أرشيف المقالات

آفة التعصب والتنطع والمغالاة في مدح الدعاة

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
آفة التعصب والتنطع والمغالاة في مدح الدعاة
لا تُطْروني كما أطرت النصارى ابن مريم


إنَّ أساسَ بلاء المسلمين اليوم أنّهم لم يستمعوا نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوصاهم بترك العنصرية قائلًا لهم: "دعوها فإنها منتنة"، ولم يطبّقوا قوله عليه أفضل الصلاة والسلام كما جاء في صحيح مسلم: "ليس منَّا من دعا إلى عصبيةٍ، وليس منا من قاتل على عصبيةٍ، وليس منا من مات على عصبيةٍ"، فما أكثر من يدعو الآن إلى عصبية من المسلمين بل ما أكثرهم بين الدعاة والمنتسبين للعلم، والنتائج لا تحتاجُ إلى برهان.
 
فأصبحت المذهبية والطائفية تسود بلاد المسلمين، بديلًا عن الإسلام الحنيف الذي أراده الله؛ كما جاء في القرآن الكريم:
﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15-16].
 
لقد تمّ تجاوز النصَّ القرآني إلى التأويل، وتمّ تجاوز السنة النبوية إلى سير بعض أدعياء العلم والفقه، وبهذا الشكل كثُرت المذاهب والطوائف والمِلل والنِحل والتفسيرات والتأويلات، حتى أصبح الإسلام إسلامات والدين ديانات والرأي آراء.
 
وأصبح لكل منها أتباع ومؤيدون من العوام الذين يسيرون في ركب هؤلاء يطبلون ويسبحون بحمدهم، ومما زاد الطين بلة قيام كل فريق من هؤلاء وهؤلاء بتجييش أتباعهم من العامة لقيادة هذه الصراعات المذهبية والطائفية للدخول في هذه الفتنة مما تسبب في تفاقم الصراعات والتصادمات، وأصبح الأتباع يغالون في مدح دعاتهم، ويبالغون في تعظيمهم.
 
وقد زاد من هذه الآفة كثرة دخول العوام على وسائل التواصل الاجتماعي من أنحاء العالم وتجمعوا في مجموعات مذهبية وطائفية، وكل طائفة تلعن الأخرى وتكفرها، دون وازع من أخلاقٍ أو علمٍ، ويعتبرون هذا دفاعًا عن دينهم.
 
وقد نهى الله عن الغلو في الصالحين: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ [النساء: 171]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون"؛ قالها ثلاثا.
 
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشرف خلق الله منذ خلق الله الأرض ومن عليها حتى قيام الساعة يضرب للمسلمين المثل الأعلى في التجرد لله والعبودية له حتى يقتدي به المسلمون في العبودية لله، وعدم إعطاء البشر أكثر من قدرهم ومكانتهم في الأرض، ولا يصلون إلى ما وصل إليه البشر قبل ذلك من الشرك وعبادة اللات والعزى، فها هو – صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه: " لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبدالله، فقولوا: عبد الله ورسوله"؛ (البخاري).
 
حيث يعمد البعض - وخاصة بعض الجهلاء والسذج الذين يركبون موجة الإعلام الآن - إلى تعظيم من له فضل من العلماء والدعاة والصالحين، بغية شهرتهم أنفسهم.
 
والإطراء لشخص العالم أو الداعية أو العابد الصالح، له خطورته فهو مدخل الشياطين لإغواء البشر والوصول إلى الشرك.
حيث يتطور هذا التقدير والاحترام ليتحول إلى المحبة والتعلق العاطفي بالشخص، ولا ينتهي إلا وقد أصبح شخصُ العالم أو الداعية أو العابد الصالح عند محبِّيه - لفرط الغلو في تقديره - معصومًا خليًا عن العيوب والأخطاء مبرأ من كلِّ نقصان، بل قد يتطور الأمر إلى أبعد من ذلك فيغدو هذا الشخص عند أتباعه وثنًا يعبد من دون الله تعالى، والأدلة والشواهد على ذلك كثيرة.
 
والأمثلة من واقع الأمة الإسلامية على تردِّي أصناف من أبناء الأمة وجماعاتها في هذا الوادي كثيرة جدًّا، وقد بدأ هذا الانحراف من خلال المبالغة والغلو في الدعاة والعلماء وتعداهم إلى مريديهم وأتباعهم، فخَلَفَ من بعدهم خَلْفٌ غالَوا في تقديسهم وبالغوا في تقديرهم، وانصرفوا في تقديرهم عن صحيح الإسلام، إلى التمحور حول الدعاة والعلماء وإطرائهم والثناء عليهم وتدبيج الخطابات والمقالات والكتب في الثناء عليهم، وأنكروا أن تكون لهؤلاء أي أخطاء أو ثغرات، وبالغوا في الدفاع غير المحق عنهم حتى باتوا سدًّا منيعًا أمام النقد البنَّاء المفضي لتصحيح المسار وتقويم العيوب، لتكون العاقبة انحرافًا واضحًا عن المنهج الذي خطَّه وأراده الله عز وجل، وجعلت الولاء لهؤلاء، ولتكون المآلات ما نحن عليه الآن تفرق وتشرذم وحروب.
 
فهل من مخرج من هذه الفتن؟!
إن اعتقادي الراسخ هو أنَّ الحل متضمن في قول ربي جلَّ وعلا: ﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15 - 16].
 
وحسبنا الله ونعم الوكيل.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢