شرح الفتوى الحموية [23]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول: شيخ الإسلام رحمه الله تعالى رحمة واسعة: [ وفي عصره الحافظ أبو بكر البيهقي مع توليه للمتكلمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري وذبه عنهم، قال في كتابه (الأسماء والصفات): باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين -لا من حيث الجارحة- لورود خبر الصادق به، قال الله تعالى: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وقال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وذكر الأحاديث الصحاح في هذا الباب مثل قوله في غير حديث في حديث الشفاعة: (يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه) ومثل قوله في الحديث المتفق عليه: (أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده) وفي لفظ: (وكتب لك التوراة بيده).

ومثل ما في صحيح مسلم: (أنه سبحانه غرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده)، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده، كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر؛ نزلاً لأهل الجنة)، وذكر أحاديث مثل قوله: (بيدي الأمر)، (والخير في يديك)، (والذي نفس محمد بيده) (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، وقوله: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين)، وقوله: (يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)، وقوله: (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط، يخفض ويرفع)، وكل هذه الأحاديث في الصحاح.

وذكر أيضاً قوله: (إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت. قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة)، وحديث: (إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره بيده)، إلى أحاديث أخر ذكرها من هذا النوع.

ثم قال البيهقي : أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب، وكذلك قال في الاستواء على العرش وسائر الصفات الخبرية، مع أنه يحكي قول بعض المتأخرين ].

نقل الشيخ رحمه الله هذا الكلام عن أبي بكر البيهقي -بعد أن فرغ من النقل عن أئمة أهل السنة والجماعة على اختلاف عصورهم- وهو من الأشاعرة رحمه الله وغفر له، وأراد الشيخ بهذا أن يثبت أن إثبات الصفات يلزم من ذهب إلى التأويل وقال به، فإنه مضطر إلى إثبات بعض الصفات، ومن ذلك ما نقل الشيخ رحمه الله عن أبي بكر البيهقي في إثبات صفة اليدين، وهي من الصفات الخبرية التي وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه، وقد أولها كثير من المتكلمين، إلا أن الأشاعرة -وهم من جملة المتكلمين- سلكوا في هذه الصفات طريقين: فالمتقدمون منهم أثبت هذه الصفات الخبرية التي جاءت في القرآن: كاليدين والعين والوجه.

ثم هؤلاء المتقدمون انقسموا إلى فريقين: فمنهم من أثبت معناها، ومنهم من فوَّضها.

وأما أصحاب الطريق الثاني، وهو طريق المتأخرين من الأشاعرة -وهو طريق التأويل-: فأولوا هذه الصفات ولم يثبتوها لله سبحانه وتعالى؛ فأولوا اليدين بالنعمة، وأولوا العين بالرعاية والعناية، وأولوا الوجه بأنه الذات أو الجهة، وما أشبه ذلك من التأويلات التي ذكروها في كتبهم.

والبيهقي سار في هذه الصفات على طريقة المتقدمين من الأشاعرة، إلا أنه يظهر في آخر النقل عنه أنه فوض معناها، حيث قال: (وأما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب)، فكأنه أثبتها دون التعرض لمعناها؛ لكونه قد نقل عن المتقدمين عدم تفسيرها.

والناظر في كلام أهل السنة من المتقدمين والمتأخرين: يعلم أنهم رحمهم الله قد فسروا هذه الآيات، وأنهم تكلموا عليها كسائر الآيات التي في كتاب الله سبحانه وتعالى، إلا أنهم أعرضوا عن ذكر الكيفية على القاعدة التي سلكوها في هذا الباب من عدم البحث في الكيفية، وأن الكيفية لا يمكن الوقوف عليها؛ لأن الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما لا تعلم كيفية ذاته جل وعلا؛ فكذا لا تعلم كيفية صفاته.

[ وقال القاضي أبو يعلى في كتاب (إبطال التأويل): لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة.

وذكر بعض كلام الزهري ومكحول ومالك والثوري والأوزاعي والليث وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة والفضيل بن عياض ووكيع وعبد الرحمن بن مهدي والأسود بن سالم وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم في هذا الباب، وفي حكاية ألفاظهم طول.

إلى أن قال: ويدل على إبطال التأويل: أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفوها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغاً لكانوا أسبق إليه؛ لما فيه من إزالة التشبيه، ورفع الشبهة ].

هذا نقل آخـر عن بعض المتأخـرين الذين خالفـوا طريقـة السلف في إثبات الصفات، وهو القاضي أبو يعلى رحمه الله -وهو من كبراء الحنابلة- إلا أنه في باب الأسماء والصفات لم يسلك مسلك المتقدمين من أهل السنة والجماعة، بل كان له أغلاط ناشئة عن جهله بمعاني الآيات والأحاديث، وفهم طريقة السلف رحمهم الله، وقد نقل عنه الشيخ رحمه الله هذا النقل الذي فيه أنه أثبت الصفات، وهو ينزع إلى التفويض أكثر منه إلى التأويل، فمرة يفوض ومرة يؤول، ولكن أكثر كلامه يميل فيه إلى التفويض.

وقد يفهم هذا من قوله: (ولم يتعرضوا لتأويلها)؛ فقد يقول قائل: إن (تأويلها) هنا المراد به تفسيرها، ولكن قد يكون هذا المعنى بعيداً لقوله: (ولا صرفوها عن ظاهرها) أي: بمعنى أنهم أجروها على معناها الظاهر دون تعرض لتأويلها -التأويل الذي سلكه المأولة- من صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر إلى معنى يحتمله النص مرجوح.

[ وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام في كتابه الذي صنفه في (اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين)، وذكر فرق الروافض والخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم.

ثم قال: (ذكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث): جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء عن الله تعالى، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون شيئاً من ذلك، وأن الله واحد أحد فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وكما قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وأن له عينين بلا كيف كما قال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]، وأن له وجهاً كما قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27]، وأن أسماء الله تعالى لا يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج.

وأقروا أن لله علماً كما قال: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، وكما قال: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر:11]، وأثبتوا له السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة كما قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت:15].

وذكر مذهبهم في القدر. إلى أن قال: ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في اللفظ والوقف، من قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق، ويقرون أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون؛ لأنهم عن الله محجوبون، قال عز وجل: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].

وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء.. إلى أن قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون: مخلوق، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار.. إلى أن قال: وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، ويسلمون الروايات الصحيحة كما جاءت به الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات، عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقولون: كيف؟ ولا لم؟ لأن ذلك بدعة عندهم.

إلى أن قال: ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر:22]، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16].. إلى أن قال: ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الآثار، والنظر في الفقه مع الاستكانة والتواضع، وحسن الخلق مع بذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة، والسعاية، وتفقد المآكل والمشارب.

قال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان ].

الأشعري رحمه الله وغفر له هو من أصحاب الطرق الكلامية، كان في أول أمره معتزلياً، ثم بعد ذلك عدل عن هذه الطريق وانتقل إلى الرد عليهم، ثم بعد ذلك سلك طريقة أهل السنة، إلا أنه لعدم فهمه ولطول مكثه على طريقة أهل البدع؛ لم يفهم أقوال أهل السنة والجماعة الفهم التام الصحيح، فبقيت عنده رواسب كثيرة ناشئة عن عدم معرفته لمراد أهل السنة والجماعة، فمثلاً ما سيذكره بعد قليل من إثباته العرش أو استوائه على العرش، فهو يثبت الاستواء كما يثبته أهل السنة والجماعة، إلا أنه يفسره بغير ما فسره به أهل السنة والجماعة، من أنه فعل يقوم بالله جل وعلا، فهو فسره بأنه فعل يقوم بالعرش، بخلاف طريقة أهل السنة والجماعة.

وما نقله عنه الشيخ في هذا المقطع موافق لأهل السنة والجماعة، وفي آخره ذكره رحمه الله (ويرون مجانبة كل داعٍ إلى البدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الفقه) يعني: والإعراض عن طريق غيرهم ممن اشتغلوا بكلام الفلاسفة واليونان، قال: (مع الاستكانة والتواضع وحسن الخلق مع بذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية وتفقد المآكل والمشارب) ليبين أيضاً أن طريق السلف ليس فقط مقصوراً على التقرير النظري للأسماء والصفات، بل يشمل أيضاً التقرير العملي لهذه الأسماء والصفات، والتعبد لله عز وجل بمقتضاها.

(فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله. . . . . . .)

[ وقال الأشعري أيضاً في اختلاف أهل القبلة في العرش: قال أهل السنة وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وإنه استوى على العرش، كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ، ولا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول: استوى بلا كيف، وأن له وجهاً كما قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ ، وأن له يدين كما قال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ، وأن له عينين كما قال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ، وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ، وأنه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب، أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت المعتزلة: إن الله استوى على العرش بمعنى استولى، وذكر مقالات أخرى.

وقال أيضاً أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه (الإبانة في أصول الديانة): (وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه، فقال: (فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة). فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة؛ فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؛ قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، فنحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل -نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم ]

وهذا يبين أنه رجع عن قوله السابق الواضح في كلام المتقدمين، إلا أنه رحمه الله وغفر له لم يوفق كما ذكرنا إلى إصابة ما كان عليه الإمام أحمد والسلف إصابةً تامةً.