شرح الفتوى الحموية [8]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

أما بعد:

فيقولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى رحمة واسعة:

[ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله؛ فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى ويحرفوا الكلم عن مواضعه ويلحدوا في أسماء الله وآياته.

وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل؛ فهو جامع بين التعطيل والتمثيل: أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات؛ فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل، مثلوا أولاً وعطلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى.

فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش؛ للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساوياً وكل ذلك من المحال، ونحو ذلك من الكلام؛ فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم. أما استواء يليق بجلال الله تعالى ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها، كما يلزم من سائر الأجسام، وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون جوهراً أو عرضاً، وكلاهما محال؛ إذ لا يعقل موجود إلا هذان. أو قوله: إذا كان مستوياً على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك؛ إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فإن كليهما مثَّل وكليهما عطَّل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين.

والقول الفاصل: هو ما عليه الأمة الوسط، من أن الله مستو على عرشه استواءً يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك.

ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرتهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزوماتها].

بعد أن ذكر الشيخ رحمه الله في هذا الفصل القاعدة الشاملة فيما يجب لله عز وجل في باب الأسماء والصفات، وذكر ذلك بعد الإجمال تفصيلاً، فبين رحمه الله في هذا المقطع أن أهل السنة والجماعة وسط بين أهل التعطيل وأهل التمثيل في باب أسماء الله وصفاته، فوسطية أهل السنة والجماعة بينة في هذا الباب؛ لأن كلاً من أهل التعطيل وأهل التمثيل نزع إلى جانب وغلا فيه.

فأهل التعطيل هم الذين أخلوا الله جل وعلا عما يجب له من الأسماء والصفات إما كلياً وإما جزيئاً لشبه عندهم.

وأهل التمثيل هم الذين قابلوهم فقالوا: كل ما أثبته الله لنفسه من الصفات فهو كما هي للمخلوق، فصفات الخالق كصفات المخلوق، فيده كيدنا، واستوائه كاستوائنا، وما إلى ذلك من الصفات التي أثبتها لنفسه وهي للمخلوق، فهؤلاء غلوا في جانب الإثبات.

وأهل السنة والجماعة بين هؤلاء فهم طريق وسط بين أهل الضلالات، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، وهذا فيه إشارة إلى القاعدة الكبرى في باب الأسماء والصفات وهي: أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أنا نتفق جميعاً أن ذات الخالق جل وعلا ليست كذوات المخلوقين، فكذلك صفاته سبحانه وتعالى ليست كصفات المخلوقين، وهذا فيه أعظم الرد على أهل التعطيل وأهل التمثيل.

أهل السنة والجماعة لا ينفون الأسماء والصفات ولا يعطلونها

قال في بيان طريق أهل السنة والجماعة: (ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله) وبهذا نعلم أنهم خالفوا أهل التعطيل في نفيهم ما وصف الله به نفسه، وأنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من غير تحريف ولا تعطيل.

وأنهم كما ذكر في المقطع الأول: (فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه)، وبهذا أيضاً تميزوا عن منهج أهل التمثيل الذين يكيفون ويمثلون صفات الله عز وجل، وبهذين المقطعين من كلامه رحمه الله تمت الضوابط المذكورة سابقاً في طريقة أهل السنة والجماعة، وهي: أنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.

قال: (ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله فيعطلوا أسماءه وصفاته العلى) لأن مقتضى النفي التعطيل (ويحرفوا الكلم عن مواضعه) أي: ويقعوا أيضاً في التحريف؛ لأن سلم التعطيل التحريف، فهم إذا عطلوا فلا يصلون إلى التعطيل إلا بالتحريف أو بالإلحاد.

قال في بيان طريق أهل السنة والجماعة: (ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله) وبهذا نعلم أنهم خالفوا أهل التعطيل في نفيهم ما وصف الله به نفسه، وأنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من غير تحريف ولا تعطيل.

وأنهم كما ذكر في المقطع الأول: (فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه)، وبهذا أيضاً تميزوا عن منهج أهل التمثيل الذين يكيفون ويمثلون صفات الله عز وجل، وبهذين المقطعين من كلامه رحمه الله تمت الضوابط المذكورة سابقاً في طريقة أهل السنة والجماعة، وهي: أنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.

قال: (ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله فيعطلوا أسماءه وصفاته العلى) لأن مقتضى النفي التعطيل (ويحرفوا الكلم عن مواضعه) أي: ويقعوا أيضاً في التحريف؛ لأن سلم التعطيل التحريف، فهم إذا عطلوا فلا يصلون إلى التعطيل إلا بالتحريف أو بالإلحاد.

ولذلك قال: (فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى ويحرفوا الكلم عن مواضعه ويلحدوا في أسماء الله وآياته) فذكر التعطيل والتحريف والإلحاد.

والإلحاد هو نظير التحريف؛ لأن التحريف هو: الميل والعدول بأسماء الله عز وجل وصفاته عن ظواهرها، والإلحاد هو كذلك، لكن الإلحاد أعم من التحريف، فالإلحاد في اللغة: هو الميل والعدول. وفي الاصطلاح يطلق على أشياء كثيرة:

منها -أي: من الإلحاد في أسماء الله عز وجل-: تسميته بغير ما يليق به سبحانه وتعالى كما يسميه بعض أهل الملل: (الأب) وغير ذلك من الأسماء التي لا تليق به.

ومن الإلحاد في أسمائه: إنكار بعض ما سمى به نفسه سبحانه وتعالى كما وقع من أهل الجاهلية الذين أنكروا اسم الرحمن.

ومن الإلحاد في أسمائه: صرفها عن ظواهرها التي دلت عليها النصوص إلى معان مرجوحة، وهذا هو التحريف الذي أشار إليه في قوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء:46].

ومن الإلحاد في أسمائه سبحانه وتعالى: تسمية غير الله عز وجل بأسمائه سبحانه وتعالى، أو اشتقاق أسماء الآلهة الباطلة من أسمائه، كاللات والعزى ومناة، فاللات مشتقة من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان.

فهذه أربع صور من صور الإلحاد في أسمائه سبحانه وتعالى، وكلها قد سلم منها أهل السنة والجماعة فلم يلحدوا في أسمائه جل وعلا ولا في آياته.

تركيب بدعة المعطلة من التعطيل والتمثيل والعكس

قال: (وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل) فبدعة المعطلة مركبة من بدعة التعطيل ومن بدعة التمثيل، كما أن بدعة الممثلة أيضاً مركبة من تمثيل وتعطيل.

ثم بين الشيخ رحمه الله كيف هذا فقال: (أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق) فهم أولاً وقعوا في التمثيل والتشبيه، فلم يفهموا من الاستواء إلا ما عرفوه من المخلوق، ولم يفهموا من السمع والبصر والعلم وغير ذلك من الأسماء والصفات التي وصف الله بها نفسه إلا ما يليق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات؛ لأنها تقتضي التمثيل والتشبيه، والله سبحانه وتعالى لا يشبه خلقه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات؛ فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل؛ فأول خطوة في طريق التعطيل هي التمثيل.

قال: (فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل، مثلوا أولاً وعطلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم) وهذا غلط؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين في غير ما موضع من كـتابه: أنه لا نظـير له ولا كـفء لـه ولا ند لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

قوله: (وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى) فلما مثلوا واعتقدوا التمثيل: نفوا ظواهر هذه الأسماء وهذه الصفات فعطلوا ما يجب له سبحانه وتعالى من الكمال وما يجب له سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات.

ذكر شبهة المعطل للاستواء وأن منشأها التمثيل

يضرب الشيخ رحمه الله مثالاً للجمع في بدعـة التعطيل بين التمثيل والتعطيل فيقول: (فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش) والعرش: هو سرير الملك وهو من أعظم المخلوقات التي خلقها الله جل وعلا وهو من أولها. قوله: (لو كان الله فوق العرش) أي: وقد أخبر سبحانه وتعالى بذلك في كتابه (للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساوياً) هذه لوازم عقلية ناشئة عن تمثيل الله بخلقه، قالوا: استواء الله كاستواء أحدنا على كرسيه أو على دابته أو على سريره، فلما وقعوا في ذلك قالوا: إما أن يكون أكبر -كما هو الحال في المخلوق- من العرش أو أصغر أو مساوياً، (وكل ذلك من المحال) في حقه سبحانه وتعالى فهو الكبير المتعال.

قال: (ونحو ذلك) من الإلزامات الباطلة التي منشؤها تمثيل الله بخلقه (فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان) أي: فلم يَعقل المبتدع ويدرِك من قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] إلا أنه كاستواء أي جسم على أي جسم.

(وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم) أي: هذا اللازم الباطل تابع لهذا المفهوم وهو التمثيل، (أما استواء يليق بجلال الله ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة)؛ لأنه سبحانه وتعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فإذا اعتقد العبد أن الاستواء الثابت له سبحانه وتعالى في كتابه ليس كأي استواء، وأن ذاته ليست كأي ذات، علم بذلك أنه لا يلزم على إثبات ما أثبته الله لنفسه في هذه الصفة أي لازم باطل، بل الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] (فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها كما يلزم سائر الأجسام).

ذكر شبهة الممثل في الاستواء وأن منشأها التعطيل

وبعد أن فرغ من بيان أن أول طريق التعطيل هو التمثيل أتى إلى الجانب الآخر وهو: أن الممثلة معطلة فقال:

(وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع) أي: خالق، فهذا الصانع: (إما أن يكون جوهراً أو عرضاً) الجوهر في كلام العرب هو: حقيقة الشيء وذاته. ومعناه عند المتكلمين قريب من هذا، وأما العرض فهو: الصفة، وهو ما لا يدوم ولا يبقى ولا يقوم بنفسه بل يقوم بغيره.

يقول: (إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون الصانع جوهراً) له حقيقة وذات، (وإما أن يكون عرضاً) لا يقوم بذاته ولا يدوم، (إذ لا يعقل موجود إلا هذان) لا يعقل موجود إلا عرض أو جوهر. (وقوله: إذا كان مستوياً على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير والفلك)؛ لأن العرش هو السرير والفلك هي البواخر، فلا يعقل من الاستواء إلا استواء الإنسان على سريره أو استواؤه على البواخر. (إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا) أي: في حق المخلوقين.

قوله: (فإن كليهما مثّل وكليهما عطّل حقيقة ما وصف الله به نفسه)، فوقع التمثيل عندما اعتقد المعطل أنه لا يتصور معنى للاستواء الثابت له سبحانه وتعالى إلا كالاستواء الثابت للمخلوق على السرير أو على الفلك أو على غير ذلك مما يستوي عليه، فهو في الحقيقة مثّل صفة الله عز وجل بصفة خلقه، فأدى به هذا إلى أن عطل الله سبحانه وتعالى عما يجب له من الكمال إذ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] فكان الممثل معطلاً.

بيان وجه تمثيل المعطلة وتعطيل الممثلة في الاستواء

ولذا قال: (فإن كليهما مثل وكليهما عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي) فالمعطل امتنع من إثبات أي اسم من الأسماء الحقيقية للاستواء بالنسبة لله عز وجل، وذهب يطلب معاني بعيدة للاستواء، ففسر الاستواء بالاستيلاء، أو بالإقبال، أو بالملك، أو بغير ذلك من البدع والتفاسير التي وقعوا فيها، وأولوا فيها الاستواء الثابت في كتابه، فالمعطلة أولوا قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] بأنه خلقه أو ملكه أو استولى عليه وكل هذه تأويلات وتعطيلات لاسم الاستواء عن معناه الحقيقي.

قوله: (وامتاز الثاني) وهو الممثل (بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين) فعطل الله سبحانه وتعالى عما يجب له من الكمال.

القول الفصل في الاستواء

ثم بعد أن فرغ من ذكر هاتين البدعتين في هذه الصفة، قرر طريقة أهل السنة والجماعة في هذه الصفة كالممثل بها حتى تقاس بقية الصفات عليها قال:

قوله: (والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط: من أن الله مستو على عرشه استواءً يليق بجلاله ويختص به) فأهل السنة والجماعة يثبتون الاستواء لله سبحانه وتعالى، لما مر في أول هذه الرسالة من الأدلة الدالة على استواء الله عز وجل على عرشه.

والاستواء في كلام السلف له أربع معان: العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار، فكلام السلف في تفسير الاستواء المذكور في كتاب الله عز وجل -الذي هو صفة له- دائر على هذه المعاني الأربع، وهم بذلك يثبتونه على الوجه الذي يليق به سبحانه وتعالى دون أن يمثلوا أو يكيفوا أو يعطلوا أو يحرفوا.

وذكرنا في شرح العقيدة الواسطية بيان انحرافات المتكلمين في هذه الصفة وأن أكثرهم ينفيها أو يؤولها بالاستيلاء، وأجبنا على أقوالهم في تلك الرسالة.