شرح الفتوى الحموية [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: [ ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة.

وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران، وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضاً -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره لما ناظر السمنية- بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات؛ فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين، والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين وإما من المشركين ].

في هذا المقطع يبين الشيخ رحمه الله مذهب النفاة أي: نفاة الصفات فقال: (ومذهب النفاة من هؤلاء) أي: المتكلمين، (في الرب سبحانه وتعالى: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة).

فالصفات السلبية: هي التي تصدر بالنفي، فيقولون: لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، ولا حي ولا قيوم وما إلى ذلك، وهذه الصفات نفوها عن الله عز وجل؛ لما اعتقدوه من أن إثبات الصفـات يقتضي التمثيل والتشبيه عندهم.

والصفات الإضافية: هي الصفات التي لا يعقل معناها إلا بغيرها فلا تفهم إلا بواسطة، وقيل: إن الصفات الإضافية هي كل صفة فعلية يكون الفعل فيها متعدياً إلى مفعول. فقالوا: لا نفهم صفة السمع إلا بأثرها وهو أنه يسمع، ولا البصر إلا بأنه يبصر.

قوله: (أو مركبة) أي: من الصفات السلبية والإضافية، وهذا أيضاً جمع بين النفي والإثبات.

أقسام نفاة الصفات

وهؤلاء النفاة لصفات الله عز وجل ينقسمون في الجملة إلى أربع طوائف:

الطائفة الأولى: الذين أثبتوا الأسماء وبعض الصفات ونفوا حقائق أكثرها، وهؤلاء هم الأشاعرة والماتريدية والذين يسميهم بعض أهل العلم: مثبتة الصفات.

والطائفة الثانية: هم من يثبت الأسماء دون الصفات، فيقولون: عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهؤلاء هم المعتزلة.

والطائفة الثالثة: هم الذين يصفون الله عز وجل بالنفي المجرد عن الإثبات ويقولون: إن الله هو الموجود المطلق بشرط الإطلاق أي: لا يوصف بصفة وإنما يوصف بالنفي، فلا موجود، ولا حي، ولا خارج العالم ولا داخل العالم، وهؤلاء هم الجهمية.

والطائفة الرابعة: هم غلاة الجهمية الذين سلكوا مسلك الجمع بين النفي والإثبات في وصف الله عز وجل، فيقولون: موجود ولا موجود.

هذا مجمل أقوال هؤلاء في باب الأسماء والصفات، وهؤلاء المتكلمون عملوا على تقسيم الصفات إلى أقسام كثيرة، فيقسمون الصفات إلى صفات سلبية، وصفات ثبوتية، وإلى صفات معنوية، وصفات ذاتية، وصفات اختيارية، وتقسيماتهم كثيرة جداً لمن طالع كتبهم, وهذا خلافُ منهج السلف رحمهم الله، فإن السلف لم يسلكوا هذا المسلك في صفات الله عز وجل، إذ إن طريقتهم في باب الأسماء والصفات واحدة لا يختلف، لكن هؤلاء لما فرقوا بين الصفات فأثبتوا بعضها ونفوا بعضها وأولوا بعضها، احتاجوا إلى هذه التقسيمات؛ ليبرروا تصرفاتهم وتحريفهم في باب الأسماء والصفات.

أسانيد الجهم في الصفات

ثم قال الشيخ رحمه الله : (وهم الذين بُعث إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم إليهم) يعني: الصابئة, فمذهب النفاة مأخوذ عن هؤلاء الصابئة (فيكون الجعد قد أخذها)، يعني: قد أخذ مذهبه في باب الأسماء والصفات وما يجب لله عز وجل في ذلك (عن الصابئة والفلاسفة) (وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته) يعني: كمالها وتقعيدها وتنظيرها (وأخذها الجهم أيضاً -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره- لما ناظر السمنية: بعض فلاسفة الهند) وهي فرقة في الهند تعتقد ما ذكره الشيخ (وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات)، فما لا تدركه الحواس لا يثبتونه، فهم على هذا ينكرون جميع الغيبيات، ومن عقائدهم: تناسخ الأرواح وإنكار الصانع وما إلى ذلك من العقائد المنحرفة.

(فهذه أسانيد جهم !) يعني: هذه أسانيده في العلم وما ذهب إليه من نفي صفات الله عز وجل، ومخالفة السلف فيما ذهبوا إليه، قال: (ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين!).

ثم قال: (والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين وإما من المشركين)، وبهذا يتبين ضلال طريق هؤلاء، وأنهم قد أخطئوا سبيل الرشاد.

تاريخ ظهور بدعة الجهمية في الأسماء والصفات

قال رحمه الله: [ ثم لما عربت الكتب الرومية في حدود المائة الثانية زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداءً من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم.

ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وأبى يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم في هؤلاء كثير في ذمهم وتضليلهم.

وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس)، ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني وأبي الحسين البصري وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم، هي بعينها التأويلات الذي ذكرها بشر المريسي في كتابه، وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضاً.

ولهم كلام حسن في أشياء، وإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي ، ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري, صنف كتاباً سماه: (نقض عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد)، حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته، ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي، علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفهم ].

بعد أن قرر الشيخ رحمه الله فيما سبق أصل مقالة التعطيل للصفات، وأنها مأخوذة عن اليهود والمشركين وضلال الصابئين والفلاسفة، وبين مذهب الصابئين في باب أسماء الله عز وجل وصفاته، وبين صلة أئمة الضلال والانحراف في باب أسماء الله عز وجل بهذه الفرق والطوائف الضالة.

فانتقل إلى بيان التسلسل التاريخي لهؤلاء فقال: (ثم لما عربت الكتب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية زاد البلاء) فاجتمع شر إلى شر، الشر الأول: وهو التلقي عن هؤلاء قبل أن تعرب الكتب، والشر الثاني: هو تعريب كتب اليونان والروم فيما يتعلق بالعلوم الإلهية، فزاد البلاء (مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء)، يعني ما كان في قلوبهم من الشبه والريب التي جاءت هذه الكتب فقعدتها وقررتها ونظرتها؛ فكانت هذه الكتب بمثابة التقرير والتقعيد والتنظير لتلك الشبه التي قرت في قلوبهم وتلقوها عن الضلال من الصابئين واليهود والمشركين والفلاسفة وغيرهم.

قال: (ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة)، وهي مقالة التعطيل ومقالة الجهل والنفي والتحريف في باب أسماء الله عز وجل وصفاته، (التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية) نسبة إلى الجهم بن صفوان (بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته) ممن سار على طريقته وسلك منهجه في باب تعطيل الله جل وعلا عن أسمائه وصفاته.

وهؤلاء النفاة لصفات الله عز وجل ينقسمون في الجملة إلى أربع طوائف:

الطائفة الأولى: الذين أثبتوا الأسماء وبعض الصفات ونفوا حقائق أكثرها، وهؤلاء هم الأشاعرة والماتريدية والذين يسميهم بعض أهل العلم: مثبتة الصفات.

والطائفة الثانية: هم من يثبت الأسماء دون الصفات، فيقولون: عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهؤلاء هم المعتزلة.

والطائفة الثالثة: هم الذين يصفون الله عز وجل بالنفي المجرد عن الإثبات ويقولون: إن الله هو الموجود المطلق بشرط الإطلاق أي: لا يوصف بصفة وإنما يوصف بالنفي، فلا موجود، ولا حي، ولا خارج العالم ولا داخل العالم، وهؤلاء هم الجهمية.

والطائفة الرابعة: هم غلاة الجهمية الذين سلكوا مسلك الجمع بين النفي والإثبات في وصف الله عز وجل، فيقولون: موجود ولا موجود.

هذا مجمل أقوال هؤلاء في باب الأسماء والصفات، وهؤلاء المتكلمون عملوا على تقسيم الصفات إلى أقسام كثيرة، فيقسمون الصفات إلى صفات سلبية، وصفات ثبوتية، وإلى صفات معنوية، وصفات ذاتية، وصفات اختيارية، وتقسيماتهم كثيرة جداً لمن طالع كتبهم, وهذا خلافُ منهج السلف رحمهم الله، فإن السلف لم يسلكوا هذا المسلك في صفات الله عز وجل، إذ إن طريقتهم في باب الأسماء والصفات واحدة لا يختلف، لكن هؤلاء لما فرقوا بين الصفات فأثبتوا بعضها ونفوا بعضها وأولوا بعضها، احتاجوا إلى هذه التقسيمات؛ ليبرروا تصرفاتهم وتحريفهم في باب الأسماء والصفات.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الفتوى الحموية [23] 2836 استماع
شرح الفتوى الحموية [8] 2292 استماع
شرح الفتوى الحموية [17] 2164 استماع
شرح الفتوى الحموية [27] 2162 استماع
شرح الفتوى الحموية [15] 1970 استماع
شرح الفتوى الحموية [10] 1871 استماع
شرح الفتوى الحموية [2] 1854 استماع
شرح الفتوى الحموية [3] 1844 استماع
شرح الفتوى الحموية [20] 1795 استماع
شرح الفتوى الحموية [24] 1784 استماع