خطب ومحاضرات
شرح الفتوى الحموية [27]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه، وأصلي وأسلم على أشرف الخلق أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً ألبتة، مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه)، ونحو ذلك؛ فإن هذا غلط؛ وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]، فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه).
وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة ].
ذكر المؤلف رحمه الله بعد أن قال: (ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه البعض ألبتة) مثالاً لما قد يتوهم من التناقض فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه، فقال رحمه الله: (مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه) ونحو ذلك)، يعني: من الأحاديث أو النصوص سواء من الكتاب أو السنة التي تدل على معيته سبحانه وتعالى، قال: (فإن هذا غلط) أي: اعتبار نصوص المعية مخالفة لنصوص العلو والاستواء (وذلك أن الله معنا حقيقة)، أي: كما أخبر به عن نفسه سبحانه وتعالى، (لا نحتاج في ذلك إلى تأويل) أي: لا نحتاج في ذلك إلى تحريف، بل نثبته كما أثبته سبحانه وتعالى لنفسه في كتابه.
(وهو فوق العرش حقيقة) أي: كما أخبر في كتابه، وكما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم (كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]، فجمع بين هذين المعنيين وبين هاتين الصفتين في آية واحدة, فدل ذلك على أنه لا تعارض بينهما ولا تناقض، بل إثبات علو الله سبحانه وتعالى على عرشه لا يناقض أنه سبحانه وتعالى مع خلقه حقيقة.
ثم قال: (فأخبر أنه فوق العرش) يعني: في هذه الآية، (وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال) وهو حديث مشهور رواه الترمذي بسند لا بأس به وفيه: (والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه).
وأضيف الحديث للأوعال؛ لأن فيه ذكر الأوعال, والأوعال: جمع وعل، وهو في اللغة تيس الجبل، ويطلق أيضاً في اللغة على الأشراف والكبراء من كل شيء، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تعلو السفول وتهلك الوعول، قيل: وما السفول يا رسول الله؟ قال -ما معناه- أنهم أردأ القوم, قيل: وما الوعول يا رسول الله؟ قال: أهل البيوت الصالحة) أي: الأشراف من أهل الخير والصلاح.
فالوعول: هم الأشراف وهم من أشرف خلق الله سبحانه وتعالى, كما ثبت أنهم ثمانية يحملون العرش في حديث الأوعال.
فالله جل وعلا على عرشه، وهو فوقه سبحانه وتعالى، ومع ذلك فهو يعلم سبحانه وتعالى ما أنتم عليه، وهذا تفصيل وبيان لمعنى المعية المذكورة في الآية، وأنها ليست المعية التي تقتضي المخالطة والممازجة، بل هي معية العلم كما فسرها بذلك المفسرون من أهل السنة والجمـاعة.
قال: (وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال) أو عن أي جهة، فالذي تفيده كلمة (مع) هو المقارنة والمصاحبة، لكن لا يستلزم ذلك وجوب المماسة أو المحاذاة من أي جهة من يمين أو شمال أو فوق أو تحت، (فإذا قيدت بمعنى من المعاني؛ دلت على المقارنة في ذلك المعنى) ولم تفد المحاذاة والمماسة.
يقول في ضرب الأمثال على صحة هذه القاعدة وأن (مع) في اللغة تدل على المقارنة المطلقة لا على المحاذاة والمماسة: (مازلنا نسير والقمر معنا)، ومعلوم أن القمر ليس مخالطاً ولا محاذياً ولا مماساً لمن قالوا بهذا القول، قال: (أو النجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة)، فلا تعارض بين معنى العلو ومعنى المعية.
ولما كان هناك من يفهم من ذلك المعارضة بين هاتين الصفتين؛ جرى كثير من أهل العلم على ذكر الصفتين مقترنتين، فإذا ذكر بحث العلو أو الاستواء ذكر معه بحث المعية؛ ليبين عدم التعارض بين هاتين الصفتين، كما جمع الله سبحانه وتعالى بينهما في آية الحديد: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .
قال رحمه الله: [ ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا إلى قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ؛ دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها: أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.
وكذلك في قوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] الآية، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار: (لا تحزن إن الله معنا)، كان هذا أيضاً حقاً على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد.
وكذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وكذلك قوله لموسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد ].
المعية العامة
المعية الخاصة
قال: (وكذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ، وقوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى قال: (هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد)، وهذا هو القسم الثاني من أقسام المعية، وهي المعية الخاصة التي لا تكون إلا لعباد الله الصالحين؛ من المحسنين، والمتقين، والمرسلين. وهي تختلف باختلاف الإحسان التقوى، فعلى قدر تحقق هذه الأوصاف التي أخبر الله سبحانه وتعالى فيها بأنه مع أهلها تتحقق المعية لهم.
اختلاف دلالة المعية بحسب موضعها وسياق ذكرها
فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع، يقتضي في كل موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها، وإن امتاز كل موضع بخاصية؛ فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، حتى يقال: قد صرفت عن ظاهرها ].
أي: سواء قلنا: إن المعية في كل موضع تختص بمعنى خاص، أو: إن المعية تشترك في هذه المواضع كلها بمعنى عام مشترك، وفي كل موضع تختص بمعنى خاص بها مع وجود المعنى العام المشترك، فعلى كلا التقديرين ليست هذه الصفة معارضة لما ثبت من علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، (وليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، حتى يقال: قد صرفت عن ظاهرها).
بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من بيان عدم التعارض بين إثبات صفة المعية، وإثبات صفة العلو، بيَّن أن المعية تطلق ويختلف معناها بحسب موردها وبحسب السياق الذي وردت فيه، فهي تدل على معنى مشترك في الجميع، إلا أنها تختص في مواردها بمعان خاصة، فقوله جل وعلا في سورة الحديد: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ، وفي سورة المجادلة: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ، فهذه المعية معناها معية العلم، وهي على حقيقتها، وهي التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال (والله فوق العرش ويعلم ما أنتم عليه)، فهي معية العلم التي تقتضي تمام علمه سبحانه وتعالى، وإحاطته بخلقه، وبما يجري منهم، وهذه المعية تسمى (المعية العامة)، وهو القسم الأول من المعية، وهي مع كل شيء حيث يعلم سبحانه وتعالى به, فهو الظاهر والباطن والأول والآخر، وهو سبحانه وتعالى بكل شيء محيط.
القسم الثاني من أقسام المعية: المعية الخاصة التي تدل على معنى زائد على العلم والإحاطة، وهي معية النصر والتأييد والحفظ، وما إلى ذلك من المعاني التي يدل عليها هذا اللفظ في موارده، فمن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه كما قص الله في كتابه: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، قال: (كان هذا حقاً على ظاهره لا تأويل فيه ولا تحريف، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية يخالف حكم المعية السابقة)، فإن حكم المعية في الآيتين السابقتين: الإحاطة والعلم، أما هنا فهو أمر زائد على الإحاطة والعلم، وهي معية الاطلاع والنصر والتأييد والحفظ، وما إلى ذلك من المعاني.
قال: (وكذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ، وقوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى قال: (هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد)، وهذا هو القسم الثاني من أقسام المعية، وهي المعية الخاصة التي لا تكون إلا لعباد الله الصالحين؛ من المحسنين، والمتقين، والمرسلين. وهي تختلف باختلاف الإحسان التقوى، فعلى قدر تحقق هذه الأوصاف التي أخبر الله سبحانه وتعالى فيها بأنه مع أهلها تتحقق المعية لهم.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الفتوى الحموية [23] | 2835 استماع |
شرح الفتوى الحموية [8] | 2291 استماع |
شرح الفتوى الحموية [17] | 2163 استماع |
شرح الفتوى الحموية [15] | 1970 استماع |
شرح الفتوى الحموية [10] | 1870 استماع |
شرح الفتوى الحموية [2] | 1854 استماع |
شرح الفتوى الحموية [3] | 1844 استماع |
شرح الفتوى الحموية [6] | 1841 استماع |
شرح الفتوى الحموية [20] | 1794 استماع |
شرح الفتوى الحموية [24] | 1783 استماع |