شرح عمدة الفقه - كتاب المناسك [7]


الحلقة مفرغة

تقدم لنا شيء من أحكام الفدية، وأن المؤلف رحمه الله ذكر أن الفدية على ضربين: أحدهما على التخيير، وهي فدية الأذى، يعني: حلق الرأس واللبس والطيب، وأنه مخير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، وبينا أيضاً ما المراد بالشاة، وأيضاً جزاء الصيد مخير بين أن يذبح الجزاء إن كان له جزاء، أو يقوّم الجزاء ويشترى بقيمته، أو يخرج من عنده طعاماً يطعمه المساكين، أو يصوم عن كل مدٍ إن أطعم براً يوماً، وعن كل مدين إن أطعم من غير البر كما تقدم بيانه.

وأن الضرب الثاني: على الترتيب، وذكر من ذلك فدية المتمتع، وأن المتمتع يلزمه شاة، فإن لم يجد شاةً فإنه ينتقل إلى الصيام، فيجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وتكلمنا متى يبدأ وقت صيام الأيام الثلاثة ومتى ينتهي، وكذلك أيضاً متى يبدأ وقت صيام الأيام السبعة.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (وفدية الجماع بدنة).

أيضاً هذه من الفدية التي تجب على الترتيب وعلى المشهور من المذهب، وهي فدية الجماع.

والجماع -كما تقدم لنا أنه- لا يخلو من ثلاث حالات:

إما أن يجامع قبل الوقوف بعرفة، فهذا تقدم حكمه، ومن أحكامه: أنه تلزمه البدنة.

والحالة الثانية: أن يجامع بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول، وهذا أيضاً ذكرنا أحكامه ما يلزم عليه، وأنه يجب عليه بدنة.

والحالة الثالثة: أن يجامع بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني، وهذا لا تجب عليه البدنة، وإنما يجب عليه فدية أذى.

المهم أنه إذا جامع قبل التحلل الأول فإنه يجب عليه بدنة.

فإذا لم يجد البدنة -إما لكونه فقيراً معدماً، وإما لكونه لم يجد بدنةً تباع- فهل يجب عليه أن يصوم أو لا يجب عليه أن يصوم؟ قال المؤلف رحمه الله: (فإن لم يجد فصيام كصيام المتمتع) أي: إذا لم يجد بدنةً فإنه يجب عليه أن يصوم كصيام المتمتع الذي عُدم الهدي، أي: أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعةً إذا رجع إلى أهله، فيجب عليه أن يصوم عشرة أيام؛ لأن المتمتع كما تقدم إذا لم يجد شاةً فإنه يصوم ثلاثة أيامٍ في الحج وسبعةً إذا رجع إلى أهله.

والدليل على أن المجامع يجب عليه الصيام إذا لم يجد البدنة: القياس على المتمتع، وذهب بعض أهل العلم إلى أن المجامع إذا لم يجد بدنةً -إما لفقره، أو لكونه لم يجدها تباع- أنه لا يجب عليه الصيام؛ لأن الذي ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن عليه الهدي ولم يذكروا صياماً، وهذا القول هو الصواب؛ أنه تجب عليه بدنة، فإذا لم يجد بدنةً فإنه لا يجب عليه أن يصوم، وهذا هو الصواب في هذه المسألة.

فدية من فاته الحج والمحصر

قال رحمه الله: (وكذلك الحكم في دم الفوات).

ما هو الفوات؟ الفوات: هو أن يطلع فجر يوم النحر قبل أن يقف الحاج بعرفة، فإذا طلع فجر يوم النحر قبل أن يقف بعرفة فاته الحج بإجماع العلماء، وما الذي يلزمه إذا فاته الحج؟ سيأتينا إن شاء الله ما يتعلق بأحكام الفوات والإحصار.

من الأحكام المترتبة على فوات الحج: أنه يجب عليه أن يذبح هدياً، أي: هذا الذي طلع عليه فجر يوم النحر -اليوم العاشر- ولم يقف بعرفة فإنه يجب عليه أن يذبح هدياً، وسيأتينا أيضاً أن بعض العلماء لم يوجب عليه الهدي، وأن الأصل في ذلك براءة الذمة.

ويرد على الذين أوجبوا الهدي كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله سؤال: إذا لم يجد الهدي فما الحكم؟ يقول المؤلف رحمه الله: فإنه يصوم عشرة أيام كالمتمتع، والصحيح في ذلك أن إيجاب الهدي هذا فيه نظر -كما سيأتينا إن شاء الله- أي: أصلاً إيجاب الهدي على من فاته الحج هذا فيه نظر، فمن باب أولى بدله وهو الصيام كما سيأتي بإذن الله.

قال رحمه الله: [والمحصر يلزمه دم، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام].

أيضاً المحصر، والإحصار كما سيأتي: هو منع الناسك من إتمام نسكه، فإذا أحصر ولم يتمكن من إتمام النسك فإن له أن يتحلل؛ فيذبح شاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصره المشركون في غزوة الحديبية، فذبح النبي عليه الصلاة والسلام الهدي الذي معه وحلق ثم حل.

فنقول: بالنسبة للمحصر يذبح الهدي، فإذا لم يجد المحصر هدياً -إما لفقره أو لم يجده يباع- فما الحكم؟

يقول المؤلف رحمه الله: يصوم عشرة أيام ثم يحل قياساً على المتمتع، كما أن المتمتع يجب عليه أن يصوم عشرة أيام؛ ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، أيضاً المحصر يجب عليه أن يصوم عشرة أيام ثم بعد ذلك يحل.

والصحيح أيضاً في هذه المسألة: أن المحصر إذا لم يجد هدياً فإنه لا صيام عليه؛ لأن الله عز وجل ذكر المتمتع والمحصر في آية واحدة، وذكر للمتمتع بدلاً وهو الصيام، ولم يذكر للمحصر بدلاً؛ فدل على أن الصيام غير مشروع، فالصواب في هذه المسألة: أن المحصر إذا لم يجد هدياً فإنه لا صيام عليه، والله عز وجل قال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] ولم يقل: فإن لم يجد صام عشرة أيام!

في المتمتع قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] هذا ما ذكره الله عز وجل في الإحصار، مع أن حكم المحصر والمتمتع جاء في آية واحدة.

وهذا بالنسبة لما ذكره المؤلف رحمه الله.

قال رحمه الله: (وكذلك الحكم في دم الفوات).

ما هو الفوات؟ الفوات: هو أن يطلع فجر يوم النحر قبل أن يقف الحاج بعرفة، فإذا طلع فجر يوم النحر قبل أن يقف بعرفة فاته الحج بإجماع العلماء، وما الذي يلزمه إذا فاته الحج؟ سيأتينا إن شاء الله ما يتعلق بأحكام الفوات والإحصار.

من الأحكام المترتبة على فوات الحج: أنه يجب عليه أن يذبح هدياً، أي: هذا الذي طلع عليه فجر يوم النحر -اليوم العاشر- ولم يقف بعرفة فإنه يجب عليه أن يذبح هدياً، وسيأتينا أيضاً أن بعض العلماء لم يوجب عليه الهدي، وأن الأصل في ذلك براءة الذمة.

ويرد على الذين أوجبوا الهدي كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله سؤال: إذا لم يجد الهدي فما الحكم؟ يقول المؤلف رحمه الله: فإنه يصوم عشرة أيام كالمتمتع، والصحيح في ذلك أن إيجاب الهدي هذا فيه نظر -كما سيأتينا إن شاء الله- أي: أصلاً إيجاب الهدي على من فاته الحج هذا فيه نظر، فمن باب أولى بدله وهو الصيام كما سيأتي بإذن الله.

قال رحمه الله: [والمحصر يلزمه دم، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام].

أيضاً المحصر، والإحصار كما سيأتي: هو منع الناسك من إتمام نسكه، فإذا أحصر ولم يتمكن من إتمام النسك فإن له أن يتحلل؛ فيذبح شاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصره المشركون في غزوة الحديبية، فذبح النبي عليه الصلاة والسلام الهدي الذي معه وحلق ثم حل.

فنقول: بالنسبة للمحصر يذبح الهدي، فإذا لم يجد المحصر هدياً -إما لفقره أو لم يجده يباع- فما الحكم؟

يقول المؤلف رحمه الله: يصوم عشرة أيام ثم يحل قياساً على المتمتع، كما أن المتمتع يجب عليه أن يصوم عشرة أيام؛ ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، أيضاً المحصر يجب عليه أن يصوم عشرة أيام ثم بعد ذلك يحل.

والصحيح أيضاً في هذه المسألة: أن المحصر إذا لم يجد هدياً فإنه لا صيام عليه؛ لأن الله عز وجل ذكر المتمتع والمحصر في آية واحدة، وذكر للمتمتع بدلاً وهو الصيام، ولم يذكر للمحصر بدلاً؛ فدل على أن الصيام غير مشروع، فالصواب في هذه المسألة: أن المحصر إذا لم يجد هدياً فإنه لا صيام عليه، والله عز وجل قال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] ولم يقل: فإن لم يجد صام عشرة أيام!

في المتمتع قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] هذا ما ذكره الله عز وجل في الإحصار، مع أن حكم المحصر والمتمتع جاء في آية واحدة.

وهذا بالنسبة لما ذكره المؤلف رحمه الله.

تلخص لنا أن المؤلف رحمه الله يرى أن الفدية تنقسم إلى قسمين: قسم على التخيير، وقسم على الترتيب، والأقرب أن يقال بالنسبة للفدية في محظورات الإحرام أنها تنقسم من حيث الفدية إلى أقسام:

القسم الأول: ما لا فدية فيه، وهو عقد النكاح؛ فعقد النكاح هذا لا فدية فيه.

القسم الثاني: ما فديته فدية مغلظة، وهو الجماع في الحج قبل التحلل الأول، ففديته بدنة.

القسم الثالث: ما فديته جزاؤه، وهو قتل الصيد.

القسم الرابع والأخير: ما فديته على التخيير؛ إما أن يذبح شاةً، وإما أن يصوم ثلاثة أيام، وإما أن يطعم ستة مساكين، وهو بقية المحظورات، كحلق الرأس، وتقليم الأظفار إذا قلنا فيه فدية، واللبس، والطيب، وتغطية الرأس، هذه الأشياء على القول بأن فيها الفدية، نقول بأن الفدية فيها على التخيير بين أمورٍ ثلاثة: إما أن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، أو يذبح شاةً.

فأصبحت محظورات الإحرام من حيث الفدية تنقسم إلى هذه الأقسام الأربعة.

تكرار المحظور من جنس واحد

ثم قال رحمه الله: [فصلٌ: ومن كرر محظوراً من جنسٍ غير قتل الصيد فكفارة واحدة].

أي: جنس المحظور واحد، مثال ذلك: قلم أظافره اليوم، ثم قلم غداً، ثم قلم بعد غدٍ، فالمحظور واحد.

قوله رحمه الله: (غير قتل الصيد) قتل الصيد يجب فيه بعدده ولو برمية واحدة، فلو فرض أن شخصاً رمى وضرب ثلاث حمامات، فإنه يجب عليه ثلاث شياه؛ لأن الحمامة قضى فيها الصحابة بشاة، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، ولا تتحقق المثلية إلا إذا أخرج لكل صيدٍ جزاءً مستقلاً.

فقتل الصيد هذا فيه بعدده، أما غير قتل الصيد من المحظورات إذا كررها فإنه يجب عليه كفارة واحدة، فمثلاً: هذا الرجل تطيب اليوم، ثم تطيب غداً، ثم بعد غدٍ، خلال أربعة أيام أو خمسة تطيب كل يوم، أو قلم أظافره اليوم، ثم غداً، ثم بعد غدٍ، أو لبس المخيط، ثم غطى رأسه عدة مرات، فهذا تجب عليه كفارة واحدة.

قال رحمه الله: [فإن كفر عن الأول قبل فعل الثاني سقط حكم ما كفر عنه].

أي: لو أنه قلم أظافره ثم أخرج الفدية؛ فأطعم مثلاً ستة مساكين، ثم بعد ذلك قلم أظافره مرةً أخرى بعد أن فدى، نقول: تجب عليك فدية أخرى، فإذا فدى ثم قلم مرةً ثالثة، نقول: تجب عليك أيضاً فدية ثالثة.. وهكذا.

فأصبح إذا كرر محظوراً من جنسٍ واحد؛ إن فدى يجب عليه أن يخرج لكل مرة فدية، أما إذا لم يفدِ فإنه تكفي فدية واحدة، إلا أن المؤلف استثنى الصيد، فالصيد فدى أو لم يفد يجب عليه بعدده، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]. هذا حكم ما إذا فعل محظوراً من جنسٍ واحد.

فالخلاصة فيه: إن فدى يجب للثاني فدية أخرى، إذا لم يفد تكفي الفدية الأولى، إلا إن كان صيداً فإنه يجب عليه بعدد ما قتل.

تكرار المحظور من أجناس مختلفة

ثم قال رحمه الله: [ومن فعل محظوراً من أجناس فلكل واحد كفارة].

القسم الأول: أن يكون المحظور من جنس واحد كما تقدم، قلم أظافره عدة مرات، أو حلق عدة مرات، أو لبس عدة مرات.

القسم الثاني: أن يكون من أجناس، فهذا يجب لكل محظور فدية مستقلة، فمثلاً: هذا رجل حلق شعر رأسه وجامع، نقول: يجب عليه فديتان؛ فدية الجماع وفدية حلق الرأس لأنه من أجناس، وعلى هذا فقس.

ثم قال رحمه الله: [فصلٌ: ومن كرر محظوراً من جنسٍ غير قتل الصيد فكفارة واحدة].

أي: جنس المحظور واحد، مثال ذلك: قلم أظافره اليوم، ثم قلم غداً، ثم قلم بعد غدٍ، فالمحظور واحد.

قوله رحمه الله: (غير قتل الصيد) قتل الصيد يجب فيه بعدده ولو برمية واحدة، فلو فرض أن شخصاً رمى وضرب ثلاث حمامات، فإنه يجب عليه ثلاث شياه؛ لأن الحمامة قضى فيها الصحابة بشاة، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، ولا تتحقق المثلية إلا إذا أخرج لكل صيدٍ جزاءً مستقلاً.

فقتل الصيد هذا فيه بعدده، أما غير قتل الصيد من المحظورات إذا كررها فإنه يجب عليه كفارة واحدة، فمثلاً: هذا الرجل تطيب اليوم، ثم تطيب غداً، ثم بعد غدٍ، خلال أربعة أيام أو خمسة تطيب كل يوم، أو قلم أظافره اليوم، ثم غداً، ثم بعد غدٍ، أو لبس المخيط، ثم غطى رأسه عدة مرات، فهذا تجب عليه كفارة واحدة.

قال رحمه الله: [فإن كفر عن الأول قبل فعل الثاني سقط حكم ما كفر عنه].

أي: لو أنه قلم أظافره ثم أخرج الفدية؛ فأطعم مثلاً ستة مساكين، ثم بعد ذلك قلم أظافره مرةً أخرى بعد أن فدى، نقول: تجب عليك فدية أخرى، فإذا فدى ثم قلم مرةً ثالثة، نقول: تجب عليك أيضاً فدية ثالثة.. وهكذا.

فأصبح إذا كرر محظوراً من جنسٍ واحد؛ إن فدى يجب عليه أن يخرج لكل مرة فدية، أما إذا لم يفدِ فإنه تكفي فدية واحدة، إلا أن المؤلف استثنى الصيد، فالصيد فدى أو لم يفد يجب عليه بعدده، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]. هذا حكم ما إذا فعل محظوراً من جنسٍ واحد.

فالخلاصة فيه: إن فدى يجب للثاني فدية أخرى، إذا لم يفد تكفي الفدية الأولى، إلا إن كان صيداً فإنه يجب عليه بعدد ما قتل.

ثم قال رحمه الله: [ومن فعل محظوراً من أجناس فلكل واحد كفارة].

القسم الأول: أن يكون المحظور من جنس واحد كما تقدم، قلم أظافره عدة مرات، أو حلق عدة مرات، أو لبس عدة مرات.

القسم الثاني: أن يكون من أجناس، فهذا يجب لكل محظور فدية مستقلة، فمثلاً: هذا رجل حلق شعر رأسه وجامع، نقول: يجب عليه فديتان؛ فدية الجماع وفدية حلق الرأس لأنه من أجناس، وعلى هذا فقس.

قال رحمه الله: [والحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه، وسائر المحظورات لا شيء في سهوه].

لما تكلم المؤلف رحمه الله عن فدية المحظورات أراد أن يبين ما هو المحظور الذي يعذر فيه بالجهل والنسيان، وما هو المحظور الذي لا يعذر فيه بالجهل والنسيان.

محظورات لا يعذر فيها بالجهل والنسيان

قوله: (الحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه).

هذه الأصناف الأربعة عمده وسهوه كله سواء، فتجب فيه الفدية، فلو أن الإنسان نسي وقلم أظافره وجبت عليه الفدية، ولو أنه حلق ناسياً وجبت عليه الفدية، ولو أنه قتل الصيد ناسياً أو وطء ناسياً وجبت عليه الفدية، لماذا تجب الفدية هنا؟ قالوا: لأن هذا من قبيل الإتلاف، فلما كان فيه من قبيل الإتلاف لا يمكن تداركه إلا بأن يخرج الفدية.

فهذه الأصناف الأربعة من قبيل الإتلاف ولا يمكن تداركها.

محظورات يعذر فيها بالسهو

أما بقية الأصناف فيقول فيها: [وسائر المحظورات لا شيء فيه].

فقوله: (سائر المحظورات) يشمل: الطيب، هذا لو فعله سهواً لا شيء عليه، أيضاً لبس المخيط للذكر لو فعله سهواً لا شيء عليه، أيضاً تغطية الرأس للذكر لو فعله سهواً لا شيء عليه، وعقد النكاح أصلاً يرون أنه ليس فيه فدية، والمباشرة لو فعلها سهواً لا شيء عليه أي: المباشرة دون الجماع.

فأصبح عندنا أربعة يستوي عمدها وسهوها في وجوب الفدية، وهي: التقليم والحلق والوطء وقتل الصيد.

أربعة يعذر فيها بالسهو وتجب الفدية في حال العمد، وهي: لبس المخيط بالنسبة للذكر، وتغطية الرأس للذكر، والطيب، والمباشرة، والمرأة كما تقدم لنا أنها لا تلبس لباساً خاصاً بأي شيء -باليدين ولا بالوجه- فهذه الأربعة يعذر فيها بالسهو فلا تجب فيها فدية، فلو فعلها سهواً لا تجب عليه فيها فدية.

وقسم لا فدية فيه أصلاً: وهو عقد النكاح، وإنما يعذر في هذه الأربعة بالسهو؛ لقول الله عز وجل: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ).

أقسام فاعل المحظورات من حيث الفدية

والأقرب أن يقال بأن فاعل المحظورات لا يخلو من أقسام ثلاثة:

القسم الأول: أن يفعل المحظور عالماً ذاكراً مختاراً غير معذور، فهذا يأثم وتجب عليه الفدية؛ لقول الله عز وجل: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، فهذا رجل -مثلاً- حلق رأسه وهو عالم مختار ذاكر فهو غير معذور؛ عالم غير جاهل، ومختار غير مكره، وذاكر غير ناسي، فهذا نقول: إن الفدية تجب عليه، وذكرنا دليل ذلك قول الله عز وجل: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196].

القسم الثاني: أن يفعل المحظور عالماً ذاكراً مختاراً لكنه معذور، ليس مكرهاً ولا ناسياً ولا جاهلاً لكنه معذور، فما هو الحكم هنا؟ نقول: لا يأثم، لكن تجب عليه الفدية، وهذا مثل كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه، عالم وذاكر ومختار لكنه معذور؛ لأن هوام رأسه آذته، فنقول: هنا لا يأثم، لكن تجب عليه الفدية؛ لقول الله عز وجل: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196].

القسم الثالث: أن يفعل المحظور إما جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً؛ فالمذهب على التفصيل؛ فقالوا: إن كان من قبيل الإتلاف فهذا لا يعذر، والذي من قبيل الإتلاف كما ذكرنا أربعة أشياء: الحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد، وإن كان من غير قبيل الإتلاف فيعذر، مثلاً: لو تطيب وهو ناسٍ أو جاهل أو مكره، أو لبس الرجل المخيط أو غطى رأسه أو باشر، فإذا كان مكرهاً أو ناسياً أو جاهلاً؛ فهذا يعذر.

ويلحق بهذا: إذا لبست المرأة لباساً خاصاً بالوجه والكفين فقالوا: هذه تعذر؛ لأن هذا ليس من قبيل الإتلاف، وهذا كما ذكرنا هو المذهب، وأيضاً هو مذهب الشافعية وهو الرأي الأول.

والرأي الثاني: رأي الحنفية والمالكية أنه لا يعذر مطلقاً، سواء كان من قبيل الإتلاف أو كان من غير قبيل الإتلاف.

والرأي الثالث: أنه يعذر مطلقاً، أي: سواء كان من قبيل الإتلاف أو كان من غير قبيل الإتلاف، وعلى هذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك أيضاً ابن القيم ، وهو رواية عن الإمام أحمد : لو قلم أظافره وهو ناسٍ فلا شيء عليه، ولو حلق وهو ناسٍ لا شيء عليه، ولو وطء وهو ناسٍ لا شيء عليه، ولو تطيب أو لبس أو غطى رأسه وهو ناسٍ أو جاهل أو مكره هذا كله لا شيء عليه، وهذا القول هو الصواب، ودليل ذلك: أن الله عز وجل قال في الصيد وهو أعظم الإتلافات: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، فقال الله عز وجل: (مُتَعَمِّداً) فدل ذلك على أنه إذا كان غير متعمد أنه لا يجب عليه شيء، فالله عز وجل أوجب الجزاء متى؟ في حال العمد، فدل على أنه في حال عدم العمد ناسٍ أو مكره أو جاهل أنه لا شيء عليه.

وأيضاً يدل لهذا حديث يعلى بن أمية : ( أن رجلاً جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو بالجعرانة، وقد أهلَّ بالعمرة وهو مصفر لحيته ورأسه وعليه جبة، فقال: يا رسول الله! إني أحرمت وأنا كما ترى. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: انزع الجبة، واغسل عنك الصفرة )؛ لأن الصفرة هذه طيب -زعفران- ( واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك )، وهذا في الصحيحين، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالفدية.

فهذا الرجل لما كان جاهلاً لبس الجبة فأحرم وعليه الجبة، وصفر لحيته ورأسه، ومع ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( انزع الجبة، واغسل عنك الصفرة، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ) وهذا القول هو الصواب.

نقول: الصواب في هذه المسألة أنه لا يلزمه شيء إذا كان جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً، سواء كان ذلك من قبيل الإتلاف، أو كان من غير قبيل الإتلاف، أي: كل المحظورات.