هذا الحبيب يا محب 70


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

لنقضي ساعة مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وأذكركم بأننا في غزوة الخندق أو الأحزاب، وهي من أحداث السنة الخامسة من الهجرة النبوية الشريفة.

أولاً: عرفنا أسباب وقوع هذه الغزوة، وكيف حفر الخندق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حفره مع رجاله.. وعرفنا أيضاً بعض الآيات التي ظهرت عند حفره.

والآن مع [موقف مخزٍ للمنافقين] من هم المنافقون؟

هم الذين كانوا يظهرون الإيمان، ويعملون بشرائع الإسلام كالصلاة والزكاة وهم لا يؤمنون برسول الله نبياً رسولاً، ولا بالقرآن كتاب الله وحياً وتنزيلاً، ولا بلقاء الله والوقوف بين يديه يوم يلقاه الخلق.

قال: [لما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في حفر الخندق] وقد حفر الخندق وراء جبل سلع [كان المؤمنون يواصلون العمل وإن كانت لأحدهم حاجة ضرورية استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له، فيذهب إلى أهله] أي: بالمدينة [فيقضي حاجته ويعود] لأن نساءهم وأطفالهم كانوا بالمدينة، وهم يخرجون للعمل، ومن كانت له حاجة في بيته استأذن، فيأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم فيأتي إلى منزله فيقضي حاجته، لكن لا يخرج من الخندق والعمل فيه إلا بإذن من القائد صلى الله عليه وسلم، هذا بالنسبة للمؤمنين.

[أما المنافقون، فإن أحدهم يورّي بقليل من العمل] كأن الفأس بيده وهو يشتغل ساعة أو ساعة ونصفاً ثم يتسلل ويعود إلى أهله؛ لأنه لا يريد انتصار محمد ولا انتشار الإسلام [ثم يذهب إلى أهله بدون إذن ولا استئذان، في خفاء] ما استأذن ولا أذن له [فأنزل الله تعالى فيهم قوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]].

معاشر المؤمنين والمؤمنات! هذه الآية وإن كان نزولها خاصاً في حادثة معينة في يوم معين لكنها باقية ببقاء هذه الأمة، ألا -والله- فليحذر المؤمن والمؤمنة من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا [النور:63] معنى لواذاً: متسترين بشيء أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63]، والفتنة قد تكون ردة، وانتكاسة في القلب، وخروجاً من الإسلام، فليحذر الذين يخالفون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاكسونه ويعملون بخلافه عامدين متعمدين، أن تنتكس قلوبهم فلا يعودون إلى الإسلام، أو يصيبهم عذاب أليم في أبدانهم أو أولادهم أو أموالهم.

[ونزل في المؤمنين الصادقين ثناء الله عليهم] كما نزل في المنافقين الوعيد والتهديد والتحذير، نزل أيضاً ثناء الله على المؤمنين الصادقين [قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ] أي بصدق وحق [ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ ] كوجودهم في غزاة أو عمل يتطلب الجماعة والحضور [ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ] فلا يستطيع أبو بكر ولا عثمان ولا عبد الرحمن ولا سعد ولا سعيد أن يخرج من جلسة الرسول وهو يعلم أو يبين أو يرشد بدون إذن، لكن المنافقين تجد الواحد منهم يطأطئ رأسه ويجعل ظله شخصاً آخر ثم يشرد.

أما إذا كان الأمر ليس بجامع، ولم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بالاجتماع أو الحضور أو الإصغاء؛ فحينئذ ليس هناك من حاجة إلى أن يستأذن، فالاستئذان عندما يمنع القائد من الانصراف.

قال: [ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ] استئذانهم من الرسول آية إيمانهم وصدق إسلامهم [ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ] وإذا كان هناك مثل أبو بكر أو عمر لا يأذن له الرسول؛ فهذا لأنه رجل بألف، أما إذا كانت شخصية ليست ذات أثر في الاجتماع أو العمل فإنه يأذن لها صلى الله عليه وسلم، ولا يقول قائل: ما دمنا نستأذن فيجب على الرسول أن يأذن لنا، ولكن ترك الله الأمر للرسول القائد المسير للحركة والعمل، فإذا رأى شخصاً يحتاج إلى ذلك أذن له.

سبحان الله هذه التعاليم من ينزلها، من يعطيها، من يمنعها سوى الله؟!!

قال تعالى: [ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ [النور:62]] أي: ائذن لمن شئت منهم، إذا كان الأمر لا يتطلب بقاءه هذا اليوم أو هذه الساعة، واستغفر لهم أيضاً؛ خشية أن تكون هناك حالات طلبت الاستئذان وخرجت ولم يكن هناك داع إلى الانصراف أو الخروج [ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:62]] غفور لعباده المؤمنين رحيم بهم.

إذاً: عرفنا هذا الموقف المخزي للمنافقين، وهو أنه إذا كان لأحدهم أدنى شيء في بيته فإنه لا يستأذن ثم يتسلل ويخرج، أو يستأذن بالكذب فيقول: امرأتي كذا، أو في بيتي كذا، وهو كاذب؛ لأنهم غير مؤمنين، أموات ولا يشعرون، وأن الله ندد -تعالى- بهم وهددهم وتوعدهم؛ لأنه وليهم وربهم فقال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

وخالف المسلمون أمر نبيهم في الشرق والغرب ففعلوا المنهيات وتركوا الواجبات المحمدية، فأصابهم الله بالفتنة والانتكاسة، وأصبحوا أذلة، بل أكثر ذلاً من اليهود والنصارى! أما استعمروا وحكمهم الكفر؟ ووالله لهذه الآية أصدق ما يقال في حالهم: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ماذا يحذرون؟ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. ونحن كأفراد أيضاً، الذي يتعمد منا مخالفة أمر رسول الله ونهيه فلينتظر ما يصيبه من فتنة في نفسه أو أهله أو عذاب أليم؛ لأنها سنن لا تتبدل، فالطعام يشبع، والماء يروي، ومخالفة أمر الله ورسوله من شأنها أن تنتج هذا النتاج.

قال: [مواجهة العدو] فرغنا من حفر الخندق والآن جاءت المواجهة.

[وما إن تم حفر الخندق حتى وصلت قريش] من مكة [وعسكرت بمجمع الأسيال قريباً من بئر دومة بين الجرف والغابة. ووصلت غطفان بقبائلها، فعسكرت شرق المدينة بجانب أحد، وكان عامة أفراد قوات العدو تقدر باثني عشر ألف مقاتل، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وكانوا قرابة ثلاثة آلاف مقاتل، جعلوا ظهورهم إلى جبل سلع، ووجوههم تجاه العدو، بعد أن استعمل على المدينة ابن أم مكتوم الأعمى] رضي الله تعالى عنه، الذي نزل فيه قوله عز وجل: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1] [وجعل الناس والأطفال في الآطام والحصون] والآطام: جمع أطم، وهو الحصن أو البيت المرتفع يختبئون فيه.

قال: [عمل شرير يقوم به ابن أخطب ] حيي بن أخطب اليهودي عليه لعائن الله، وهو أبو صفية أم المؤمنين رضي الله عنها، ولكن وقتها لم يكن الرسول تزوج بـصفية بعد؛ لأن صفية إنما كانت من أسرى خيبر، ونحن الآن ما زلنا في غزوة الخندق.

قال: [وذهب حيي بن أخطب -عليه لعائن الله-] وهو نضري ممن خرجوا مع بني النضير من المدينة، واستقبلهم اليهود في خيبر بالحفلات. إذاً: بقي هناك ليكيد ويمكر ويدبر [إلى كعب بن أسد القرظي -صاحب عقد بني قريظة وعهدهم-] هذا كعب بن أسد قرظي من بني قريظة، وهو الذي وقع الاتفاقية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [إذ كان عاقد الرسول صلى الله عليه وسلم وعاهده على قومه] وثيقة معروفة [فلما سمع كعب صوت حيي وعرفه] وهو يقرع الباب [أغلق باب حصنه دونه، فاستأذن حيي فلم يأذن له، فصاح حيي : ويحك يا كعب! افتح لي، فقال كعب : ويحك يا حيي! فإنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمداً؛ فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا الوفاء والصدق. وما زال يراوده على الفتح حتى فتح له الباب ودخل، وكان أول ما قال قوله: ويحك يا كعب ! لقد جئتك بعز الدهر، وببحرٍ طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال] وهو الذي جاء بهم فعلاً، فهو الذي ذهب إليهم وإلى الغطفانيين وألب الناس على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هيا ننهي هذه المشكلة!

وهل بقي يهود من هذا النوع؟ نعم. إن كل المؤامرات والدمار والخراب في العالم الإسلامي هم الذين يقودونه.

إذاً: عرفنا حيي بن أخطب وكيف استطاع أن يؤلب العرب من الشرق والغرب ويأتي بهم للقضاء على رسول الله والإسلام وأصحابه، وهو يهودي واحد، وكل الحروب التي دارت في العالم هم أصابعها، والمدبرون لها بشهادة غيرهم.

قال: [وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جنب أحد، قد عاهدوني ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه] يعني: لا يتركون الحرب حتى ينهوا الرسول ورجاله [فقال له كعب : جئتني والله بذل الدهر] لا كما تزعم [ويحك يا حيي! فدعني وما أنا عليه] أي: اتركني وما أنا عليه [وما زال حيي يراود كعباً حتى نقض عهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرئ مما كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم. وبهذا نقضت قريظة عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم] كما نقضت قبلها بنو النضير وبنو قينقاع.

قال: [وبلغ هذا النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل السعدين] لما بلغه أن بني قريظة نقضوا عهدهم أرسل السعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وهما من الأنصار [لتقصي الحقيقة، ومعرفة ما إذا كانت قريظة قد نقضت عهدها حقاً.

وذهب السعدان رضي الله عنهما ومن معهما، وعادوا بالحقيقة المرة، وهي أن قريظة قد نقضت عهدها، وهي على أخبث حال] من التغيظ [وقد أوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم] لما بعثهم يستطلعون [إذا كانت قريظة قد نقضت عهدها ألا يصرحوا بذلك] وهي سياسة حربية، لا يعرفها إلا من عايش رسول الله صلى الله عليه وسلم [ولكن يلحنوا لحناً؛ حتى لا يفتتن الناس في المعسكر] أي معسكر؟ معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف جبل سلع [ولا يفت في أعضادهم، ولذا قالوا: عضل والقارة] وهذا هو الرمز، يعني: أنهم غدروا كما غدرت عضل والقارة في الرجيع وقتلوا خبيباً ومن معه.

قال: [أي: كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه، وهنا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر وقال: ( أبشروا يا معشر المسلمين! )] فرفع معنوياتهم إلى عنان السماء، ونعم أبشروا يا معشر المسلمين بأن عاقبة الغدر والغادرين معروفة، فلن يفلحوا.

قال: [بنقض قريظة عهدها عظمت الفتنة واشتد البلاء وعظم الكرب]؛ لأن قريظة جنوب المدينة والشمال الشرقي والغربي كان فيه المشركون [وأصبحت الحال كما وصف الله تعالى في كتابه، إذ قال من سورة الأحزاب: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:10]] من جاءهم؟ العدو، من فوق بنو قريظة ومن أسفل بنو غطفان وقريش [أي: قريظة من فوق الجنوب الغربي، وقريش وغطفان من أسفل، إذ هم من الشمال الغربي والشرقي، وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10] أي: من شدة الخوف وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10]، أي: المختلفة] المتنوعة، كل يفهم فهمه ويتوقع شيئاً [وهذه حال المنافقين وضعفة الإيمان، أما المؤمنون الصادقون فهم كما قال تعالى فيهم: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:11-12]] أي: أين وعد الله ورسوله بالنصر والغلبة والانتصار؟ كيف غرروا بنا؟! وهذه كلمات المرضى والمنافقون وضعفة الإيمان، سجلها الرحمن عز وجل.

قال: [إذ قال معتب بن قشير ] وهو من كبار المنافقين [كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!!] فصحاء وبلغاء الشياطين، قال: أيعدنا محمد أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط؟ إذ ما كان عندهم مراحيض في بيوتهم، ولكن يتغوطون خارج البلد.

[وقال أوس بن قيظي : يا رسول الله! إن بيوتنا عورة من العدو، أي مكشوفة له، فأذن لنا أن نخرج -أي من المعسكر- فنرجع إلى ديارنا، وهو ومن مالأه من قومه المعنيون بقول الله تعالى: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13] في آيات كثيرة تكشف عوارهم وتظهر نفاقهم] وقال: يثرب، لم يقل: المدينة؛ ليحيي ذكر الجاهلية، يعني ماذا تصنعون وراء جبل سلع، ارجعوا إلى بيوتكم، ثم َيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ، أي: مكشوفة، نخشى العدو أن يهاجمنا ويأخذ نساءنا وأطفالنا وأموالنا، قال تعالى: وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13] أي: هروباً من المعركة، فما أطاقوا المواجهة.

قال: [رحمة نبوية تتجلى في عرض صالح] يا رجال السياسة تعالوا إلى مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، لتسمعوا! رحمة نبوية تظهر في عرض سياسي صالح. ما هذا العرض؟

[ولما رأى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم صعوبة الموقف وشدة البلاء، وما أصاب المسلمين من مخاوف بعث إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف -وهما قائدا غطفان- يعرض عليهما صلحاً] ما الصلح؟ [وهو أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا بمن معهم من قومهم] قال: يا جماعة نعطيكم ثلث ثمر المدينة من العجوة إلى البرني، وعودوا إلى دياركم ولا حاجة إلى قتالنا [وتم الصلح حتى كتبت الوثيقة] كان يريد صلى الله عليه وسلم أن يدفع عن المؤمنين هذا البلاء وهذا الخطر، فالنساء والأطفال والرجال في كرب، والمدينة مطوقة من الغرب والشمال بأعداء لا يريدون إلا أن يقضوا على حياة المسلمين، فكيف الخروج من هذه الفتنة؟

قال: [إلا أنها لم يشهد عليها بعد] ولم يوقع التوقيع النهائي [وقبل التوقيع النهائي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السعدين] وهما من الأنصار -وهذه سياسة أخرى لا نسمو إليها- لعلمه بكمالهما وحسن مواقفهما وقوة أنوارهما وإيمانهما؛ وهم أهل البلد وأعيانه [فذكر لهما واستشارهما فيه] نمضي هذا أم لا؟ [فقالا له: يا رسول الله! أمراً تحبه فنصنعه أم شيء أمرك الله به لا بد لنا من عمل به، أم شيء تصنعه لنا؟ قال: ( بل شيء أصنعه لكم )] يعني: لا لنفسي ولا لأن الله أمرني، ولكن فقط نظراً إلى ما أصاب المدينة وأهلها فرأيت أن أنقذكم من هذه الفتنة [( والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم لأمر ما )] ولو مؤقتاً. هذه كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم للسعدين، ومن لا يستلذ كلامه صلى الله عليه وسلم لا يستلذ البقلاوة ولا الرز واللحم.

[فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله!] سمعتم كيف ينادون الرسول؟ بعنوان الرسالة [قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرىً] ضيف يعني [أو بيعاً] قال: كنا على الجاهلية والشرك والكفر فما كان يأكلون تمرة من تمر المدينة إلا ضيفاً أو من بعناه [أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه] أي بالإسلام [نعطيهم أموالنا؟! والله لا ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فأنت وذاك )، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة (الوثيقة) فمحاها، ثم قال: ليجهروا علينا] أي: يحاربونا.

قال: [بداية المعركة] تبتدئ الآن فأين الأبطال؟

[ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وجهاً لوجه أمام العدو، وتحركت خيل من قريش على رأسها عمرو بن عبد ود ] هذا ونحن أطفال صغار يصورونه لنا-أيام كنا في المغرب- ويسمونه: رأس الغول، وقد حاربه علي وقتله، ولكي يظهروا شجاعة علي وبطولته يرسمونه ويرسمون عمرو بن ود هذا.

قال: [فمروا بخيمات بني كنانة فقالوا لهم: تهيئوا يا بني كنانة للحرب فستعلمون من الفرسان اليوم!! ثم أقبلوا تُسرع بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه] أي الخندق [قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها] وهو كذلك، من أرشد إلى حفر الخندق؟ سلمان الفارسي وهو أعجمي رضي الله عنه.

[ثم قصدوا مكاناً ضيقاً من الخندق فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم بين السبخة وسلع، وما إن رآهم المسلمون حتى خرج علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين ووقفوا بينهم وبين الثغرة التي دخلوا منها بخيلهم، ولما رأوا ذلك أقبلوا مسرعين نحو الثغرة التي أخذت منهم فوقفوا دونها] خشية أن يغلق عليهم الباب ويؤكلون [وقال عمرو بن ود ] وود: هذا صنم، ود وسواع ويغوث ويعوق كلها أصنام [من يبارز؟] يخرج لنا ويظهر [فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له: يا عمرو ! إنك قد كنت عاهدت الله تعالى ألا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذتهما منه، قال له: أجل! فقال له علي : إني أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الإسلام، فقال: لا حاجة لي بذلك، قال علي : فإني أدعوك إلى النزال، فقال له: لم يا ابن أخي؟! فوالله ما أحب أن أقتلك] وهو صادق [فقال علي : لكني -والله- أحب أن أقتلك] علي حي ينظر بنور الإيمان، وذلك ميت في الظلمات، يأسف أن يقتل هذا الشاب.

قال: [فحمي عمرو عند ذلك] اشتعلت فيه نار الحماسة [فنزل عن فرسه وعقره وضرب وجهه] حتى لا يفكر في الهرب بل يواصل النزال حتى النهاية. وهذا من مظاهر البطولات، كسفن غزاة أسبانيا عندما أحرقها طارق بن زياد حتى لا يفكر أحد في العودة.

[ثم أقبل على علي ينازله فتنازلا وتجاولا، فقتل علي عمراً ، ولما رأت خيل المشركين ذلك فرت هاربة مقتحمة الخندق] انهزموا [ولم يقدروا بعد هذه الجولة أن يقتحموا الخندق لا رجالاً ولا فرساناً] أي: لا مشاة ولا ركباناً، وإنما هي الاقتناص والرماية] بالسهام [حتى إن ابن العرقة رمى سعد بن معاذ بسهم وقال: خذها وأنا ابن العرقة ، فقال له: سعد ، عرق وجهك في النار] وهذه سميت عرقة؛ لأن رائحتها كانت طيبة، وهي جدة لـخديجة رضي الله عنها أم أمها.

[وكان سعد قد أصيب في أكحله] والأكحل: عرق في الذراع إذا أصيب فيه العبد قل أن يعيش، فالدم يسيل لا يقف، وإذا فرغ الدم من الجسم انتهت الحياة [وقل من ينجو من الموت من أصيب إصابته؛ ولذا دعا فقال: اللهم إن كنتَ أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها؛ فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه] أي: من مكة. يقول هذا الكلام وهو يعاني ما يعاني من هذا الجرح العجيب [اللهم إن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعله لي شهادة] يعني: إذا انتهت الحرب من اليوم اجعل هذا الجرح شهادة لي أموت به [ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة] اليهود.

قال: [وعظم البلاء، وفزع الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى ربه يدعوه ويسأله النصر له والهزيمة لأعدائه، فقال: ( اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم ) وقال له بعض أصحابه: يا رسول الله! هل من شيء نقوله؟] يعني: هل من دعاء خاص ندعو الله به؟ [فقد بلغت القلوب الحناجر، فقال: ( نعم، قولوا: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا )] عوراتهم في المدينة نساءهم وأطفالهم وأموالهم. وروعاتهم؛ لأنهم في روع عظيم، فهناك اثنا عشر ألفاً جاءوا من كل جهة لإبادتهم.

قال: [وقد حالت المواجهة للعدو دون صلاة العصر حتى غربت الشمس]؛ لأن صلاة الخوف لم تكن نزلت بعد، فاشتغلوا عن صلاة العصر حتى غربت الشمس [فصلى بعد ذلك ودعا على المشركين فقال: ( ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى )] أي: صلاة العصر [وحصل هذا عدة مرات وذلك؛ لأن صلاة الخوف لم ينزل القرآن بها بعد، وإلا لصلوا على أي حال ولا يؤخرونها عن وقتها] ينقسمون قسم يصلي وقسم يواجه أو يحرس.

[واستجاب الله دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم ودعوة عباده المؤمنين] الصادقين [فساق إلى رسوله نعيم بن مسعود الغطفاني -بعد أن هداه إلى الإسلام فأسلم-] كان كافراً مشركاً، فهداه الله للإسلام وجاء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم [وأتى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: يا رسول الله! إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت نفعل] الفرصة متاحة [فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة )] (فخذل) أي: العدو. يعني: تستطيع أن تقول: الرسول عنده كذا كذا، وقل ما شئت فإن الحرب خدعة.

قال: [وخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة] أولاً اليهود [وكان لهم نديماً في الجاهلية] كان يشرب معهم الخمر ويسهر معهم في الجاهلية، يعني: صديقهم على الباطل، فلهذا يفرحون به ويفتحون له الباب [فقال: يا بني قريظة! قد عرفتم ودي إياكم] أي: حبي لكم [وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم. فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحوّلوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليهم، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم] إذاً [فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه. فقالوا له: لقد أشرت بالرأي] أي: قال: امشوا إلى قريش وبني غطفان وقولوا: أعطونا من خياركم رهناً عندنا لنقاتل وننقض العهد، أما أنتم بعيدون ودياركم آمنة بعيدة ونحن في قلب المعركة ووسط المدينة فليس بعدل! إن كنتم صادقين أعطونا أشرافكم، من كل قبيلة نفران أو ثلاثة أو أربعة.

وهذا تدبير سياسي من نعيم بن مسعود ، ولو ذهب اليهود يطالبون بذلك ما قبلت قريش ولا غطفان.

إذاً ننتهي إلى هذا الموقف لنواصله في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

معاشر المستمعين! هيا نستغيث ربنا ولا نيأس ولا نقنط بل نرجو ويزداد رجاؤنا في أن لا يخيبنا في دعائنا.

اللهم يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا مالك الملك يا ذا الجلال والإكرام، يا من هو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، اسقنا وأغثنا ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا ولا تجعلنا من القانطين، اللهم عجل لنا بسقيا عاجلة يا رب العالمين، اللهم سقيا نافعة غير ضارة وعاجلة غير آجلة يا رب العالمين.

وإني أدعوكم يا عباد الله! أن تدعوه بالليل وأنتم ساجدون، يا من يقومون آخر الليل، لا تكتفوا بهذه الدعوة الجامعة، فليدعو كل واحد منكم وهو ساجد، يدعو ربه ليغيثنا ويسقينا ويحقق رجاءنا فيه.

اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا ولا تجعلنا من القانطين.

اللهم إن عبداً من عبادك الصالحين -فيما نعلم وأنت أعلم- امرأته على فراش منذ زمن ويقول: ادع الله لها، وإن داعوك يا رب العالمين، فاشفِ هذه المؤمنة، اللهم اشفها وعجل بشفائها، اللهم اشفها وعجل بشفائها. كرامة منك لنا يا رب العالمين!

وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..