تفسير سورة الجاثية [1-8]


الحلقة مفرغة

هذه سورة الجاثية، وهي تشتمل على تسع وثلاثين آية، وهي سورة مكية، أي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة.

ويقال: سورة مكية وسورة مدنية، فما نزل بمكة فهو مكي، وما نزل بالمدينة فهو مدني، وما نزل بينهما إن كان وهو في مكة فهو مكي، وإن كان في طريقه إلى المدينة فهو مدني، وليس في القرآن إلا مكي أو مدني.

وقبل بداية السورة تقرأ البسملة، والبسملة لم تنزل في سورة مقطوعاً بها إلا في سورة النمل في ذكر الرسالة التي أرسلها سليمان إلى بلقيس ملكة اليمن، في قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30] .

وذكر البسملة في أوائل السور من باب التيمن والتبرك بهذه الآية الكريمة، ومن هناك تنازع الفقهاء في قراءة البسملة مع الفاتحة في الصلاة، فقالت المالكية: لا تقرأ، وقالت الحنفية: لا تقرأ، واختلف في النقل عن الحنابلة كالعادة، وقالت الشافعية: تجب قراءتها، ودليل الشافعية ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرع في الصلاة فقال: الله أكبر، بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2].

وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الله أكبر الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وهذا دليل من قال: لا تجب قراءة البسملة مع الفاتحة.

ولكن علماء الأصول يقولون: المثبت مقدم على النافي، فمن نقل قراءة (بسم الله الرحمن الرحيم) فقد أثبت ما سمعه، وهو ثقة في الرواية، فيجب قبول الرواية، ومن لم ينقل ذلك فإنه لم يسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بسم الله الرحمن الرحيم)، وكونه لم يسمع ليس حجة على من سمع، ولذلك فإن القاعدة الأصولية: (من سمع حجة على من لم يسمع)، فقراءة البسملة ثبتت عمن سمعها من الأصحاب رضي الله عنهم، وثبتت في وصف الصلاة للمسيء صلاته عندما صلى مستعجلاً غير مطمئن، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ارجع فصل؛ فإنك لم تصل) أي: أعد صلاتك؛ فصلاتك ليست بصحيحة، فأعاد ثم أعاد، ولم يأت إلا بصلاة فاسدة، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله! علمني. فقال: (توضأ ثم استقبل القبلة، ثم قل: الله أكبر، ثم اقرأ بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2] ..) إلى آخر الصلاة من ركوع وجلوس وسجود وقيام وتكبير وسلام.

فالنبي عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه بسمل في قراءة الفاتحة، فهي رواية عملية، وثبت أنه قال: للمسيء صلاته: (قل: الله أكبر بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2]) فقراءة البسملة مع الفاتحة وردت بها الأحاديث العملية، والأحاديث القولية، وما ورد من خلاف ذلك فهي رواية من لم يسمع، ومن لم يسمع ليس بحجة على من سمع.

قال تعالى: حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجاثية:1-2].

قوله تعالى: حم [الجاثية:1] مضى في السور قبلها أن هذه من الحروف المقطعة، وأنها من حروف الهجاء الأبجدية، وأن القرآن ألف وركب منها، فالكلام الذي تكلم به مشتمل على حروف الهجاء الأبجدية العربية، والقرآن على إعجازه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله -بل ولا الخلق كلهم، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً- لم ينظّم ولم يركب إلا من هذه الحروف، وهي حروف اللغة العربية التي يعلمها كل من يعلم لغة العرب، ومع ذلك تحداهم الله منذ (1400) عام في أن يأتوا بمثل هذا القرآن في سورة، ولم يفعلوا ولن يفعلوا، وقد مضى على هذا التحدّي 1400، عام وسيبقى التحدي قائماً، وسيبقى الإعجاز موجوداً، وذلك من معجزات القرآن، ومن أعظم الأدلة القاطعة على أنه كلام الله، فلن يستطيع مخلوق -سواء أكان ملكاً أم جنياً أم إنسياً- أن يأتي بمثله أو ببعضه في حال من الأحوال قط.

قال تعالى: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجاثية:2].

هذا الكتاب هو تنزيل من الله ووحي من الله، وليس هو كما زعم الكافرون، ولا كما زعم المنافقون أنه قول محمد صلى الله عليه وسلم وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، فمعاذ الله من ذلك، بل هذا كذب وإفك وبهتان.

وقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجاثية:2] أي: هو كلام الله العزيز الحكيم.

العزيز الذي لا يقاوم، العزيز الذي لا ينال في كلامه ولا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، فكل بحكمة، وكل لفائدة، وليس في أفعاله شيء باطل قط، قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان:38-39] فليس هناك شيء خلق عبثاً، وليس هناك شيء خلق باطلاً، بل كل شيء لحكمة ولفائدة.

وقوله تعالى: تَنزِيلُ الْكِتَابِ [الجاثية:2].

الكتاب: هو القرآن الكريم، والألف واللام للعهد الذهني، أي: الكتاب الذي يتكلم عنه هو كتاب الله، وهو الكتاب الذي ورد وصفه ونعته وأنه كلام الله الحق.

وقوله تعالى: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجاثية:2] أي: هذا الكتاب هو تنزيل موحىً به إلى قلب عبده ونبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، نزل به عن الله جبريل روح الأمين على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية:3] .

يلفت ربنا نظر العاقلين والمؤمنين إلى هذه الأرض وما عليها من جبال، ووهاد، وبحار، وتلال، وجذوع، ودواب، وطير، وجن، وإنس، وإلى السماوات والأرض وما فيها من نجوم وأفلاك ومجرات لا يحصي عددها إلا الله، وهي محمولة بغير عمد نراها، فلا عمد لها، بل هي قائمة بقوة الله وبقدرة الله لا تحتاج إلى ما يحملها.

ولو جئنا ببناء من بيت أو غرفة وأردنا أن نحمله على غير عمد لسقط ولعجزنا عن بنائه، ولكن الله الكريم حمل السماوات السبع وما فيهن وما بينهن، وحمل الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن بغير عمد، ويرى ذلك كل ذي عينين، فهل هذا أمر يعجز الإنسان عن أن يفكر فيه، وأن ينظر في حكمته، وأن ينظر في آياته؟!

ألم يدر بعقل المرء يوماً في ساعة من الساعات أن يقول: من خلق هذا؟! من حمله بغير عمد؟! كيف قام الله برزق هؤلاء جميعاً؟! كيف لم يعجزه رزق الخلق كلهم وكفايتهن وتدبير أمورهم والقيام عليه؟!

إن الملك في الأرض -مهما كانت دولته عظيمة، ومهما كانت خزائنه عامرة- لو كُلِّف بأن يُطعم رعيته لعجز عن ذلك، ولماتوا عطشاً وجوعاً، ولكن الله الخالق الرازق لا يعجزه ذلك، فهو الذي خلق كل الخلق، وهو الذي يدبر أمورهم، وعليه حياتهم ومماتهم ورزقهم وصحتهم وضعفهم، وكل ما هم في حاجة إليه.

فالمؤمنون يتفكرون في هذا ويعون هذا ويدركون أسرار هذا ويتخذون من ذلك علامات بينات وآيات واضحات على قدرة الله ووحدانية الله، وأنه القادر على كل شيء المدبِّر لكل شيء، الرازق لكل شيء، المحيي المميت لكل شيء.

يقول تعالى: إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية:3] أي: إن في هذه السماوات والأرض لآيات وعلامات واضحات معجزات بينات دالة على قدرة الله ووحدانية الله، وأنه الخالق لكل الكون وحده، لم يعنه على ذلك أحد ولم يحتج إلى أحد.

معنى قوله تعالى: (وفي خلقكم)

قال تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية:4].

قوله تعالى: (وفي خلقكم) ألم يفكر أحدنا في هذا المعنى يوماً؟! فكيف تنظر العين فيما تراه من آلاف القطع والأجزاء؟! وكيف تسمع الأذن؟! وكيف يشم الأنف؟! وكيف يطعم اللسان؟! وكيف تمضغ الأسنان؟! وكيف يقدِّر العقل ويفهم؟! وكيف نمشي على هاتين الرجلين تحمل أجسامنا على طولها وعرضها؟! وهذه اليد كيف نحركها؟! فالأصابع منها لشيء، والكف لشيء، وبقية اليد لأشياء أخرى.

والصدر فيه القلب والكبد والرئة والأمعاء، وبعض هذه الأعضاء لو توقف ساعة لهلك الإنسان، ويدخل الطعام إلى المعدة فيطحن طحناً جيداً، ويمر بعض ما يستخلص منه على الكبد، وعلى الطحال، ويمر على قنوات، يدخل لذيذاً طيباً ويخرج قذراً منتناً، وأنت أول من يكرهه ويبتعد عن رائحته، يؤخذ اللب فيتغذى منه الجسد، وتبقى الفضلات فترمى إلى الأرض، ومن عجيب أمر الله أن تلك الفضلات القذرة يتغذى بها بعض الخلق، كالجراثيم مثلاً.

يقول تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ [الجاثية:4] أي: في خلق أنفسكم، وكان أبوكم الأول من تراب، وبقي دهراً وهو أجوف، يدخل الشيطان من دبره ويخرج من رأسه وهو يعجب ويقول: ما هذا التمثال إلا لشيء أراده الله، وإذا بهذا التمثال يصبح بشراً سوياً ناطقاً متكلماً ذا حواس وشكل جميل يعقل ويدرك وينطق ويفهم.

ثم خلق بعده أمنا حواء من ضلع أبينا آدم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.

ثم خلق الخلق بعد ذلك من نطفة تكون بذرتها في أصلاب الرجال ويكون زرعها في أرحام النساء، ولا بد لكل مخلوق بعد ذلك من رحم وصلب.

وغير الله سنته فخلق عيسى من أم بلا أب، فقال عنه: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، فخلق آدم من التراب، وقال لعيسى: (كن) من نفخة نفخها جبريل في جيب مريم، فكان جميلاً في رحمها، ومضت عليه الأشهر التي يولد لمثلها الأطفال، وهي تسعة أشهر، فمن فعل ذلك؟! ومن خلق ذلك؟! ومن دبر ذلك؟! فهل يفكر أحدنا يوماً في هذا؟!

أما المؤمنون فنعم، فهم يعلمون هذا علم يقين، يعيشون به مؤمنين، ويعيشون به مصدقين، ويعيشون به موقنين، وليس كذلك الكفرة، فمن بلادة عقولهم وسخافة نفوسهم يرون هذا، وتتسلسل رؤيته في الآباء والأجداد والأولاد والأسباط، ومع ذلك لا يخرجون بمعرفة كيف كان ذلك ومن صنعه، وقد يقول كافر: صنعنا من هذه النطفة. فنقول: ومن خلق النطفة؟! ومن كون النطفة؟! ومن جعله أطواراً من علقة إلى مضغة إلى بشر سوي، ثم إلى طفل رضيع ثم إلى طفل يحبو، ثم إلى طفل يقف على قدميه، ثم إلى يافع، ثم إلى شاب بالغ، ثم إلى مكلف بالحلال والحرام من الرسل ومن كتب الله، ثم إلى كهل، ثم إلى شيخ، ثم يعود إلى التراب، قال تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:14] فمن الذي خلقنا في هذه الأطوار وشكّلنا ونوّعنا؟! أليس هو الله جل جلاله؟!

معنى قوله تعالى: (وما يبث من دابة)

قوله تعالى: وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ [الجاثية:4].

أي: وما نشر في الأرض وبث ووزع مما يدب على وجه الأرض على رجلين أو على أربع أو يزحف زحفاً على بطنه، أو يطير بجناحين، فكل دابة من خلقها؟! ومن صنعها؟! ومن صورها؟

فكل هذه علامات بينات ودلائل واضحات لا يردها إلا أعمى البصيرة الجاهل جهلاً مركباً، فهو جاهل ويجهل أنه جاهل.

ولذلك يلفت الله جل جلاله أنظارنا إلى شيء نراه في إصباحنا وفي ممسانا وفي نهارنا وفي ليلنا وفي اجتماعنا وفي وحدتنا، ولا يتجاهله إلا أعمى البصيرة، فيقول تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ [الجاثية:4] أي: ما يبث في الأرض ويزرع وينشر ويخلق من دابة، و مِنْ للاستغراق، أي: من كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان ناطق، أو حيوان غير ناطق، وإن كان الخرس في الحيوانات نسبياً، فهي تتكلم بما يفهم به بعضها بعضاً.

وقد يُفهم الله كلامهما لمن أراد، كما كان أفهم سليمان منطق الطير، وكما قد يحدث ذلك بمعجزة، كما حدث لنبينا عليه الصلاة والسلام، فقد أفهمه الله تعالى منطق الجمل ومنطق الضب ومنطق البقرة، بل ومنطق الجماد في الجذع الذي تركه حين وصنع له غيره، فكان لذلك الجذع تألم وتوجع وصوت حيث تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بركة رجليه ومن بركة كلامه، ففهم منطق الجماد، فكيف بالحي الذي يُرزق من دابة أو طير؟! وكيف بالإنسان؟! وقد كلمته الجن، وسمعت تلاوته، وآمنت به وبالكتاب الذي أنزل عليه، وبالوحي الذي آتاه الله إياه.

معنى قوله تعالى: (آيات لقوم يوقنون)

يقول تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية:4].

ففي ذلك آيات وعلامات ودلائل واضحات وبراهين ساطعات على قدرة الله ووحدانية الله وأنه القادر على كل شيء، ولذلك قالوا عن الحواميم: هن بساتين القرآن؛ لكثرة ما فيها من كلام عن التوحيد وعن أهل الجنة وعن أهل النار، وعن وصف أهل النار ووصف أهل الجنة، ووصف النار ووصف الجنة.

فهنا يعدد الله تعالى علينا آياته البينات وبراهين قدرته الساطعات، ثم يقول: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية:4] أيقنوا بالحق، وأيقنوا بالصدق، وأيقنوا بالله واحداً، وأيقنوا بمحمد نبياً ورسولاً، وأيقنوا بالقرآن كتاب صدق وكتاب حق من الله جل جلاله.

قال تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية:4].

قوله تعالى: (وفي خلقكم) ألم يفكر أحدنا في هذا المعنى يوماً؟! فكيف تنظر العين فيما تراه من آلاف القطع والأجزاء؟! وكيف تسمع الأذن؟! وكيف يشم الأنف؟! وكيف يطعم اللسان؟! وكيف تمضغ الأسنان؟! وكيف يقدِّر العقل ويفهم؟! وكيف نمشي على هاتين الرجلين تحمل أجسامنا على طولها وعرضها؟! وهذه اليد كيف نحركها؟! فالأصابع منها لشيء، والكف لشيء، وبقية اليد لأشياء أخرى.

والصدر فيه القلب والكبد والرئة والأمعاء، وبعض هذه الأعضاء لو توقف ساعة لهلك الإنسان، ويدخل الطعام إلى المعدة فيطحن طحناً جيداً، ويمر بعض ما يستخلص منه على الكبد، وعلى الطحال، ويمر على قنوات، يدخل لذيذاً طيباً ويخرج قذراً منتناً، وأنت أول من يكرهه ويبتعد عن رائحته، يؤخذ اللب فيتغذى منه الجسد، وتبقى الفضلات فترمى إلى الأرض، ومن عجيب أمر الله أن تلك الفضلات القذرة يتغذى بها بعض الخلق، كالجراثيم مثلاً.

يقول تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ [الجاثية:4] أي: في خلق أنفسكم، وكان أبوكم الأول من تراب، وبقي دهراً وهو أجوف، يدخل الشيطان من دبره ويخرج من رأسه وهو يعجب ويقول: ما هذا التمثال إلا لشيء أراده الله، وإذا بهذا التمثال يصبح بشراً سوياً ناطقاً متكلماً ذا حواس وشكل جميل يعقل ويدرك وينطق ويفهم.

ثم خلق بعده أمنا حواء من ضلع أبينا آدم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.

ثم خلق الخلق بعد ذلك من نطفة تكون بذرتها في أصلاب الرجال ويكون زرعها في أرحام النساء، ولا بد لكل مخلوق بعد ذلك من رحم وصلب.

وغير الله سنته فخلق عيسى من أم بلا أب، فقال عنه: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، فخلق آدم من التراب، وقال لعيسى: (كن) من نفخة نفخها جبريل في جيب مريم، فكان جميلاً في رحمها، ومضت عليه الأشهر التي يولد لمثلها الأطفال، وهي تسعة أشهر، فمن فعل ذلك؟! ومن خلق ذلك؟! ومن دبر ذلك؟! فهل يفكر أحدنا يوماً في هذا؟!

أما المؤمنون فنعم، فهم يعلمون هذا علم يقين، يعيشون به مؤمنين، ويعيشون به مصدقين، ويعيشون به موقنين، وليس كذلك الكفرة، فمن بلادة عقولهم وسخافة نفوسهم يرون هذا، وتتسلسل رؤيته في الآباء والأجداد والأولاد والأسباط، ومع ذلك لا يخرجون بمعرفة كيف كان ذلك ومن صنعه، وقد يقول كافر: صنعنا من هذه النطفة. فنقول: ومن خلق النطفة؟! ومن كون النطفة؟! ومن جعله أطواراً من علقة إلى مضغة إلى بشر سوي، ثم إلى طفل رضيع ثم إلى طفل يحبو، ثم إلى طفل يقف على قدميه، ثم إلى يافع، ثم إلى شاب بالغ، ثم إلى مكلف بالحلال والحرام من الرسل ومن كتب الله، ثم إلى كهل، ثم إلى شيخ، ثم يعود إلى التراب، قال تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:14] فمن الذي خلقنا في هذه الأطوار وشكّلنا ونوّعنا؟! أليس هو الله جل جلاله؟!

قوله تعالى: وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ [الجاثية:4].

أي: وما نشر في الأرض وبث ووزع مما يدب على وجه الأرض على رجلين أو على أربع أو يزحف زحفاً على بطنه، أو يطير بجناحين، فكل دابة من خلقها؟! ومن صنعها؟! ومن صورها؟

فكل هذه علامات بينات ودلائل واضحات لا يردها إلا أعمى البصيرة الجاهل جهلاً مركباً، فهو جاهل ويجهل أنه جاهل.

ولذلك يلفت الله جل جلاله أنظارنا إلى شيء نراه في إصباحنا وفي ممسانا وفي نهارنا وفي ليلنا وفي اجتماعنا وفي وحدتنا، ولا يتجاهله إلا أعمى البصيرة، فيقول تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ [الجاثية:4] أي: ما يبث في الأرض ويزرع وينشر ويخلق من دابة، و مِنْ للاستغراق، أي: من كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان ناطق، أو حيوان غير ناطق، وإن كان الخرس في الحيوانات نسبياً، فهي تتكلم بما يفهم به بعضها بعضاً.

وقد يُفهم الله كلامهما لمن أراد، كما كان أفهم سليمان منطق الطير، وكما قد يحدث ذلك بمعجزة، كما حدث لنبينا عليه الصلاة والسلام، فقد أفهمه الله تعالى منطق الجمل ومنطق الضب ومنطق البقرة، بل ومنطق الجماد في الجذع الذي تركه حين وصنع له غيره، فكان لذلك الجذع تألم وتوجع وصوت حيث تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بركة رجليه ومن بركة كلامه، ففهم منطق الجماد، فكيف بالحي الذي يُرزق من دابة أو طير؟! وكيف بالإنسان؟! وقد كلمته الجن، وسمعت تلاوته، وآمنت به وبالكتاب الذي أنزل عليه، وبالوحي الذي آتاه الله إياه.

يقول تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية:4].

ففي ذلك آيات وعلامات ودلائل واضحات وبراهين ساطعات على قدرة الله ووحدانية الله وأنه القادر على كل شيء، ولذلك قالوا عن الحواميم: هن بساتين القرآن؛ لكثرة ما فيها من كلام عن التوحيد وعن أهل الجنة وعن أهل النار، وعن وصف أهل النار ووصف أهل الجنة، ووصف النار ووصف الجنة.

فهنا يعدد الله تعالى علينا آياته البينات وبراهين قدرته الساطعات، ثم يقول: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية:4] أيقنوا بالحق، وأيقنوا بالصدق، وأيقنوا بالله واحداً، وأيقنوا بمحمد نبياً ورسولاً، وأيقنوا بالقرآن كتاب صدق وكتاب حق من الله جل جلاله.

قال تعالى: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية:5] .

ومن الأدلة اختلاف الليل والنهار، فالليل قد يقع أربع عشرة ساعة، وقد يقع أقل منها، وكذلك النهار، وهناك ليل يأتي أطول من ذلك، ونهار يأتي أطول من ذلك، وهناك نهار يكون في شدة الحر، ونهار يأتي في شدة البرد، وهناك ليال تأتي في فصل الربيع وفصل الخريف، وهناك ليل بارد شديد البرودة، وليل حار شديد الحرارة، ونهار كذلك، كما تختلف أحوالهما والكون واحد، والدنيا واحدة، والخالق واحد جل جلاله، فاختلاف الليل والنهار، واللغات والألوان، والأزمان والأمصار، كل ذلك بأمره، وكل ذلك بقدرته، وكل ذلك بإرادته.

وقوله تعالى: وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ [الجاثية:5] الرزق هنا الماء؛ فبه تنبت المزروعات، وتنبت النباتات، وتنبت الأشجار، وتعيش الدواب فتعطيك من لحمها ومن جلدها ومن حليبها ومن سمنها.

يقول تعالى: وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ [الجاثية:5] أي: من مطر فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الجاثية:5] وقد كانت لا تنبت، وإذا بنا نرى النبت قد أخذ يهتز ويربو ويعلو، فتعطي الأرض الناس من ثمارها، ومن ورودها وأزهارها، ومن فواكهها، ومن الخيرات والأرزاق بسبب هذا المطر الذي أنزله الله ورزق به الإنسان والحيوان والطير، فمن الذي أنزل ذلك؟! ومن خلق ذلك؟! ومن رزقنا بذلك؟!

لو فكر الإنسان في ذلك قليلاً لما احتاج إلى كثير علم ولا إلى كثير عقل، وسيفهم الحقائق كلها بلا تفهيم ولا تعب، وسيعلم خالق كل هذا هو الله الذي أحيانا وخلقنا ونوع الليالي والأيام، وخلق السماوات والأرض، وخلق الدواب، وأنزل الأمطار.

وقوله تعالى: وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ [الجاثية:5] هذه الرياح منها رياح عقيمة لا تأتي بشيء، ورياح ملقحة تلقح الأزهار ذكرانها بإناثها فتعطي الطعم والثمر، ورياح تسقط الأوراق في الخريف، ورياح تأتي عاصفة تنقل الماء سحاباً من البحار، فينزله الله ماءً عذباً موزعاً على الأرض يحيي به الأرض بعد موتها.

وقوله تعالى: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية:5] أي: دلائل واضحات، وآيات بينات، على قدرة الله جل جلاله وعلى وحدانيته وعلى أنه استغنى عن الشرك في الذات والصفة والأفعال، هو الذي يفعل كل شيء بمحض قدرته وإرادته ووحدانيته، لا يحتاج إلى أحد، وكل شيء يحتاج إليه.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الجاثية [14-18] 2752 استماع
تفسير سورة الجاثية [29-33] 2438 استماع
تفسير سورة الجاثية [24-28] 2025 استماع
تفسير سورة الجاثية [7-13] 1858 استماع