شرح الفتوى الحموية [11]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:

فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ لكن أولئك الملاحدة ألزموهم في النصوص -نصوص المعاد- نظير ما ادعوه في نصوص الصفات، فقالوا لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بمعاد الأبدان، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه، وأهل السنة يقولون لهؤلاء: ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات، ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد، ويقولون لهم: معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول وناظروه عليه؛ بخلاف الصفات فإنه لم تكن العرب تنكرها، فعلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به، وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به؟ ].

بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من ذكر الطائفتين، وبين أن أهل التأويل لم يأتوا بما يردوا به على أهل التخييل في ضلالهم، وإنما شاركوهم في بعض الضلال الذي سلط عليهم أهل التخييل فألزموهم إلزامات باطلة، فقال الشيخ رحمه الله: (لكن أولئك الملاحدة ألزموهم في النصوص -نصوص المعاد- نظير ما ادعوه في نصوص الصفات) أي: من التأويل، فلما أول أهل التأويل نصوص الصفات ألزمهم أولئك في نصوص المعاد ما فعلوه في نصوص الصفات.

وبين رد أهل التأويل على هذا الإلزام فقال: (فقالوا لهم : نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بمعاد الأبدان، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه، وأهل السنة يقولون لهؤلاء: ونحن نعلم بالاضطرار أن السنة جاءت بإثبات الصفات) فإذا كانت السنة قد جاءت بإثبات الصفات، وجاءت بإثبات المعاد، وتبين لنا ولكم يا أهل التأويل فساد الشبهة التي جعلت أهل التخييل يؤولون نصوص المعاد، فكذلك الأمر في نصوص الصفات، فكما أن الشبهة التي اعتمدها أهل التخييل في تأويل نصوص المعاد باطلة، فكذلك الشبهة التي اعتمدتموها في تأويل نصوص الصفات.

ثم أضاف أمراً آخر يبين أن الذين أولوا في الصفات وقعوا في خطأ أكبر من أولئك الذين أولوا في نصوص المعاد، من حيث إن نصوص المعاد تحتمل التأويل أكثر من نصوص الصفات، وبيان ذلك في قوله: (ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد) فالكتب الإلهية ذكرت نصوص الصفات أكثر وأعظم من ذكرها لنصوص المعاد، ومع ذلك لم يؤول أهل الكتاب في نصوص الصفات، فإذا كانت هذه النصوص مع كثرتها ومجيء الرسل بها في جميع شرائعهم لم تقبل التأويل؛ فكذلك هي في هذه الشريعة لا تقبل التأويل، وتأويل من أول في نصوص المعاد أقرب من تأويل من أول في نصوص الصفات، أي: أقرب إلى الاحتمال، وإن كان الجميع باطلاً، لكن نحن نلزمهم على قاعدتهم في التأويل.

ثم بين وجهاً آخر يبطل تأويل هؤلاء لنصوص الصفات فقال: (معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول، وناظروه عليه، بخلاف الصفات فإنه لم تكن العرب تنكرها) مع أنهم طلبوا إبطال دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وإبطال رسالته، وطلبوا تكذيبه صلى الله عليه وسلم بكل طريق ومن كل سبيل، ومع ذلك لم يؤولوا نصوص الصفات، وإنما تسلط تكذيبهم وإنكارهم على نصوص المعاد.

قال: (فعلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات) تبين من هذين الوجهين أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، وما هما الوجهان؟

الوجه الأول: أن الشرائع جاءت بنصوص الصفات أكثر وأعظم من مجيئها بنصوص المعاد.

الوجه الثاني: أن مشركي العرب وغيرهم لم ينكروا نصوص الصفات كما أنكروا نصوص المعاد.

ثم قال: (فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به؟) يعني: ليس على الوجه الذي أخبر به، وإنما يؤول أو يعطل، أو يقال كما في البدعة الثالثة: إنه لا معنى له.

(وما أخبر به في المعاد هو على ما أخبر به) فالواجب على هؤلاء أن يلتزموا في الصفات ما التزموه في نصوص المعاد، حتى تطرد قاعدتهم وتسلم من التناقض.

قال رحمه الله: [ وأيضاً فقد علم أنه صلى الله عليه وسلم قد ذم أهل الكتاب على ما حرفوه وبدلوه، ومعلوم أن التوراة مملوءة من ذكر الصفات، فلو كان هذا مما بدل وحرف لكان إنكار ذلك عليهم أولى، فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات ضحك تعجباً وتصديقاً لها، ولم يعبهم قط بما تعيب النفاة أهل الإثبات على لفظ التجسيم والتشبيه ونحو ذلك؛ بل عابهم بقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]، وقولهم: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، وقولهم: إنه استراح لما خلق السماوات والأرض فقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:8]، والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن، فإذا جاز أن تتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما أولى، والثاني مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه باطل، فالأول أولى بالبطلان ].

استمراراً في إلزامهم بطريقتهم قال الشيخ رحمه الله: (وأيضاً فقد علم أنه صلى الله عليه وسلم قد ذم أهل الكتاب على ما حرفوه وبدلوه) ومع ذلك لم يرد أنه ذمهم في نصوص الصفات إلا من حيث إنهم نسبوا إلى الله عز وجل النقص فقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ وقالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ، وقالوا: إن الله سبحانه وتعالى لما خلق السماوات والأرض استراح في اليوم السابع، أما ماعدا ذلك فإنه لم ينكر عليهم، فدل ذلك على أنه لم يقع في نصوص الصفات التي جاءت في كتب الأنبياء السابقين وفي التوراة خاصة تحريف، ولم يقع تبديل، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرهم على ما يذكرونه من الصفات التي توافق الحق، فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات الثابتة حقاً له سبحانه وتعالى ضحك إقراراً لهم، وتعجباً من إثباتهم إياها، وتصديقاً لهم، وذلك كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن حبراً من أحبار يهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً منه، ثم قرأ قوله تعالى وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]) فأقره صلى الله عليه وسلم على هذا، فلما أقره على إثبات الصفات، ولم ينكر عليه ذلك، دل أن نصوص الصفات يجب أن تثبت دون تحريف ولا تعطيل، ودون تكييف ولا تمثيل.

قال رحمه الله: [ وأما الصنف الثالث وهم أهل التجهيل، فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف، يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات، ولا جبريل يعرف معاني الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك.

وكذلك قولهم في أحاديث الصفات: إن معناها لا يعلمه إلا الله، مع أن الرسول تكلم بها ابتداء، فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه ].

وهذا القسم الثالث من الطوائف الضالة في باب العلم بالله وأسمائه وصفاته، فهم أهل التجهيل، وهم المفوضة الذين قالوا: إن نصوص الصفات لا يعقل معناها ولا يعلم، بل تقرأ دون علم لما تضمنته من المعاني، هؤلاء بين الشيخ أنهم: (كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف) وذلك أن هؤلاء ظنوا أن مذهب السلف هو التفويض، وهو الجهل بمعاني النصوص، وتعطيل النصوص عن معانيها، والألفاظ عن دلالاتها.

ومستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه ما سيذكره الشيخ رحمه الله فيما يأتي، والمراد والمقصود في هذا بيان هذه الطائفة وماذا تقول.

إنكار المفوضة لمعاني آيات وأحاديث الصفات

قال: (يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات، ولا جبريل يعرف معاني الآيات) فنفوا معرفة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكمل البشر، وعن جبريل الذي هو أشرف الملائكة، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف ذلك، ولا جبريل يعرف ذلك فمن يعرفه؟ لا يعرفه أحد، فالواجب -إذاً- الوقوف على الألفاظ دون النظر إلى معانيها ولا إلى دلالاتها.

قال: (ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك)؛ لأن السابقين الأولين تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن القرآن الذي جاء به جبريل من رب العالمين، فإذا كان جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفان ذلك، فالسابقون المتلقون عن الكتاب والسنة لم يعرفوا ذلك.

ثم قال: (وكذلك قولهم في أحاديث الصفات: إن معناها لا يعلمه إلا الله مع أن الرسول تكلم بها ابتداء) يعني: تكلم بها ابتداء في وصف الله سبحانه وتعالى، فذكر في الحديث ما لم يذكره القرآن، وذكر في السنة من صفات الله عز وجل ما لم يأت به القرآن، هذا معنى قوله: (تكلم بها ابتداء)، فعلى قولهم يكون قد تكلم بكلام لا يعرف معناه، ولا يعرف دلالاته.

وإنما أضاف هذا ليبين أنه إذا ساغ أن نقول: إنه لم يعرف ما نقله جبريل إليه، فكيف يسوغ أن نقول: إنه تكلم بكلام في وصف الله عز وجل ابتداءًَ ثم لا يعرف معناه، فهذا أغلظ في التهمة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في المرتبة الأولى يسوغ على قولهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد نقل وبلغ ما لم يعلم معناه، لكن كيف يبتدئ كلاماً في وصف الله عز وجل، وهو لا يعقل هذه المعاني التي يتكلم بها؟

وهذا فيه أعظم الفرية على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك وصف شيخ الإسلام رحمه الله أهل التجهيل بأنهم من شر أهل البدع؛ لأن مقتضى بدعتهم أن الله خاطب الناس، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم في حق الله عز وجل، بما لا يعقل معناه ولا يفهم ولا يعرف، وأن الكتاب لم يأت هدىً ولا بياناً ولا موعظةً ولا إرشاداً للناس، إنما جاء لتضليلهم والتضييق عليهم، ومخاطبتهم وتكليفهم بما لا يعقلون ولا يعرفون.

شبهة المفوضة

ثم ذكر رحمه الله بعد ذلك دليـل هؤلاء فيما ذهبوا إليه فقـال: [ وهؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ [آل عمران:7]، فإنه وقف أكثر السلف على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ ، وهو وقف صحيح، لكن لم يفرقوا بين معنى الكلام وتفسيره، وبين التأويل الذي انفرد الله تعالى بعلمه؛ وظنوا أن التأويل المذكور في كلام الله تعالى هو التأويل المذكور في كلام المتأخرين، وغلطوا في ذلك ]

أشار رحمه الله في هذا المقطع إلى أصل ضلال هؤلاء، فهؤلاء لما لم تعقل عقولهم النصوص، واعتقدوا منها خلاف الحق، وظنوا أن فيها نسبة الباطل والنقص لله عز وجل؛ قالوا: إن النصوص لا يعلم معناها إلا الله، واستدلـوا لهذا بقـوله :وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ [آل عمران:7].

والآية في سورة آل عمران قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وقد اختلف السلف رحمهم الله في الوقف في قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ ، فبعضهم وقف على قوله: (إِلا اللَّه)، وهو قول جمهور أهل العلم، وقال آخرون: الوقف على قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، والقول الثاني هو قول جماعة من السلف، وكلا القولين في الوقف حق كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، لكن الذي أورد الإشكال عند هؤلاء هو الاشتراك في معنى التأويل، فمن رأى أن الوقوف على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) فإنه يحمل نفي العلم في هذه الآية على ما استأثر الله بعلمه من علم حقائق الأمور، وما تئول إليه وترجع، وهذا لا شك أنه لا يعلمه إلا الله، فحقائق الأمور وما تئول إليه الأخبار، هذا لا يعلمه إلا الله.

فمثلاً: أخبر الله جل وعلا عن يوم القيامة بأخبار كثيرة، ونحن نعلم ما أخبر به سبحانه وتعالى، لكن حقيقة ما أخبر به واقعاً هل نعلمه؟ لا نعلمه، الله سبحانه وتعالى ذكر نعيم أهل الجنة في كتابه من الأكل والشرب والنكاح والنظر إليه وغير ذلك، لكن حقيقة هذا لا نعلمه؛ ولذلك جاء في القرآن قوله سبحانه وتعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُن [السجدة:17] أي: لا تعلمه علماً واقعاً وحقيقةً وتاماً؛ لأنه لا يعلمه إلا الله، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الإلهي: (أعددت لعبادي مالا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فالعلم المنفي على قول جمهور أهل العلم هو علم حقائق المغيبات وكنهها، سواء في الأخبار التي تتعلق بالله عز وجل، أو في الأخبار التي تتعلق باليوم الآخر، وعلى هذا يكون الوقف صحيحاً.