أرشيف المقالات

الأفغاني والوحدة الإسلامية

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف - 3 - ماذا كان يرجو السيد الأفغاني من وراء الوحدة؟ وماذا كان يعلق عليها من الآمال والأغراض؟ ويحدد لها من الأهداف والغايات؟ لقد كان الرجل يقف من ذلك بادئ الأمر عند مسألة المسائل، فكان كل ما يرجو أن تكون الوحدة قوة دفاعية تقف في وجه الاستعمار، وتقوم (سداً يحول عن المسلمين السيول المتدفقة عليهم من كل جانب)، ومعنى هذا أنه كان يرجو من الوحدة أن تكون وقاية وحماية، هدفها الوقوف في وجه الخطر وكفى، ولكنا نراه بعد ذلك يتوسع في الأمل، ويتفسح في الغاية، إذ يقرن (بالميل إلى وحدة تجمع، الكلف بسيادة لا توضع!!، ويطمع أن يرى المسلمين (تتلاقى هممهم، وتتلاحق عزائمهم في سبيل الطلب، فيندفعون للتغلب على الذين يلونهم، كما تندفع السيول على الوهاد، وألا تقف حركتهم دون الغاية مما نهضوا إليه.
.!! وكأن الرجل قد رأى نفسه في القمة من الرأي والقوم لا يزالون يدرجون عند السفح، وكأنه أدرك أنه بلغ في التوسع بالأمل مبلغاً تتعاظمه النفوس، وتستهوله العزائم، فأخذ يلتمس كل وجه من وجوه التدليل على ما يجب من الحماسة لهذه الغاية الضرورية، وراح يبذل كل ما في وسعه من اللباقة والزلاقة ليصل بهذا الرأي إلى أطواء القلوب ومكامن العقيدة، فنراه يقرر أن الوحدة والسيادة (أمران خطيران، تحمل عليهما الضرورة تارة، ويهدى إليهما الدين تارة أخرى، وكل منهما يطلب الآخر ويستصحبه، بل يستلزمه)، وبعد أن يتمشى الأفغاني في شرح هذا الاستلزام من الناحية النظرية، يجنح في الاستدلال إلى ما يدل عليه (تصفح تاريخ الأجناس، واستقراء أحوال الشعوب في وجودها وفنائها، وما درجت عليه سنة الله في الجمعيات البشرية، من جعل حظها من الوجود على مقدار حظها من الوحدة، ومبلغها من العظمة على حسب تطاولها في الغلب.
.!!، ثم ينتهي في أسلوبه هذا إلى الوتر الحساس، وتر الدين المشدود بالقلوب، فيقرر (أن الوفاق والغلب ركنان شديدان من أركان الديانة الإسلامية، وفرضان محتومان على من يستمسك بهما، فمن خالف أمر الله فرض منهما عوقب من مقته بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.
.!!، ولكنه لا يخلص من هذه النتيجة إلا بعد أن يدعمهما بكثير من آيات التنزيل ومأثور السنة ومواقف الإسلام.
. فما هذا؟ أهي أحلام المجد، ونعرات مثالية كانت تملأ رأس الرجل وتفعم وجدانه؟ أم هي دعوة إلى الممكن يؤدى إليهما الإمكان ويحتملها الجهد؟! يبدو لنا أن الأفغاني وضع أمامه صورة الإمبراطورية الإسلامية في عصرها الزاهر، وسلطانها الغالب، وأخذ يرسم للمسلمين صورة مماثلة لها ويضعها أمامهم الغاية الرشيدة التي يجب عليهم بلوغها والأخذ بأسبابها، فكان صنيعه هذا كصنيع الحكماء فيما تصوروه في قيام (المدينة الفاضلة)، كل ما عندهم أن يصح الرأي في أذهانهم ولا شأن لهم إذا لم يصح في عالم الواقع الذي عليه الناس، وهكذا راح الرجل يموج في أمل طويل عريض، ويقف بالرأي عند غاية نحتاج في إدراكها إلى رجال وحبال كما يقولون، وفاته أنه كان يهز جسماً فقد حيويته، وينادى على عالم ضاعت معالمه، فليس هذا مما يكفي في إيقاظه، ولكنه كان يحتاج إلى بعث جديد، وخلق من طراز آخر. فالأفغاني لم يكن في أمله هذا بالرجل السياسي الذي يرسم طريق الخلاص على ما تسمح به الظروف والملابسات، وما يمكن أن يكون في عالم الواقع الماثل بما يصح أن تبلغه الجهود ويؤدي إليه الاستعداد، ولكنه كان ينزع نزعة مثالية يضع بها الأمل فوق العزم، وينتهي فيها إلى غاية أكبر من الجهد، وهل كان من الممكن أو من المعقول أن ينهض العالم الإسلامي الذي فرقه الاستعمار، وقتله الجمود، وفقد كل عدة مادية، وقوة معنوية، فيقف بين عشية وضحاها جبهة مدافعة، وقوة متسلطة، أمام الغرب الطاغي، والاستعمار الزاحف بما لا مثيل له في التاريخ من أساليب السياسة والفكر، وافانين العدة والذخر، فيا ليت شعري، ألم ير الأفغاني، وهو الذي طرف بكثير من أنحاء الدنيا كيف كان الغرب يسير بالبخار وبالكهرباء على حين كان الشرق في ذلك الوقت لا يزال يركب الجمل؟!. إنها في الواقع حقيقة لم تغب عن فطنة الأفغاني، ولم تغرب عن إدراكه النافذ، فعلى الرغم من أنه كان يثق ثقة كبيرة بالقيمة العددية واحتشاد الجموع، فأنه لم يقف بأمله عند تحقق الوحدة وجمع الكلمة، بل أخذ يدعو إلى الاستعداد المادي (واكتناه أسباب تقدم الغرب والوقوف على تفوقه وقدرته)، وإنه ليضرب للمسلمين المثل في ذلك بأمة الروس، وهي كما كانت (أمة متأخرة في الفنون والصنائع عن سائر أمم أوروبا، وليس في ممالكها ينابيع للثروة، ولكن كانت، فليس هناك ما يستفيضها من الأعمال الصناعية، فهي مصابة بالحاجة والفاقة والعوز، غير أن تنبيه أفكار آحادها لمل به يكون الدفاع عن أمتهم، واتفاقهم على النهوض به، وارتباط قلوبهم صير لها دولة تميد لسطواتها رواسي أوروبا.
لم يكن للروسيا مصانع لمعظم الآلات الحربية ولكن لم يمنعها ذلك عن اقتنائها، ولم يرتق الفن العسكري إلى ما عليه جيرانها، إلا أن هذا لم يقعد بها عن جلب ضباط من الأمم الأخرى لتعليم عساكرها حتى صار لجيشها صولة تخيف، وحملة تخشاها دول أوربا.
.) وهذا صحيح، صحيح في عالم المعقول، وفي عالم الإمكان، وهنا يسير الأفغاني بأمله في الوحدة إلى طريق عملي، ويهدي إلى أسلوب واقعي، كان من الضروري أن يكون في إدراك الغاية، وبلوغ الهدف، وهو الذي كان فعلا فيما أخذت به الأمم الإسلامية في نهوضها وفي توثبها إلى حياة العزة والحرية، وما من شك في أن الأفغاني كان يعلم أن هذا الطريق يستغرق في اجتيازه مسافة من السنين والأعوام، وأنه لا يؤدي إلى نتيجة عاجلة يستطيع العالم الإسلامي بلوغها في أيام، ولكنه على الرغم من ذلك كان ينادي وبهيب ويتعجل الغاية ويطمع أن يرى القوم عندها بين طرفة عين وانتباهتها، وهنا يبدو الأفغاني مرة أخرى مسرفاً الأمل، مغرقاً في الرجاء. إن بناء الأمم والشعوب يتمشى مع الزمن وتطور الأيام، ولن تستطيع دعوة من دعوات الإصلاح أن تؤتي ثمرها وأن تتحقق النتيجة من ورائها إلا إذا نضجت واستوت وأشربتها النفوس والقلوب عقيدة راسخة ثابتة، فالمبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية لم تستطع القوة أن تحققها طفرة، ولم تقدر المقصلة أن تفرضها رغباً ورهبة، ذلك لأن الزمن لم يكن قد أنضج تلك المبادئ بعد، فشبت الثورة واستطار لهيبها في أرجاء العالم، ثم همدت وماتت وقد خلفت من ورائها تلك المبادئ يحققها الزمن بما في قدرته على الإنضاج والتسوية، ولا يزال الزمن يجد في تحقيقها إلى اليوم.
وكذلك كانت الثورة العرابية، تلك الثورة التي قامت كما نعلم تروم خطة واسعة وغاية كبيرة كانت لا تزال نجوى في المجال الفكري والعقلي عند القادة، ولم تكن قد انحدرت بعد إلى قلب الشعب في مكان العقيدة، ولهذا فشلت الثورة بها فجأة كما قامت فجأة، وانتهت على أهون ما يكون كما ابتدأت بأهون ما يكون.
ولو أن الشعب كان يضم جوانحه على ما تنادي به الثورة من المبادئ والأغراض، وما تهدف إليه من المطامح والغايات، لما أفلحت الدسيسة في خذلانه، ولا وجدت الخيانة مكاناً بين صفوفه، ولما سلم في الجولة الأولى وجعلها بداية النهاية. فما نحسب أن الأفغاني كان يخفى عليه إدراك هذه الحقيقة، ولكنه كان ينظر إلى طغيان الاستعمار على الشرق وإلى المطامع التي أنشبت أظفارها بعنقه، فكان يفزع لسوء المغبة، ويجزع من التراخي أمام الكارثة، ويصرخ بدعوته إلى رأب الصدع وحشد الجهود وفي الأمل بقية.
وإن من الظلم للتاريخ وللرجل أن نتهمه بالفشل وأن نصف مسعاه بالخيبة، فحسبه نجاحاً أنه رسم الطريق، وهيأ الأذهان، وأقام فكرته عقيدة كان لها أكبر الأثر في توجيه الشرق الإسلامي إلى مجالي النهوض والتجمع، وإن ما وصلنا إليه من وضع في الوحدة لثمرة من ثمرات ذلك الرجل العظيم. لقد أيقظت دعوة الأفغاني الشرق، كما أفزعت الغرب، وعلى الرغم من أن الرجل كان يبذر آراءه في تربة غير صالحة من طول ما تراكم عليها من صدأ الجهل واستبداد الظلم ويأس الخنوع، فقد استطاع لصدق غيرته وشدة نخوته وقوة شخصيته أن يصل بها إلى قرارة النفوس والقلوب، وأن يحشد لها جهود الغيورين، وأن يقيم لها دعامة قوية من التلاميذ والمريدين، وبهذا أصبحت تياراً فكرياً مضاداً لأطماع الاستعمار الأوروبي من جهة ولمفاسد الاستبداد العثماني من جهة أخرى، ولم يكن الاستعمار الأوروبي الطامع بجهل خطر هذه الدعوة عليه إذا ما نجحت، ولم تكن تركيا دولة الخلافة والرئاسة تنظر إليها بعين الشك والريبة، بل كانت تراها فكرة هدامة، ودعوة إلى التمرد على (الإسلامية) التي تمثلها الخلافة، فكان من الطبيعي أن يكون الأفغاني ومريدوه والمتشيعون له هدفاً للمناهضة والتنديد والاتهام.
وكان أول تهمة ألقيت على الأفغاني وأتباعه في دعوتهم أنهم دعاة عصبية وتعصب.
وقيل يوم ذاك إنهم يريدون النهوض بالمسلمين على حساب الطوائف الأخرى التي تقطن البلاد الإسلامية، وارتفعت صيحات كثيرة تندد بالتعصب وبالمسلمين (الجامدين) الذين يدعون إلى العصبية.
ارتفعت هذه الصيحات من جانب الغرب وفي وسط الشرق الإسلامي نفسه، وكان لها أثر ملموس في مناهضة الوحدة على الوضع الذي كان يريده الأفغاني، وإنها لتهمة مغرضة ينكرها الرجل كما ينكر دعاتها، ولهذا اضطر الرجل أن يرسل هذه الصيحة للتحذير والتنبيه في العدد الثامن من العروة الوثقى إذ يقول: (لا يظنن أحد من الناس أن جريدتنا هذه بتخصيصها المسلمين بالذكر أحياناً ومدافعتها عن حقوقهم تقصد الشقاق بينهم وبين من يجاورهم في أوطانهم، ويتفق معهم في مصالح بلادهم، ويشاركهم المنافع من أجيال طويلة، فليس هذا من شأننا ولا مما نميل إليه، ولا يبيحه ديننا ولا تسمح به شريعتنا، ولكن الغرض تحذير الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً من تطاول الأجانب عليهم، والإفساد في بلادهم، وقد نخص المسلمين بالخطاب لأنهم العنصر الغالب في الأقطار التي غدر بها الأجانب، واستأثروا بخيراتها، وأذلوا أهلها أجمعين.
) فالأفغاني لم يكن داعية تعصب ديني بالمعنى المفهوم في الغرب، ولم يكن داعية تعصب جنسي يقف عند صلات الدم، ولكنه كان ينادي في ذلك بروح الإسلام السمحة، وقد لبث هو وتلاميذه يصولون في مجالس الدعوة بهذه الروح وفي هذا الاتجاه، وإذا كانوا في كتاباتهم قد دعوا إلى العصبية، فإنما هي العصبية للنهوض والأخذ بأسباب التقدم، ولو أننا رجعنا إلى كتاباتهم لرأيناهم يستعملون العربية والشرقية مرادفة للإسلامية، وإنما دعا الأفغاني أتباعه إلى الوحدة الإسلامية لتكون أعم وأشمل، وليدخل في حسابها أمم إسلامية لا تمت إلى العربية ولكن لابد من ضمها إلى الوحدة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فأن (الإسلامية) كانت كما يقول بعض الكتاب: (رمزاً لروح خاص، وعقلية خاصة، وحضارة خاصة أيضاً)، وقد كانت الرباط المتين الذي ربط أجزاء الإمبراطورية العربية على طولها وامتداد في أفريقية وآسيا وأوروبا، وقد كانت تركيا نفسها تحكم هذه الشعوب وتبسط سلطانها على جميع الطوائف في الشرق باسم الإسلام وحمل لواء الخلافة الإسلامية. والواقع أن الأفغاني لم يكن واهماً في اختيار العامل الديني للوحدة وجمع الكلمة، فقد ظل هذا العامل يكيف التفكير الاجتماعي والاتجاه العمراني في الشرق آماداً طويلة وقروناً متعاقبة، ولم يكن العامل من العوامل في تحريك الوجدانات والعواطف وسحر العقول والقلوب مثل ما كان لذلك العامل العريق الذي صنعه الزمن وقواه التاريخ وأرسخته المشاعر المستغرقة، فكان اختيار الأفغاني اختياراً طبيعياً ضرورياً لا غبار عليه ولا مناص منه، لأنه أمسك برابطة قوية متينة لا تقوى عليها إلا رابطة راسخة تستندها قوة دافعة، ولو أن الرجل تنكب هذا الطريق ونظر إلى الاعتبار السياسي بعيداً عن هذه الرابطة لما صنع شيئاً، ولضاعت صرخته في واد. (للكلام صلة) محمد فهمي عبد اللطيف

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣