شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [7]


الحلقة مفرغة

حكم التيمم

قال المؤلف رحمه الله: [باب: التيمم].

مناسبة هذا الباب لما قبله، أن المؤلف رحمه الله كما سبق ذكر الطهارة بالماء سواء كانت برفع الحدث الأصغر أو برفع الحدث الأكبر، ثم بعد ذلك ذكر ما ينوب عن الماء عند تعذر استعماله حقيقة أو حكماً وهو التيمم.

فمناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة، فإن المؤلف رحمه الله ذكر الطهارة بالماء وهي الأصل, ثم بعد ذلك ذكر ما ينوب عن هذا الأصل وهو الطهارة بالصعيد الطيب, كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

والأصل في التيمم من حيث الدليل الكتاب, والسنة، والإجماع.

أما الكتاب فقول الله عز وجل: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، أما السنة فأحاديث كثيرة كما سيأتينا في حديث عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في الصحيحين؛ وفيه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما يكفيك هكذا, وضرب النبي عليه الصلاة والسلام بيديه على الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه ).

وكذلك أيضاً حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، وذكر من هذا الخمس قال: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، وأيضاً حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ). والإجماع قائم على مشروعية التيمم.

والتيمم من خصائص هذه الأمة فإنه لم يكن موجوداً في الأمم السابقة، وإنما هو من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

ودليل ذلك ما تقدم من حديث جابر رضي الله تعالى عنه وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي من الأنبياء قبلي، وذكر منها النبي عليه الصلاة والسلام قال: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ).

إن التيمم شرع رخصة وتسهيلاً على المكلف، فالأصل فيه التخفيف، وذلك أنه إنما شرع رخصة وتسهيلاً على المكلف، وإذا كان كذلك فإنه لا يشدد في صفته كما سيأتينا إن شاء الله؛ لأن التيمم إنما شرع للتسهيل ورفع الحرج والتخفيف على المكلف؛ كما قال الله عز وجل: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة:6].

صفة التيمم

قال المؤلف رحمه الله: [صفته أن يضرب بيديه على الصعيد الطيب].

قوله: (صفته) أي كيفية، والمراد بالصعيد هو كل ما تصاعد على وجه الأرض، كما سيأتينا إن شاء الله في قول المؤلف رحمه الله لما ذكر الشروط: (الشرط الرابع: التراب)، فالصواب أنه يكون على كل ما تصاعد على وجه الأرض، سواء كان تراباً أو حجراً أو حصىً أو رملاً أو جبلاً .. إلخ، فكل ما تصاعد على وجه الأرض كل ما كان من جنس الأرض، فإنه يصح التيمم عليه.

قال المؤلف رحمه الله: (الطيب) أي: الطاهر.

قال: [ضربة واحدة، فيمسح بهما وجهه وكفيه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعمار : ( إنما يكفيك هكذا, وضرب بيديه على الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه )].

هنا قال المؤلف رحمه الله: الصعيد الطيب كما سلف لنا أن التيمم ليس خاصاً بالتراب، كما سيأتي من التوضيح إن شاء الله، بل كل ما كان من جنس الأرض فإنه يصح لك أن تتيمم عليه.

وأيضاً قال المؤلف رحمه الله: (ضربة واحدة)، هذا هو الصواب الذي دل له حديث عمار رضي الله تعالى عنه, يعني: أنه يكفي فيه ضربة واحدة، ولا يشترط أن يضرب أكثر من ضربة، وهذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أنه يكفي في ذلك ضربة واحدة.

ودليل ذلك ما أورده المؤلف رحمه الله من حديث عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه.

كذلك أيضاً مما يدل لذلك ( أن النبي عليه الصلاة والسلام لما تيمم على الجدار ضرب النبي عليه الصلاة والسلام ضربة واحدة ).

والرأي الثاني: أنه لا بد من ضربتين، وهذا عند أكثر أهل العلم، اشترطوا ضربتين؛ واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً, لكنه لا يثبت مرفوعاً للنبي عليه الصلاة والسلام وإنما هو موقوف على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وعلى هذا نقول الصحيح في هذه المسألة أنه يكفي ضربة واحدة.

وأيضاً: كما تقدم لنا أنه لا يشترط التراب، وإنما يكفي أن يكون أي شيء من جنس الأرض، وسبق أن نبهنا على قاعدة, وهي: أن الأصل في التيمم أنه شرع للتخفيف والتسهيل ورفع الحرج، فإذا كان كذلك فلا نكثر من شروطه وتقييداته.

فنقول: يكفي ضربة واحدة, ولا تشترط ضربتان، ويكفي ما تصاعد على وجه الأرض، ولا يشترط التراب، ويكفي أيضاً أن يمسح كفيه، ولا حاجة إلى أن يمسح الذراعين، وهذا قول المؤلف رحمه الله, وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه يكفي في التيمم أن يمسح الكفين، ولا حاجة إلى أن يمسح المرفقين، كما هو قول الأئمة الثلاثة.

ودليل ذلك حديث عمار بن ياسر وحديث أبي الجهيم : ( لما تيمم النبي صلى الله عليه وسلم على الجدار مسح يديه ).

وأما ما ورد في حديث ابن عمر : ( التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين والمرفقين ). فقلنا: بأن هذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو موقوف على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فلا نشترط التراب، لا نشترط التعدد في الضربات، لا يشترط المسح إلى المرفقين، وإنما هو الكفين.

أيضاً: هل يفرج بين أصابعه أو لا يفرج كما ذكر العلماء رحمهم الله؟

نقول: لا حاجة إلى ذلك، وإنما يضرب الصعيد ويمسح وجهه, وكذلك أيضاً يمسح كفيه, فهي عبادة شرعت للتخفيف، تضرب الصعيد ضربة واحدة, وتمسح الوجه وأيضاً تمسح الكفين.

وأيضاً ذكر بعض العلماء رحمهم الله أن الإنسان يضرب الصعيد ويمسح أيضاً الوجه، وأما بالنسبة للشعر فنقول: بأنه لا يمسح، فإذا كان الإنسان له لحية أو نحو ذلك لا يمسح الشعر؛ لأن التيمم ليس فيه طهارة حسية وإنما طهارته طهارة معنوية فقط، وإذا كان كذلك فلا حاجة للإنسان أن يمسح الشعر، ولتضرب وتمسح بيديك على وجهك وتمر بهما على كفيك، وينتهي الأمر.

كذلك أيضاً: هل يفرج أصابعه أو لا يفرج؟ نقول: هذا لم يرد في السنة، بل إذا ضرب ومسح كفى ذلك.

كذلك أيضاً: هل كما ذكر بعض أهل العلم رحمهم الله إذا ضرب يمسح وجهه بباطن أصابعه وكفيه براحتيه؟ ذهب بعض أهل العلم إذا تيمم بضربة واحدة فإنه يمسح بطول أصابعه، وأما بالنسبة لكفيه فإنه يمسحهما براحتيه، لماذا قالوا هذا التفصيل؟ لأنه إذا ضرب ضربة واحدة ثم مسح وجهه وكفيه، يصبح التراب الذي ضرب به مستعملاً، فينقلب من كونه طهوراً إلى كونه طاهراً، وحينئذٍ يحتاج إلى ضربة أخرى.

فنقول: يمسح الوجه بأطراف الأصابع، ويمسح الكفين بالراحتين؛ لأنك إذا مسحت الكفين بالراحتين ما أصبح التراب الذي علق بالكفين مستعملاً .. إلخ، وهذا لا نحتاج إليه، وإنما يكفي كما سلف أن يضرب الإنسان ضربة واحدة ويمسح وجهه.

وكذلك أيضاً: يمسح ظاهر كفيه، وأيضاً لا حاجة إلى أن يمسح الشعر في التيمم.

أقسام الشعر في الطهارة

وذكر بعض العلماء رحمهم الله أن الشعر في الطهارة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: يجب تطهير ظاهره وباطنه، وهذا في الغسل، إذا اغتسل الإنسان فيجب عليه أن يطهر ظاهره وباطنه.

القسم الثاني: لا يجب أن يطهر لا ظاهره ولا باطنه، وهذا في التيمم.

وهذان طرفان، الطرف الأول: في الغسل يطهر ظاهره وباطنه. القسم الثاني: في التيمم لا يطهر لا ظاهره ولا باطنه.

القسم الثالث: في الوضوء؛ إن كان الشعر خفيفاً، فيجب عليه أن يطهر ظاهره وباطنه، وإن كان ثقيلاً كثيفاً فيجب عليه أن يطهر ظاهره، وأما باطنه فإنه لا يجب عليه أن يطهره.

فالوضوء فيه تفصيل، إن كان خفيفاً فيجب أن يطهر ظاهره وباطنه، وإن كان كثيراً فيجب عليه أن يطهر ظاهره, وأما باطنه فلا يجب عليه أن يطهره.

حكم التيمم بأكثر من ضربة ومسح اليدين إلى المرفقين

قال المؤلف رحمه الله: [وإن تيمم بأكثر من ضربة أو مسح أكثر من كفيه جاز].

يعني: إذا تيمم بضربتين، يقول المؤلف: جائز، لأن هذا ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، لكن الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يكفي ضربة واحدة ) يعني: لا يجب عليك أن تضرب أكثر من ضربة واحدة، لكن لو ضربت ضربتين كما ورد عن ابن عمر يقول المؤلف رحمه الله هذا جائز.

قال: (أو مسح أكثر من كفيه) يعني: مسح إلى المرفق، يقول المؤلف رحمه الله: هذا جائز لكن لا يجب؛ لأنه ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام, إنما ورد مسح الكفين فقط، لكن ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.

وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى أن هذا الفعل من ابن عمر إنما هو من تشديداته، فإن ابن عمر رضي الله تعالى عنه كان يأخذ بأشياء يخالفه عليها أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

شروط صحة التيمم

قال المؤلف رحمه الله: [وله شروط أربعة: أحدها: العجز عن استعمال الماء إما لعدمه أو خوف الضرر من استعماله لمرض أو برد شديد].

هذا الشرط الأول من شروط صحة التيمم: أن يعجز عن استعمال الماء؛ والعجز عن استعمال الماء إما أن يكون حقيقياً، وإما أن يكون حكمياً، يعني: أن يعجز عن الماء حقيقة يعني: لا يوجد الماء.. وكيف لا يوجد الماء؟

قال العلماء رحمهم الله: لا يوجد الماء في رحله، وفي متاعه, وفيما قرب منه عرفاً، فإذا كان الإنسان لا يجد الماء في بيته، وفيما قارب بيته عرفاً، الأشياء التي هي قريبة من بيته عرفاً، هنا نقول: له أن يتيمم.

ودليله قول الله عز وجل: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، أما إذا كان يجد الماء، لكن الماء بعيد عرفاً فهذا له أن يتيمم، له أن ينتقل عن الماء إلى بدله، فأصبح معنى كونه لا يجد الماء حقيقةً، نقول: لا يتوافر الماء في بيته ورحله ومتاعه وما قارب بيته عرفاً، فإذا كان الماء موجوداً قريباً عرفاً هذا يجب عليه أن يقصده، أما إذا كان بعيداً عرفاً فإنه لا يجب عليه أن يقصده، وذكرنا دليل ذلك من قول الله عز وجل: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43].

قال: (العجز عن استعمال الماء إما لعدمه أو لخوف الضرر) هذا حقيقة أن لا يجد الماء، لا في مكانه ولا فيما قرب منه عرفاً، حكماً يتعذر عليه الماء ذكر أمثلة له فقال: (أو خوف الضرر من استعماله لمرض أو برد شديد).

إذا كان الإنسان يخشى أنه إذا استعمله يصاب بالمرض؛ مثلاً: الإنسان على أعضاء الوضوء قروح، وإذا أصابت هذا القروح هذا الماء فإنه يصاب بالمرض، أو كان في شدة برد، بحيث إنه لو استعمل هذا الماء مع شدة البرد لحقه مرض، يقول المؤلف رحمه الله: له هنا أن يعدل إلى التيمم.

ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، وأيضاً قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].

أيضاً من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية قاعدة: لا ضرر ولا ضرار، وقاعدة أيضاً: المشقة تجلب التيسير، فإذا خشي الإنسان المرض إذا استعمل الماء فإنه يعود إلى التيمم.

كذلك أيضاً مما يدل لذلك حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ( فإن عمراً رضي الله تعالى عنه احتلم في ليلة باردة، فخشي على نفسه إن اغتسل من الهلاك، يقول: فتيممت وصليت بأصحابي, وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلم يأمره بالإعادة ).

فنقول: إذا خشي من استعمال الماء أن يلحقه مرض فإنه يعدل إلى التيمم، وذكرنا دليل ذلك من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

كذلك أيضاً: إذا كان هناك برد شديد، لا يستطيع معه استعمال الماء، أو يخشى على نفسه، إذا كان هناك برد شديد بحيث إنه تلحقه مشقة ظاهرة، لا يستطيع معه استعمال الماء، أو يخشى على نفسه من المرض ونحو ذلك، فإن في هذه الحالة يعدل إلى التيمم؛ إذا لم يجد ما يسخن به هذا الماء.

قال المؤلف رحمه الله: [أو لخوف العطش].

هذا من صور عدم الماء حكماً، إذا كان الإنسان معه ماء، لكن يخشى على نفسه العطش إن استعمل هذا الماء، فإنه لا بأس أن يوفر هذا الماء لشربه، لطعامه، لا بأس بذلك، فإذا كان الماء بعيداً عنه عرفاً، وليس معه إلا ماء يسير، وهذا الماء اليسير يخشى على نفسه إن استعمله أن يصاب بعطش، أو يحتاجه لطعامه ونحو ذلك، والماء بعيد عنه عرفاً، فنقول: لا بأس حينئذ أن يعدل إلى التيمم، يخشى على نفسه العطش أو رفيقه أو بهيمته، المهم يخشى على نفسه أو على نفس محترمة، إذا كان يخشى على نفسه العطش، أو على نفس محترمة، سواء كانت هذه النفس المحترمة بهيمة أو آدمي فإنه يعدل إلى التيمم.

قال المؤلف رحمه الله: [أو خوف على نفسه أو ماله في طلبه].

أيضاً هذه من صور تعذر الماء حكماً، يعني: يخشى على نفسه إذا طلب الماء من عدو لو خرج, الماء حوله قريب عرفاً، لكن لو خرج من منزله يخاف على نفسه من عدو أو لص، أو يخاف على ماله أن يسرق، أو يخاف على أهله إذا ذهب لكي يأتي بالماء، فإنه في هذه الحالة يعدل إلى التيمم.

ودليل ذلك كما تقدم أن الأصل في التيمم إنما شرع للتخفيف والتسهيل ورفع الحرج؛ كما قال الله عز وجل: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6].

قال المؤلف رحمه الله: [أو تعذر إلا بثمن كثير].

أيضاً هذا من صور عدم الماء حكماً، الماء موجود لكنه لا يشترى إلا بثمن كثير، فيقول المؤلف رحمه الله: يعدل إلى التيمم ولا يلزمه أن يشتريه.

ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا كان يستطيع شراء الماء بثمن مثله، أو بأزيد من ثمن مثله زيادة يسيرة، فإنه يجب عليه أن يشتريه، فأصبحت الحالات ثلاث:

الحالة الأولى: أن يجد الماء يباع بثمن مثله، فيجب عليه أن يشتريه، وأن يتطهر بالماء؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

الحالة الثانية: أن يجده بأزيد من ثمنه زيادة يسيرة، فيقول المؤلف رحمه الله: يجب عليه أن يشتريه وأن يتطهر به.

الحالة الثالثة: أن يجد الماء بأزيد من ثمنه زيادة كثيرة، فهنا لا يجب عليه، إذا كانت زيادة كثيرة عرفاً فإنه لا يجب عليه أن يشتريه, وله أن يعدل حينئذ إلى التيمم.

فأصبح عندنا ثلاث حالات, الحالة الثالثة هي التي يجوز له أن يعدل إلى التيمم.

والأحسن في مثل ذلك: أن يقيد بالمشقة الظاهرة؛ لأن الناس يختلفون في الغنى واليسر والفقر والحاجة .. إلخ، فإذا كان أزيد من ثمن مثله بزيادة كثيرة، بحيث يلحقه في الشراء مشقة ظاهرة، فنقول: له أن يعدل إلى التيمم, لرفع الحرج عنه ورفع المشقة.

أما إذا زاد زيادة كثيرة، ومثل هذا الرجل إذا اشترى لا يلحقه مشقة، فيظهر -والله أعلم- أنه يجب عليه أن يشتري الماء وأن يتطهر به.

التمكن من استعمال الماء في بعض البدن

قال المؤلف رحمه الله: [فإن أمكنه استعماله في بعض بدنه أو وجد ماء لا يكفيه لطهارته استعمله وتيمم للباقي].

هاتان مسألتان: يعني: إذا تمكن من استعمال الماء في بعض بدنه؛ مثلاً إنسان عليه جرح في يده اليسرى، فهذا كما سلف لنا يجب عليه أن يغسل الصحيح، يعني: يجب عليه أن يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ويغسل يده اليمنى، وكفه اليسرى، وبقية يده اليسرى التي ليس فيها جرح، أما الجرح فهذا له أحوال كما تقدم لنا, إن استطاع أن يغسله فإنه يجب عليه أن يغسله, ولا حاجة إلى التيمم, لم يستطع أن يغسله فإنه يعدل إلى المسح، يمسحه بالماء، فإن تمكن أن يمسحه بالماء فيمسحه بالماء, ولا شيء عليه.

الحالة الثالثة: إذا كان عليه جبيرة أو خرقة أو شاش أو جبس أو ونحو ذلك، فإنه يمسحه ولا شيء عليه.

الحالة الرابعة الأخيرة: إذا كان لا يتمكن من غسله، ولا يتمكن من مسحه، فإنه في هذه الحالة يعدل إلى التيمم.

والتيمم يكون بعد نهاية الوضوء، ولا يكون في أثناء الوضوء كما ذكر أهل العلم رحمهم الله، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الفصل بين أعضاء الوضوء بالتيمم بدعة، بل نقول: إذا انتهى الإنسان من وضوئه فإنه يتيمم عن الجرح الذي لم يستطع أن يغسله ولم يستطع أن يمسحه.

وأيضاً هل تجب الموالاة بين الوضوء والتيمم؟

الصحيح لا تجب الموالاة بين الوضوء والتيمم؛ فإذا توضأ الإنسان ثم بعد نصف ساعة أو ساعة تيمم على الجرح الذي عليه الذي لم يستطع أن يمسحه ولا أن يغسله، فنقول: في هذه الحالة تيممه صحيح ولا شيء عليه.

ومثل ذلك أيضاً لو أراد أن يغتسل، أصابته جنابة مثلاً وعليه جرح في فخذه، نقول: يغسل الصحيح، وأما غير الصحيح إن استطاع أن يغسله يغسله، إن استطاع أن يمسحه مسحه، إذا لم يتمكن من الغسل ولا المسح .. إلخ فإنه يتيمم عنه.

ومثل ذلك أيضاً: لو كان في فمه جرح أو جروح لا يستطيع أن يتمضمض، ولا يستطيع أن يمسح، فإنه في هذه الحالة يتيمم، أو مثلاً في أنفه جروح لا يستطيع أن يمسحها ولا يستطيع أن يغسلها، فإنه يتيمم عنها في نهاية الوضوء.

قال: (أو وجد ماء لا يكفيه لطهارته استعمله وتيمم للباقي). مثلاً: وجد شيئاً من الماء يتمكن أنه يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه، أما بالنسبة ليديه ومسح رأسه ورجليه، فهذا لا يتمكن من أن يغسل هذه الأشياء، فيقول المؤلف رحمه الله: يغسل بالماء الذي وجده, والباقي الذي لم يغسله بالماء فإنه يتيمم عنه؛ لقول الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ولما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم )، وهذا هو الذي يستطيعه الآن، المسألة موضع خلاف، لكن هذا ما اختاره المؤلف رحمه الله.

التيمم بعد دخول وقت الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: [الثاني: دخول الوقت فلا يتيمم لفريضة قبل وقتها ولا لنافلة في وقت النهي عنه].

يقول المؤلف رحمه الله: الشرط الثاني من شروط صحة التيمم: أن يدخل الوقت؛ فمثلاً: إذا أراد أن يتيمم لصلاة المغرب فلا بد أن تغرب الشمس، وإذا أراد أن يتيمم لصلاة العشاء لا بد أن يغيب الشفق، وإذا أراد أن يتيمم لصلاة الفجر لا بد أن يطلع الفجر الثاني، وهكذا، لا يكون تيممه إلا بعد دخول الوقت.

وهذه المسألة والشرط الثالث الذي ذكره المؤلف رحمه الله مبنيان على مسألة أخرى، وهذه المسألة هي: هل التيمم مبيح أو رافع؟

التيمم هذا هل هو رافع للحدث كالوضوء بالماء، أو أنه ليس رافعاً للحدث، وإنما هو مبيح، يعني: أن الحدث لم يرتفع وإنما التيمم أباح لك أن تتلبس بهذه العبادة؟

هذان الشرطان مبنيان على هذه المسألة، هل التيمم مبيح أو رافع؟

لأهل العلم في هذه المسألة رأيان:

الرأي الأول: أن التيمم مبيح؛ وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد كما مشى عليه المؤلف، أن التيمم مبيح وليس رافعاً، وهذا أيضاً مذهب الشافعي.

واستدلوا على ذلك بحديث عمران بن الحصين رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري في قصة: ( الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم معتزلاً لم يصل مع الناس، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء، فقال له عليه الصلاة والسلام: عليك بالصعيد فإنه يكفيك، فلما جاء الماء أخذ النبي عليه الصلاة والسلام دلواً من ماء فقال: خذ هذا فأفرغه عليك ).

قالوا: لو كان التيمم رافعاً لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خذ هذا فأفرغه عليك ).

يعني: حديث عمران الشاهد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهذا الرجل الذي أصابته جنابة وتيمم.

وأيضاً: حديث أبي هريرة وحديث أبي ذر وغيرهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته )، قالوا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فليتق الله وليمسه بشرته ) هذا دليل على أنه ليس رافعاً، وإنما هو مبيح، لو كان رافعاً ما قال: (ليمسه بشرته).

وأيضاً حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: أنه قال: ( احتلمت في ليلة باردة، فخشيت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت وصليت بأصحابي، فلما قدم المدينة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صليت بأصحابك وأنت جنب؟ )، فسماه جنباً مع أنه تيمم، هذا دل على أن الحدث لم يرتفع.

الرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله، وأن التيمم رافع كالوضوء بالماء، فإنه يرفع الحدث، لكن الفرق بين التيمم وبين الماء أن التيمم رفع الحدث رفعاً مؤقتاً، فإذا وجد الماء يبطل التيمم، أما بالنسبة للماء فإنه يرفع الحدث رفعاً مطلقاً إلى أن يوجد حدث آخر، أما بالنسبة للتيمم فإنه لا يرفعه رفعاً مطلقاً وإنما يرفعه رفعاً مؤقتاً إلى وجود الماء أو القدرة على استعماله إذا كان التيمم لمرض أو لخوف ونحو ذلك.

وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله, واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ واستدلوا على ذلك بأدلة، من هذه الأدلة قول الله عز وجل: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6]، والشاهد هنا قال: وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6]، فدل على أنه مطهر.

وأيضاً: حديث جابر وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) فدل على أنه مطهر.

وأيضاً: أن التيمم بدل عن الماء، والبدل له حكم المبدل، فإذا كان الماء رافعاً للحدث، فكذلك أيضاً التيمم رافع للحدث، وهذا القول هو الصواب.

لكن الفرق بين الماء وبين التيمم، أن الماء يرفع الحدث رفعاً مطلقاً، وأما التيمم فيرفع الحدث إلى وجود الماء، أو القدرة على استعماله، أو بطلان التيمم بحدث.

وأما بالنسبة لما استدل به أهل القول الأول الشافعية والحنابلة من قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عمران للرجل: ( خذ هذا فأفرغه عليك )، وأيضاً قوله: ( فليتق الله وليمسه بشرته )، نقول: هذه الأدلة دليل على أن التيمم لا يرفع رفعاً مطلقاً، وإنما يرفع إلى وجود الماء, هذا هو الفرق بين طهارة الماء وطهارة التيمم.

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لــعمرو : ( صليت بأصحابك وأنت جنب؟ ) هذا قبل أن يذكر له عمرو رضي الله تعالى عنه عذره، وأنه خشي على نفسه الهلاك.

وعلى هذا نقول: التيمم حكمه حكم الماء، فإذا كنا لا نشترط للطهارة بالماء دخول الوقت فكذلك أيضاً لا نشترط للتيمم بالصعيد دخول الوقت، فأنت الآن إذا أردت أن تصلي العشاء، وحتى الآن ما دخل وقت العشاء، لك أن تتوضأ الآن, فكذلك أيضاً التيمم إذا كنت لا تريد الماء أو لا تقدر على استعماله، لك أيضاً أن تتيمم الآن ولا يشترط دخول الوقت، كما أننا لا نشترطه بالنسبة للماء.

كذلك أيضاً بالنسبة للنافلة وقت النهي كما أن الإنسان له أن يتوضأ في أوقات النهي بعد العصر وبعد الفجر وقبل وقت الزوال له أن يتيمم، هذا هو الصواب.

حكم من تيمم لنافلة وأراد أن يصلي فريضة

قال المؤلف رحمه الله: [الثالث: النية؛ فإن تيمم لنافلة لم يصل بها فرضاً، وإن تيمم لفريضة فله فعلها وفعل ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يخرج وقتها].

النية شرط لصحة التيمم؛ لأن التيمم عبادة، وكل عبادة لا بد لها من نية.

ودليل ذلك حديث عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى )، لكن هنا قال المؤلف: إن تيمم لنافلة لم يصل بها فرضاً، وإن تيمم لفريضة فله فعلها وفعل ما شاء من النوافل والفرائض حتى يخرج وقتها، هذه المسألة مبنية على ما تقدم؛ وهي هل التيمم مبيح أو رافع؟

فهم يقولون: بأن التيمم مبيح، وعلى هذا إذا تيممت لعبادة فإنك تستبيح العبادة ومثلها ودونها، ولا تستبيح ما هو أعلى من العبادة، فمثلاً أنت الآن تيممت لكي تصلي سنة المغرب، هل لك أن تصلي به العشاء الآخرة؟ ليس لك ذلك؟ لأنهم يبنون هذا على أن التيمم مبيح، وعلى هذا جعلوا العبادات مرتبة كالتالي:

فالمرتبة الأولى فرض العين؛ فإذا تيممت لعبادة فرض العين مثل صلاة المغرب تستبيح سائر العبادات؛ لأن أعلى شيء هو فرض العين، ثم بعد فرض العين النذر، ثم بعد النذر فرض الكفاية، ثم بعد ذلك صلاة النافلة، ثم بعد ذلك طواف النفل، ثم بعد ذلك مس المصحف، ثم بعد ذلك قراءة القرآن بالنسبة للجنب، ثم بعد ذلك اللبث في المسجد، هكذا الترتيب.

أعيد الترتيب: أولاً: فرض العين، ثم النذر، ثم فرض الكفاية، ثم صلاة النافلة، ثم طواف النفل، ثم مس المصحف، ثم قراءة القرآن بالنسبة للجنب، ثم بعد ذلك اللبث في المسجد بالنسبة للجنب، فأقل شيء هو اللبث في المسجد.

إذا كان الإنسان جنباً وأراد أن يلبث في المسجد، لا بأس أن يلبث بعد الوضوء، لكن ما قدر على أن يتوضأ يتيمم، فإن تيممت وأنت جنب لكي تلبث في المسجد، هل لك أن تمس المصحف بذلك؟

ليس لك ذلك، ومن باب أولى أنك لا تصلي صلاة منذورة، ومن باب أولى أنك لا تصلي صلاة فرض كفاية مثل صلاة العيدين ولا فريضة.

إذا تيممت لصلاة منذورة تستبيح مس المصحف لأنه أقل، لكن تيممت لصلاة منذورة لا تصلي فرض العين؛ لأن فرض العين أعلى، وهذا كله كما أسلفت مبني على أن التيمم مبيح.

لكن إذا قلنا بأنه رافع كالماء تماماً، لا حاجة إلى هذه التفصيلات، نقول: هذه التفصيلات لا حاجة لها، فأنت إذا توضأت لمس المصحف مثلاً فلك أن تصلي فرض العين، لك أن تصلي فرض الكفاية، لك أن تطوف، لك أن تصلي الصلاة المنذورة .. إلخ.

وهذا القول هو الصواب كما تقدم أن الصواب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله وهو أن التيمم رافع وليس مبيحاً.

التيمم بالتراب

قال المؤلف رحمه الله: [الرابع: التراب فلا يتيمم إلا بتراب طاهر له غبار].

يقول المؤلف رحمه الله: لا بد من تراب، فلا تتيمم إلا على تراب، وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله والشافعي ؛ واستدلوا على ذلك بحديث حذيفة : ( وجعلت تربتها لنا طهوراً )، فقال صلى الله عليه وسلم: ( تربتها لنا طهوراً ).

الرأي الثاني: رأي مالك وأبي حنيفة أنه لا يشترط التراب، بل كل ما تصاعد على وجه الأرض كالتراب والجبال والصخور والرمال وغير ذلك، كل ما كان على وجه الأرض فإنه يصح لك أن تتيمم عليه.

ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وأيضاً كما في حديث أبي الجهيم : ( تيمم النبي صلى الله عليه وسلم على الجدار ).

فالصواب أننا نقول: لا حاجة إلى التراب.

وهنا اشترط شرطاً آخر فقال: (بتراب طاهر) طاهر دليله قول الله عز وجل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، الطيب هو الطاهر، وعلى هذا إذا كان هذا التراب الذي تيمم عليه نجساً فإنه لا يصح التيمم.

يقول المؤلف رحمه الله: (له غبار) واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [النساء:43]، وقالوا: بأن (من) هذه تبعيضية.

والصواب في ذلك: أنه لا حاجة إلى الغبار؛ لعموم قول الله عز وجل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وهذا يشمل كل صعيد، حتى الصخر، والصخر ليس له غبار.

وأيضاً: ( النبي صلى الله عليه وسلم تيمم على الجدار )، وهذا يدل على عدم اشتراط الغبار.

وأيضاً: الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يخرجون وما كانوا يحملون معهم التراب، وإنما يتيممون على وجه الأرض، فالصواب أنه لا يشترط الغبار.

وأما قول الله عز وجل: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [النساء:43]، فـ(من) هنا الصواب ليست للتبعيض، وإنما هي لابتداء الغاية، نقول: (من) هنا لابتداء الغاية، كما لو قلت: سافرت من مكة إلى المدينة، يعني: أن ابتداء غاية السفر من مكة إلى المدينة، فالصواب أن (من) هنا لابتداء الغاية، وليست للتبعيض.

وعلى هذا ما يتمم عليه ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما كان من جنس الأرض، فهذا لا نشترط له غبار، لما تقدم من الأدلة: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وأيضاً حديث أبي الجهيم : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام تيمم على الجدار )، فنقول: كل ما كان من جنس الأرض لا يشترط فيه الغبار، وهل يدخل في هذا التراب والرمل والصخر والجبال وأيضاً لو تيمم الإنسان على الرخام؟

الحنفية رحمهم الله قالوا: لو تيمم على صخرة غسلت بالماء فإن هذا صحيح، لأنه الآن تيمم على جنس الأرض، فيتيمم على الرخام أو على البلاط، نقول: صحيح؛ لأن هذا من جنس الأرض، أو تيمم على جدار الطين، نقول: صحيح، تيمم على جدار من الإسمنت، نقول: صحيح، لأن الاسمنت هذا من جنس الأرض، يعني: إذا كان مبنياً من بلوك الإسمنت، فنقول: بأن هذا صحيح، تيمم على جدار مدهون بهذه الدهانات، هل هذا صحيح أو ليس صحيحاً؟ نقول: هذا ليس صحيحاً؛ لأن هذه الدهانات ليست من جنس الأرض إلا إذا كان على الجدار غبار تتيمم عليه نقول: هنا يصح؛ لأن التيمم هنا على الغبار والغبار من جنس الأرض.

مثله أيضاً لو تيمم على مثل هذا الكرسي، نقول: هذا التيمم لا يصح؛ لأنه ليس من جنس الأرض، أو تيمم على الفرش، نقول: لا يصح، أو تيمم على أبواب الحديد أو الخشب نقول: لا يصح؛ لأن هذه ليست جنس الأرض، نشترط في هذه الحالة أن يكون عليها غبار لكي يكون التيمم على الغبار الذي هو من جنس الأرض.

فأصبح عندنا ما يتيمم عليه ينقسم إلى قسمين: من جنس الأرض لا نشترط غباراً، وكما قلنا: دخل فيه التراب والرمل والصخور والجدران التي من جنس الأرض، والأرض التي أرضيتها أو مادتها من جنس الأرض، مثل البلاط، ومثل الرخام مثل الإسمنت مثل الطين، هذه كلها من جنس الأرض، هذه يصح أن تتيمم عليها.

القسم الثاني: ما ليس من جنس الأرض، مثل الخشب، والفرش، والأبواب، والحديد، ونحو ذلك، فما ليس من جنس الأرض، نقول هنا: إذا تيممت عليه لا بد أن يكون عليها غبار لكي يكون التيمم على الغبار الذي هو من جنس الأرض.

مبطلات التيمم

قال المؤلف رحمه الله: [ويبطل التيمم ما يبطل طهارة الماء، وخروج الوقت، والقدرة على استعمال الماء, وإن كان في الصلاة].

يبطل التيمم ما يبطل الماء؛ لأن التيمم بدل، والبدل له حكم المبدل، فالماء يبطل بخروج الخارج من الإنسان من بول أو غائط أو ريح ونحو ذلك كما سبق، فكذلك أيضاً: التيمم يبطل بهذه الأشياء، وأكل لحم الجزور يبطل طهارة الماء فكذلك أيضاً يبطل التيمم، وهكذا.

ودليل ذلك -كما تقدم لنا- القاعدة: أن البدل له حكم المبدل.

أيضاً خروج الوقت وهذا مبني على أنه مبيح، والصواب أن خروج الوقت لا يبطل التيمم.

فمثلاً: تيممت الآن لصلاة المغرب، ثم خرج وقت صلاة المغرب فنقول: بأن التيمم لا يبطل لخروج الوقت؛ لأن الأصل بقاء الطهارة، وهذه المسألة من المسائل المرتبة على هل التيمم مبيح أو رافع؟ نقول: الصواب أن التيمم رافع, هذا الصواب.

قال: (والقدرة على استعمال الماء وإن كان في الصلاة) القدرة على استعمال الماء، إذا قدر الإنسان على استعمال الماء، سواء كان عدم الماء حقيقة أو حكماً، عدم الماء حقيقة بأن يكون ما وجد الماء ثم قدر عليه، نقول: يجب عليه أن يستعمله، ويبطل تيممه وإن لم يحدث، لما تقدم من حديث عمران بن الحصين في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خذ هذا فأفرغه عليك )؛ لأنه جاء الماء، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته ).

قال المؤلف رحمه الله: (وإن كان في الصلاة) يعني: إذا شرع الإنسان يصلي، لم يجد هذا الإنسان ماءً، ثم شرع يصلي، وفي أثناء الصلاة جاء الماء، هل تبطل طهارته وتبطل صلاته أو نقول: لا تبطل صلاته؟

للعلماء في ذلك رأيان:

الرأي الأول: أن طهارته تبطل؛ وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، ودليل ذلك قول الله عز وجل: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وهذا الآن وجد الماء.

وأيضاً مما يدل لذلك حديث عمران بن الحصين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( خذ هذا فأفرغه عليك )، فدل هذا على أن طهارة التيمم قد بطلت.

قلنا بأن الرأي الأول: أن التيمم يبطل فتبطل الصلاة لما تقدم من حديث عمران ، وأيضاً تقدم من حديث

قال المؤلف رحمه الله: [باب: التيمم].

مناسبة هذا الباب لما قبله، أن المؤلف رحمه الله كما سبق ذكر الطهارة بالماء سواء كانت برفع الحدث الأصغر أو برفع الحدث الأكبر، ثم بعد ذلك ذكر ما ينوب عن الماء عند تعذر استعماله حقيقة أو حكماً وهو التيمم.

فمناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة، فإن المؤلف رحمه الله ذكر الطهارة بالماء وهي الأصل, ثم بعد ذلك ذكر ما ينوب عن هذا الأصل وهو الطهارة بالصعيد الطيب, كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

والأصل في التيمم من حيث الدليل الكتاب, والسنة، والإجماع.

أما الكتاب فقول الله عز وجل: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، أما السنة فأحاديث كثيرة كما سيأتينا في حديث عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في الصحيحين؛ وفيه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما يكفيك هكذا, وضرب النبي عليه الصلاة والسلام بيديه على الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه ).

وكذلك أيضاً حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، وذكر من هذا الخمس قال: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، وأيضاً حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ). والإجماع قائم على مشروعية التيمم.

والتيمم من خصائص هذه الأمة فإنه لم يكن موجوداً في الأمم السابقة، وإنما هو من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

ودليل ذلك ما تقدم من حديث جابر رضي الله تعالى عنه وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي من الأنبياء قبلي، وذكر منها النبي عليه الصلاة والسلام قال: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ).

إن التيمم شرع رخصة وتسهيلاً على المكلف، فالأصل فيه التخفيف، وذلك أنه إنما شرع رخصة وتسهيلاً على المكلف، وإذا كان كذلك فإنه لا يشدد في صفته كما سيأتينا إن شاء الله؛ لأن التيمم إنما شرع للتسهيل ورفع الحرج والتخفيف على المكلف؛ كما قال الله عز وجل: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة:6].

قال المؤلف رحمه الله: [صفته أن يضرب بيديه على الصعيد الطيب].

قوله: (صفته) أي كيفية، والمراد بالصعيد هو كل ما تصاعد على وجه الأرض، كما سيأتينا إن شاء الله في قول المؤلف رحمه الله لما ذكر الشروط: (الشرط الرابع: التراب)، فالصواب أنه يكون على كل ما تصاعد على وجه الأرض، سواء كان تراباً أو حجراً أو حصىً أو رملاً أو جبلاً .. إلخ، فكل ما تصاعد على وجه الأرض كل ما كان من جنس الأرض، فإنه يصح التيمم عليه.

قال المؤلف رحمه الله: (الطيب) أي: الطاهر.

قال: [ضربة واحدة، فيمسح بهما وجهه وكفيه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعمار : ( إنما يكفيك هكذا, وضرب بيديه على الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه )].

هنا قال المؤلف رحمه الله: الصعيد الطيب كما سلف لنا أن التيمم ليس خاصاً بالتراب، كما سيأتي من التوضيح إن شاء الله، بل كل ما كان من جنس الأرض فإنه يصح لك أن تتيمم عليه.

وأيضاً قال المؤلف رحمه الله: (ضربة واحدة)، هذا هو الصواب الذي دل له حديث عمار رضي الله تعالى عنه, يعني: أنه يكفي فيه ضربة واحدة، ولا يشترط أن يضرب أكثر من ضربة، وهذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أنه يكفي في ذلك ضربة واحدة.

ودليل ذلك ما أورده المؤلف رحمه الله من حديث عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه.

كذلك أيضاً مما يدل لذلك ( أن النبي عليه الصلاة والسلام لما تيمم على الجدار ضرب النبي عليه الصلاة والسلام ضربة واحدة ).

والرأي الثاني: أنه لا بد من ضربتين، وهذا عند أكثر أهل العلم، اشترطوا ضربتين؛ واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً, لكنه لا يثبت مرفوعاً للنبي عليه الصلاة والسلام وإنما هو موقوف على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وعلى هذا نقول الصحيح في هذه المسألة أنه يكفي ضربة واحدة.

وأيضاً: كما تقدم لنا أنه لا يشترط التراب، وإنما يكفي أن يكون أي شيء من جنس الأرض، وسبق أن نبهنا على قاعدة, وهي: أن الأصل في التيمم أنه شرع للتخفيف والتسهيل ورفع الحرج، فإذا كان كذلك فلا نكثر من شروطه وتقييداته.

فنقول: يكفي ضربة واحدة, ولا تشترط ضربتان، ويكفي ما تصاعد على وجه الأرض، ولا يشترط التراب، ويكفي أيضاً أن يمسح كفيه، ولا حاجة إلى أن يمسح الذراعين، وهذا قول المؤلف رحمه الله, وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه يكفي في التيمم أن يمسح الكفين، ولا حاجة إلى أن يمسح المرفقين، كما هو قول الأئمة الثلاثة.

ودليل ذلك حديث عمار بن ياسر وحديث أبي الجهيم : ( لما تيمم النبي صلى الله عليه وسلم على الجدار مسح يديه ).

وأما ما ورد في حديث ابن عمر : ( التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين والمرفقين ). فقلنا: بأن هذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو موقوف على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فلا نشترط التراب، لا نشترط التعدد في الضربات، لا يشترط المسح إلى المرفقين، وإنما هو الكفين.

أيضاً: هل يفرج بين أصابعه أو لا يفرج كما ذكر العلماء رحمهم الله؟

نقول: لا حاجة إلى ذلك، وإنما يضرب الصعيد ويمسح وجهه, وكذلك أيضاً يمسح كفيه, فهي عبادة شرعت للتخفيف، تضرب الصعيد ضربة واحدة, وتمسح الوجه وأيضاً تمسح الكفين.

وأيضاً ذكر بعض العلماء رحمهم الله أن الإنسان يضرب الصعيد ويمسح أيضاً الوجه، وأما بالنسبة للشعر فنقول: بأنه لا يمسح، فإذا كان الإنسان له لحية أو نحو ذلك لا يمسح الشعر؛ لأن التيمم ليس فيه طهارة حسية وإنما طهارته طهارة معنوية فقط، وإذا كان كذلك فلا حاجة للإنسان أن يمسح الشعر، ولتضرب وتمسح بيديك على وجهك وتمر بهما على كفيك، وينتهي الأمر.

كذلك أيضاً: هل يفرج أصابعه أو لا يفرج؟ نقول: هذا لم يرد في السنة، بل إذا ضرب ومسح كفى ذلك.

كذلك أيضاً: هل كما ذكر بعض أهل العلم رحمهم الله إذا ضرب يمسح وجهه بباطن أصابعه وكفيه براحتيه؟ ذهب بعض أهل العلم إذا تيمم بضربة واحدة فإنه يمسح بطول أصابعه، وأما بالنسبة لكفيه فإنه يمسحهما براحتيه، لماذا قالوا هذا التفصيل؟ لأنه إذا ضرب ضربة واحدة ثم مسح وجهه وكفيه، يصبح التراب الذي ضرب به مستعملاً، فينقلب من كونه طهوراً إلى كونه طاهراً، وحينئذٍ يحتاج إلى ضربة أخرى.

فنقول: يمسح الوجه بأطراف الأصابع، ويمسح الكفين بالراحتين؛ لأنك إذا مسحت الكفين بالراحتين ما أصبح التراب الذي علق بالكفين مستعملاً .. إلخ، وهذا لا نحتاج إليه، وإنما يكفي كما سلف أن يضرب الإنسان ضربة واحدة ويمسح وجهه.

وكذلك أيضاً: يمسح ظاهر كفيه، وأيضاً لا حاجة إلى أن يمسح الشعر في التيمم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [22] 2513 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [1] 2461 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [4] 2439 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [12] 2420 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [2] 2394 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [14] 2349 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [2] 2348 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب النكاح [1] 2310 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [23] 2303 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [6] 2298 استماع