تفسير سورة الجاثية [7-13]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الجاثية:7-8].

(أفّاك): كذاب كثير الكذب.

و(أَثِيمٍ): كثير الإثم في فعله، فالويل لمن كانت هذه صفته، فهو كاذب في الحديث آثم في العمل، وهي صفة كل كاذب كافر مشرك بالله، لا يؤمن به ولا بآياته.

والويل: نهر في جهنم يكون من صديد أهلها ومما يخرج منهم مما يستقذر في الدنيا والآخرة.

قال تعالى: يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا [الجاثية:8].

هذا الآثم الأفّاك يسمع كلام الله، ويسمع القرآن، ويسمع التوحيد، ويسمع الدعوة المحمدية، ويسمع ما أنزل ربنا وما أتى به نبينا من كتاب وسنة، وبعد سماعه لكل ذلك يبقى مصراً على الكذب، مصراً على الكفر، وإصراره عناد، وإصراره كبرياء وتألٍّ على الله، وبعد عن صفات المؤمنين المسلمين، فهو يسمع القرآن الكريم، ويسمع معجزات الأنبياء، ويسمع أحكام القرآن من حلال وحرام، وصفة الجنة وصفة النار، وأهل جنة وأهل نار، ثم بعد ذلك يصر مستكبراً على إفكه وعلى كذبه وعلى نفاقه.

قال تعالى: ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا [الجاثية:8] فيصر على كبره وكأنه لم يسمع آية من كتاب الله ولا حديثاً عن رسول الله، ولا حكمة توصله إلى الحق وتبعده عن الباطل، فإذا بكل ما يُسمع من كتاب الله وسنة رسوله لا يزيد هذا الأفّاك الأثيم إلا إصراراً على الكبرياء وعلى الكفر وعلى الإثم، وعلى البعد عن الله ورسل الله.

قال تعالى: فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الجاثية:8].

أي: بشِّر هذا الآثم، وبشِّر هذا الأفّاك وهذا المتعالي على الله وكتابه، وهذا الذي كأن به وقراً فلا يكاد يسمع، وإذا سمع لا يكاد يعي ولا يفهم، بشِّره بعذاب أليم.

والبشرى هنا من باب الهزء به؛ إذ لا تكون البشرى إلا بما يستحسن، وما تطيب له نفس الإنسان، فإذا قيل بشر بالويل والبلاء والعذاب كان هذا هزءاً به، فهي بشرى للكافرين وبشرى للآثمين وبشرى للأفّاكين على الله ورسل الله.

قال تعالى: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [الجاثية:9].

أي: سمع من آيات الله ووعى وحفظ يحفظ ذلك بلا وعي وبلا علم وبلا إيمان، ويتخذ ما يحفظ هزءاً وسخرية، والكفر يعيد نفسه كما يعيد التاريخ نفسه أبداً، فقد كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يسخر أبو جهل ويسخر الوليد بن المغيرة وغيرهما من طغاة الكفار، وليس هذا خاصاً بالعرب ولا بقريش، بل هو عام في كل كافر، فإذا سمع من هذه الآيات ومن هذه الأحكام كافر شيئاً اتخذها موضع هزء وموضع لعب وموضع سخرية.

وملة الكفر واحدة، سواء كانت نصرانية أم كانت يهودية، أم كانت وثنية، فكلها من وحي الشيطان ومن أعماله ومن وسوسته ومما يوحي به من الكفر والمخالفة والعصيان والتأني على الله.

يقول تعالى: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا [الجاثية:9] فإذا سمع بعض هذه الآيات وحفظ بعضها اتخذها هزءاً وسخرية عوضاً عن أن يتخذ الموعظة للهداية وللإيمان، فإذا به لا يهتدي الناس به، بل يضلون به؛ لأن كفره غلب نوره، فلم يبق له نور، إن هي إلا ظلمات بعضها فوق بعض.

قال تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [الجاثية:9] .

كان الكلام عن فرد، ولكن قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية:7] هو موضع الجمع، يعني الأفّاكين جميعاً والأثيمين جميعاً، وهم الذين يفعلون هذا كل على حدة؛ فهؤلاء لهم عذاب مهين يذلهم ويهينهم ويحقّرهم.

قال تعالى: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الجاثية:10].

فهؤلاء -على عذاب الله الموجع الأليم المهين المذل- مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ، وقد قيل: (من ورائهم) أي: من أمامهم. ولا حاجة إلى هذا التأويل، بل من ورائهم يتبعهم التهديد والوعيد بالنار، فالنار خلفهم كيفما ذهبوا وكيفما تحركوا، فإذا ذهبوا إلى الآخرة فالنار خلفهم، وإذا حوسبوا بعد ذلك يدخلون النار والنار خلفهم، أي أن الحكم بالنار والحكم بالعذاب المهين شيء قائم لا مفر عنه يجري خلفهم كما يجرون خلف الكفر والإثم والمعصية والشرك.

قال تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الجاثية:10] فجمع الله لهم بين العذاب المهين والعذاب الأليم والعذاب العظيم، فهم في عذاب على كل أشكاله وأنواعه لتنوع كفرهم وتفنن شركهم من نسيان لما أنزل الله على نبيهم، ومن ترك لما حفظوه ووعوه، ومن هزء بما وعوه وحفظوه، ومن استكبار وإصرار على الباطل، فمن أجل ذلك يعذبون بأنواع العذاب الأليم والمهين والعظيم.

قال تعالى: هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [الجاثية:11] .

قوله تعالى: هَذَا هُدًى [الجاثية:11] الإشارة للقرآن الكريم، وإن شئت قلت: الإشارة للإسلام، وإن شئت قلت: الإشارة لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك معناه واحد، فالقرآن هو رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ودينه، ورسول الله هو الناطق عن الله بكتابه والشارح لآياته والمفسّر بسنته.

يقول تعالى: هَذَا هُدًى [الجاثية:11] فالقرآن هدى يهدي الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهداية، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم.

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ [الجاثية:11] أي: بكتابه المنزل عليهم، ببيانه الحلال والحرام، وبأحكامه وقصصه حول المؤمنين والكافرين من الأمم السابقة والأمم اللاحقة لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [الجاثية:11].

والرجز: العذاب في منتهاه.

والرجز: القذارة.

والرجز: النجاسة.

والرجز: الألم.

فهذه الكلمة تحتها جميع أنواع عذاب الله الأليم والمهين والعظيم والذي يستقذر والذي لا تقبله نفس طاهرة، والذي يلزم الكافر حيث كان، فهؤلاء هذا حالهم لكفرهم ومخالفتهم لربهم وطاعتهم لشيطانهم.

ثم أخذ ربنا يعدد نعمه على الناس فقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الجاثية:12].

قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ [الجاثية:12] أي: ذلّله للركوب، وذلّله للأسفار، وذلّله للسباحة، وذلّله للصيد، وذلّله لاستخراج ما في باطنه من أنواع الثروات والكنوز التي يعيش بها الإنسان على وجه الأرض.

وهذا البحر صدق فيه وصفه عمرو بن العاص لـعمر بن الخطاب عندما سأله: صف لي البحر؟ فقد طلب منه معاوية أن يغزو الأعداء والكفار وراء البحار، فقال عمر لـعمرو : صف لي البحر، فقال عمرو : داخله مصفود والخارج منه مولود، يركبه خلق ضعيف دود على عود.

فقال عمر : والله لن أرسل جيشاً في البحر ما دمت حياً.

فـعمرو نفّر عمر بهذا الوصف، وكان عمر حريصاً على أرواح جنده وعلى حياة المؤمنين، فقد يهون أن يموت واحد، ويمكن أن لا يموت إذا اقتضى الأمر ذلك، أما أن يصبح الجيش داخل البحر كله في خطر الغرق فهذا ما كان يخشاه عمر ، ولذلك لم يبعث جيشاً مدة حياته ليحارب إلا في البر، ولكن البر الذي حارب فيه اكتسح فيه أقاليم وشعوباً وأراضي في المشرق والمغرب، ففتح الشام، وفتح العراق، وفتح فارس، وفتح مصر، وفتح المغرب أرض البربر، وكل ذلك لم يحتج فيه إلى بحر، ما كان يحتاج فيه إلا البر على الإبل والدواب، وقد فتح عمر في خلافته ما لم يفتح بعده.

قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ [الجاثية:12]، أي: سخر هذا البحر وذلّله وطوّعه لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ [الجاثية:12] والفلك: جمع لا مفرد له من لفظه، ومفرده من غير لفظه السفينة، فسخّره الله تعالى لركوب السفن والفلك لتجري في البحر بأمر الله وقدرة الله وإرادة الله، يقطع عليها ما بين القارات وما بين المشارق والمغارب.

معنى قوله تعالى: (ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ...)

وقوله تعالى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الجاثية:12] أي: من التجارة، ومن المكاسب، ومن السياحة، ومن طلب العلم، ومن صلة الأرحام، ومن نشر دين الله، ونشر علم الله، ونشر رسالة الله.

وكل ذلك قد حصل، فبواسطة البحار انتشر دين الإسلام، وانتشر الفاتحون من جند الإسلام من أراضي السند شرقاً إلى فرنسا غرباً، وبكل ذلك بشّر المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بأن الله جل جلاله كشف له عن الأرض التي تفتح لأمته، فكشف له عن المغرب، وعن المشرق، وعن الهند، وعن السند، وعن بلاد العجم، وعن بلاد الفرس، وعن بلاد الروم، وبحار خاضها الدعاة إلى الله بالسفن، وخاض بعضها بعضهم سباحة، واستشهد من أكرمه الله بالشهادة فيها، وما رد ذلك مجاهداً عن جهاده ولا عن دعوته.

وكل ما ذكر من الدعوة والجهاد في سبيل الله مما بشِّر به صلى الله عليه وسلم في حياته، ولم يفتح في حياته إلا جزيرة العرب، فدخل العرب جميعاً في دين الإسلام، ودانوا بكلمة (لا إله إلا الله)، ثم كانوا رسل رسول الله إلى الدنيا كافة، فابتدأ الفتح من أيام الخليفة الأول أبي بكر ، ثم مات رضي الله عنه، فأتم العمل ذلك الضرغام الأسد عمر بن الخطاب ، فهو الذي أتم الفتح وفتح الكثير من البلاد التي لا يزال أهلها مسلمين إلى يومنا هذا.

وقوله تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الجاثية:12] أي: لعلكم تشكرون الله على نعمه التي منها تسخير لكم هذا البحر والسفن التي تجري عليه بما تريدون من معان كسبية مادية، ومن معان روحية في نشر دين الله ونشر العربية لغة كتاب الله ولغة نبي الله، فكم من أقطار لم تكن كذلك، فأصبحت عربية بالإسلام، وأصبحت العربية لغتها الأصيلة لا تعلم لغة سواها.

وقوله تعالى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الجاثية:12] أي: من التجارة، ومن المكاسب، ومن السياحة، ومن طلب العلم، ومن صلة الأرحام، ومن نشر دين الله، ونشر علم الله، ونشر رسالة الله.

وكل ذلك قد حصل، فبواسطة البحار انتشر دين الإسلام، وانتشر الفاتحون من جند الإسلام من أراضي السند شرقاً إلى فرنسا غرباً، وبكل ذلك بشّر المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بأن الله جل جلاله كشف له عن الأرض التي تفتح لأمته، فكشف له عن المغرب، وعن المشرق، وعن الهند، وعن السند، وعن بلاد العجم، وعن بلاد الفرس، وعن بلاد الروم، وبحار خاضها الدعاة إلى الله بالسفن، وخاض بعضها بعضهم سباحة، واستشهد من أكرمه الله بالشهادة فيها، وما رد ذلك مجاهداً عن جهاده ولا عن دعوته.

وكل ما ذكر من الدعوة والجهاد في سبيل الله مما بشِّر به صلى الله عليه وسلم في حياته، ولم يفتح في حياته إلا جزيرة العرب، فدخل العرب جميعاً في دين الإسلام، ودانوا بكلمة (لا إله إلا الله)، ثم كانوا رسل رسول الله إلى الدنيا كافة، فابتدأ الفتح من أيام الخليفة الأول أبي بكر ، ثم مات رضي الله عنه، فأتم العمل ذلك الضرغام الأسد عمر بن الخطاب ، فهو الذي أتم الفتح وفتح الكثير من البلاد التي لا يزال أهلها مسلمين إلى يومنا هذا.

وقوله تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الجاثية:12] أي: لعلكم تشكرون الله على نعمه التي منها تسخير لكم هذا البحر والسفن التي تجري عليه بما تريدون من معان كسبية مادية، ومن معان روحية في نشر دين الله ونشر العربية لغة كتاب الله ولغة نبي الله، فكم من أقطار لم تكن كذلك، فأصبحت عربية بالإسلام، وأصبحت العربية لغتها الأصيلة لا تعلم لغة سواها.