوع سبعة أيام، فإنه يجب عليه أن يتابع هذا الأسبوع ولا يقل : أعتكف يوماً ثم أخرج ثم أعتكف يوماً ثانياً حتى أتم سبعة؛ لأنها لا تسمى أسبوعاً.

ثم إن المعتكف لا يخرج إلا لما لابد منه، يخرج مثلاً لقضاء حاجته من البول ونحوه، ويخرج للطهارة إذا لم يكن هناك في المسجد ما يتطهر به، ويخرج للأكل إذا لم يجد ما يأكله أو لم يأت ما يأكله، أو يخرج لإحضار الطعام، ولكن يقتصر على قدر الحاجة.

الصيام في الاعتكاف مستحب وليس بواجب

اختلف هل يشترط مع الاعتكاف صوم؟

والصحيح أنه لا يلزم، والحديث الذي فيه (لا اعتكاف إلا بصوم) لم يثبت، والدليل على أنه يصح بدون صيام : الحديث الذي ذكرنا عن عمر أنه نذر أن يعتكف ليلة، والليل ليس محلاً للصوم، فدل على أنه يصح بلا صوم، والسبب في ذلك أنه عبادة مستقلة، والاعتكاف هو التفرغ للعبادة، فإن تيسر الصيام معه فهو أفضل، أما إذا كان في رمضان فيلزم؛ لأن رمضان واجب صومه بأصل الشرع، وإن اعتكف في غير رمضان فسنة أن يعتكف صائماً.

حكم خروج المعتكف لزيارة ونحوها

هل للمعتكف أن يعود مريضاً ويشهد جنازة؟

الصحيح أنه لا يفعل ذلك إلا إن اشترط فقال مثلاً: لله علي نذر أن أعتكف في هذا المسجد أسبوعاً، فلا يخرج لا لعيادة مريض ولا لشهادة ميت أو تشييعه إلا إذا اشترط، فقال: بشرط أن أعود فلاناً المريض، أو أن أعود المرضى من أقاربي، أو أن أشهد من مات منهم وأشيعه، فله شرطه؛ لأن المسلمين على شروطهم.

الأمور التي يفسد بها الاعتكاف

متى يفسد الاعتكاف؟

يفسده الوطء؛ لقوله تعالى : وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] عبر بالمباشرة عن الوطء، وكذلك لو أنزل بالمباشرة، والوطء : الجماع الصريح وإن لم يحصل إنزال، والإنزال الذي سببه التقبيل أو الضم أو المباشرة دون الفرج يفسد الاعتكاف، فإذا كان الاعتكاف منذوراً لزمه قضاؤه، ولزمه مع القضاء كفارة يمين؛ لأنه ما وفى بنذره إذا كان معيناً، والمعين كأن يقول : لله علي أن أعتكف العشر الأول من شهر ربيع الثاني، فحدد العشر الأول ثم أفسد منها يوماً بالإنزال أو بالجماع، فنقول له: كمل اعتكافك، واقض ذلك اليوم، وكفر كفارة يمين؛ وذلك لأنك ما وفيت بالشرط كما ينبغي.

وظائف الاعتكاف

ذكرنا أن المعتكف يعتزل الناس، وأنه ينفرد، فلا يأذن لأحد أن يزوره، ولا يفتح الباب للزوار ولكثرة المخالطين بل ينفرد عنهم، وإذا قدر أن زاره أحد فلا بأس أن ينبسط معه، ولكن لا يتمادى معه في شيء من كلام الدنيا.

وعلى المعتكف أن يشتغل بالقربات، ويشتغل بكثرة الذكر تسبيحاً وتحميداً وتهليلاً وتكبيراً واستغفاراً، ويشتغل بالدعاء، فيكثر من دعاء الله تعالى، ويشتغل بالصلوات في غير أوقات النهي، ويشتغل بالقراءة، ويتجنب ما لا يعنيه، يعني : الكلام الذي لا أهمية له فلا يتكلم في شيء من أمور الدنيا، ولا يتكلم في فلان أو فلان، ولا يتكلم في حالات الناس، ولا في أسعارهم، ولا في مبايعاتهم، ولا في الحوادث التي تحدث، يتجنب ذلك كله حتى يكتب له اعتكافه عملاً صالحاً، نكتفي بهذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد.

الاعتكاف سنة مؤكدة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، وما ترك الاعتكاف إلا سنة من السنين ثم قضاه في شوال.

ودخل مرة معتكفه، وأمر أن يبنى له خباء في جانب المسجد، فبني له خباء يستتر به، واستأذنته عائشة أن تعتكف وتبني لها خباء، فلما رأتها حفصة بنت خباء، ثم رأتهن زينب فبنت خباء، فلما انصرف من صلاة الصبح وإذا بالمسجد قد امتلأ بتلك الأخبية التي ضيقت على المصلين، فعرف أن هذا من باب المنافسة، فأمر بها فنقضت؛ وترك الاعتكاف في تلك السنة، واعتكف في شوال عشرة أيام؛ لأنه أحب أن يداوم على هذه العبادة.

والاعتكاف سنة، ولكنه يجب بالنذر، فإذا نذر أن يعتكف لزمه الوفاء بنذره.