شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [1]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن من علامة الخير للإنسان أن يتفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يتزود من ميراث النبوة؛ فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، وثبت أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).

ولا شك أن من تعلم القرآن أن يتفقه في أحكام دينه مما جاء به كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من الحلال والحرام.

والعلم جاءت الأدلة والآثار على فضله وعلو منزلته, وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى مفاضلة بين طالب المال وطالب العلم، فذكر رحمه الله تفضيل طالب العلم على طالب المال بما يقرب من سبعين وجهاً؛ لأن المستقرئ لحال كثير من الناس اليوم يجد أنه فرق بين إنسان يطلب المال, ويكد بدنه، ويمضي عمره في ذلك، وبين إنسان يطلب العلم، ويكد بدنه, ويمضي حياته ويقضيها في ذلك, فذكر ابن القيم رحمه الله ما يقرب من سبعين وجهاً في تفضيل طالب العلم على طالب المال, وأشير إلى شيء من هذه الأوجه التي ذكرها رحمه الله, فمما ذكر أن طالب العلم يدعو الناس إلى الآخرة في طلبه، وأما طالب المال فإنه يدعو الناس إلى الدنيا بطلبه.

وذكر أيضاً أن العلم هو ميراث الأنبياء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ( وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ), وأما بالنسبة للدنيا فإنها ميراث الملوك، وفرق بين الميراثين، فرق بين أن ينهل الإنسان ويتزود من ميراث محمد صلى الله عليه وسلم, وبين أن يأخذ من ميراث بقية البشر من الملوك والحكام وغيرهم.

وذكر من الأوجه أن العلم يحفظ صاحبه، فالعلم إذا كنت متزوداً به فإنه يحفظك من أمراض الشبهات وأمراض الشهوات، بخلاف المال, فإن الإنسان محتاج إلى أن يحفظ ماله، المال محتاج إلى أن تحفظه في الصناديق, ووراء الأقفال, وبالودائع ونحو ذلك.

وأيضاً ذكر من الأوجه أن العلم يتبع صاحبه حتى بعد الموت، حتى بعد الموت يتبعك علمك إذ إنه من عملك؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث )، وثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان، يرجع أهله وماله, ويبقى عمله ), فالعلم يتبعك حتى بعد موتك، وأما بالنسبة للاثنين, فإنهما لا يتبعانك بعد موتك، بل إن العلماء رحمهم الله يذكرون في باب الهبة والعطية أن الإنسان إذا مرض مرض الموت لا يملك من ماله إلا الثلث فقط، وهذا من صدقة الله عليه، وهو حي لا يملك أن يتبرع, لا يملك أن يهب، لا يملك أن يتصدق، لا يملك أن يوقف، لا يملك أن يوصي إلا بالثلث فقط, إذا مرض مرض الموت، وأما الثلثان فإنهما يكونان للورثة, ففرق بين الطالبين.

فمن نعمة الله عز وجل ومن توفيقه أن يهيئ العبد للتصدي لطلب العلم والتفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

في بدء الدروس هناك بعض الوصايا لا بد أن يأخذ بها طالب العلم الجاد الذي يلم بشيء من فنون العلم، فمن هذه الوصايا التي أوصيه بها:

الإخلاص

أولاً: عليه بالإخلاص؛ أن يخلص عمله لله عز وجل، فإن العلم من أفضل العبادات وأجل القربات؛ ولهذا ذكر أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن تعلم العلم وتعليمه أفضل العبادات البدنية؛ لما اختلف العلماء رحمهم الله في أي العبادات البدنية أفضل؟ قال الشافعي: أفضلها الصلاة, وقال الإمام أحمد رحمه الله: أفضلها الجهاد في سبيل الله, وقال أبو حنيفة رحمه الله: أفضلها العلم تعلمه وتعليمه.

ولا شك أن تعلم العلم وتعليمه من الجهاد في سبيل الله؛ ولهذا في الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ) .

والله عز وجل يقول: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]. فالله عز وجل جعل المؤمنين طائفتين؛ طائفة تنفر للجهاد في سبيل الله، وطائفة تجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم تأخذ عنه سنته، فإذا رجعت الطائفة المجاهدة علمتهم الطائفة القاعدة.

والنبي عليه الصلاة والسلام جاهد الناس بجهادين:

الجهاد الأول: جهاد العلم والبيان؛ وهذا في المرحلة المكية، فمدة ثلاث عشرة سنة كان النبي صلى الله عليه وسلم يجاهد الناس بغرس التوحيد ونبذ الشرك وشوائبه.

ثم بعد ذلك في المرحلة المدنية جاهد الناس بجهاد السيف والسنان، فعلينا أيها الأحبة أن نخلص في العلم لله عز وجل سواء كان علماً أو غيره؛ قال الإمام أحمد : العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته، قيل: وكيف تصح النية؟ قال: إذا أراد أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره.

فإذا أراد بتعلمه أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره, وأن يعبد الله على بصيرة, وأن يدعو الناس إلى هذا العلم الذي تعلمه، فإن هذا لا يعدله شيء؛ كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

وإن هذا هو عمل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فالذي يقوم بتعلم العلم وتعليمه للناس يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام نوح وموسى وعيسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فإنهم يتعلمون من ربهم ثم بعد ذلك يعلمون الناس، ويوجهون الناس ويرشدونهم.

فعلينا دائماً وأبداً أن نعلق قلوبنا بالله عز وجل محبة ورغبة ورهبة ورجاءً وتوكلاً واستعانة، وألا يلتفت قلب الإنسان إلى المخلوقين, أو إلى الدنيا, أو حظوظها الفانية.

والله عز وجل في الحديث القدسي كما في حديث أبي هريرة المخرج في الصحيحين يقول: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ).

وذكر سفيان رحمه الله قال: كانوا يتعلمون النية كما يتعلمون العلم.

وقال بعض السلف: رب عمل صغير كبرته النية، ورب عمل كبير صغرته النية, فقد يبذل الإنسان جهده ويعمل ويكثر من العمل .. إلخ لكن يصغره نيته، تكون نيته مشوبة بشوائب الشرك، مشوبة بالرياء، مشوبة بالسمعة، مشوبة بالتفاف القلب إلى المخلوقين .. إلخ.

فعلى المسلم دائماً وأبداً أن يعلق قلبه بالله عز وجل وألا ينظر إلى الدنيا وحظوظها الفانية, وإنما يريد وجه الله عز وجل, والاستزادة من هذا العلم وتبصير الناس ودعوتهم .. إلخ.

والآثار عن السلف في الإخلاص كثيرة جداً؛ فمن ذلك ما ذكر محمد بن واسع رحمه الله قال: كان الرجل يقوم في الصف فتسيل دموعه على لحيته لا يشعر به من بجنبه، وكان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة تسيل دموعه على خده لا تشعر به امرأته.

وقال أبو التياح رحمه الله: كان الرجل يقرأ عشرين سنة لا يعلم به جيرانه.

وقال محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى: الإجابة والإخلاص مقرونان لا فرقة بينهما، يعني: أن إجابة الدعاء يكون مع الإخلاص، فكلما كان الإنسان أخلص في عمله كانت استجابة الله عز وجل له أكثر.

العمل بالعلم

أما الوصية الثانية: فعلى الإنسان أن يعمل بما علم؛ وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً هدي صحابته رضي الله تعالى عنهم.

ثبت في صحيح مسلم من حديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من صلى لله في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة بني له بهن بيتاً في الجنة ). قالت أم حبيبة رضي الله تعالى عنها: فما تركتهن منذ سمعتهن من النبي صلى الله عليه وسلم.

قال عنبسة الراوي عن أم حبيبة : فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة .

قال النعمان بن سالم الراوي عن عنبسة : ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة .

قال عمرو بن أوس الراوي عن النعمان بن سالم : ما تركتهن منذ سمعتهن من النعمان بن سالم .

عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كما في صحيح البخاري : ( رأى رؤيا, رأى في منامه النار.. إلخ, فقص على حفصة ، فقصتها حفصة رضي الله تعالى عنها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل ), قال سالم بن عبد الله : فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً.

و معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ( يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ) - قال: عن عمل، دلني على عمل فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام ودعائمه ( تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتصلي الصلوات، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان, وتحج البيت )، ثم دله على أبواب الخير، ثم قال له: ( ألا أدلك على رأس الأمر, وعموده, وذروة سنامه )، ثم دله على ملاك ذلك كله، لأنه رضي الله تعالى عنه أراد العمل، لم يرد إلا العمل.

وكان النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهما: ( كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه )، كل ذلك استجابة لقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2].

وكان مسروق رحمه الله يقوم الليل حتى انتفخت ساقاه، وكانت امرأته تقف من ورائه وتبكى وتقول: إنما أبكي رحمة له.

فعلينا أيها الأحبة! إذا علمنا شيئاً أن نسارع إلى العمل به وامتثاله؛ هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة.

قال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل, وأغلق عنه باب الشر.

فكلما رأيت الإنسان أكثر تطبيقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم, وأكثر مبادرة إلى العلم والعمل فاعلم أن ذلك من علامة الخير به.

الدعوة

الوصية الثالثة: على الإنسان أن يدعو إلى ما تعلم، وهذا داخل فيما سبق، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يبايع الناس على ذلك.

يقول جرير بن عبد الله كما ثبت في الصحيحين: ( بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة، وعلى إيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم. ) .

والله عز وجل يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]. فسبيل النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه وهديه, وطريقة من اتبعه, وهدي من اتبعه هي الدعوة إلى الله عز وجل.

الصبر والمصابرة

الوصية الرابعة: الإنسان عليه أن يصبر وأن يصابر؛ فالعلم لا بد له من مصابرة، ولا بد له مجاهدة، ولن يؤتيك بعضه حتى تؤتيه كلك.

ومن يقرأ في حال السلف رحمهم الله وفي تراجمهم وكتب الطبقات وسير العلماء وأخبار الرجال يجد العجب العجاب من مصابرة العلماء رحمهم الله للعلم, فلا بد للإنسان أن يصابر.

من أئمة العلماء ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يجمع سنة النبي عليه الصلاة والسلام من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فكان يأتي إلى بيت الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يعلم أن عنده شيئاً من سنة النبي عليه الصلاة والسلام فيضع رداءه ويتوسده، فتأتي الريح وتسفي عليه التراب حتى يخرج ذاك الصحابي، ثم بعد ذلك يأخذ منه تلك السنة التي حفظها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان أيضاً مالك يفعل نحواً من ذلك مع شيخه نافع مولى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما .. إلخ.

وأخبارهم كثيرة جداً.

الحفظ

كذلك أيضاً مما أوصي به عليك بالحفظ، على الطالب أن يمرن نفسه وأن يربي نفسه على الحفظ، وإذا قرأت شيئاً في تراجم العلماء رحمهم الله تجد أنهم يذكرون في تراجمهم أنه حفظ القرآن وله عشر سنوات إلى آخره، فتجد في ترجمة ابن قدامة رحمه الله صاحب كتاب العمدة أنه حفظ القرآن وله عشر سنوات، ثم بعد ذلك شرع في حفظ بقية المتون كمختصر الخرقي وغيره من متون الحديث والعقيدة والأصول وغير ذلك.

فلا بد للإنسان أن يحفظ، فالعلماء رحمهم الله جعلوا لكل فن شيئاً من المتون، فالحديث له شيء من المتون، والفقه والعقيدة وأصول الفقه, وكذلك أيضاً مصطلح الحديث وغير ذلك، وأساس العلوم وأمها ومصدرها هو كتاب الله عز وجل.

فلا بد للطالب أن يربي نفسه على الحفظ، أن يربيها على حفظ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وشيء من هذه المتون التي كتبها العلماء رحمهم الله، فإن هذا المتون تعتبر زبدة لهذه الفنون التي يدرسها الطلاب.

لكل فن من هذه الفنون هذه المختصرات التي هي تعتبر خلاصة وزبدة لذلك الفن؛ فلا بد للإنسان أن يجمع ذلك في قلبه, وأن يلم به؛ لكي يترقى في العلم.

والرحبي رحمه الله يقول:

فاحفظ فكل حافظ إمام

وكما أسلفت: إذا قرأت في كتب الرجال وسيرهم وتراجم العلماء تجد أنهم يذكرون عنهم كيف كانوا يحفظون سنة النبي صلى الله عليه وسلم, ويحفظون أيضاً غير ذلك من فنون العلم.

حفظ الوقت

كذلك مما أوصي به أيضاً: حفظ الوقت؛ لا بد لطالب العلم أن يحفظ وقته، وأن يكون شحيحاً بوقته، فإن الوقت هو الحياة، وليس لك من حياتك ليس لك من عمرك إلا ما مضيته في طاعة الله عز وجل.

فلا بد للطالب أن يحفظ بقاء وقته، وأن يتخلص من كثير من فضول الخلطة، ومن فضول النوم، ومن فضول اللهو .. إلخ, لا مانع أن الإنسان يجم قلبه بأشياء يستعين بها على طلب العلم وعلى طاعة الله عز وجل.

لكن أن يكون الإنسان مبعثراً غير منتظم، كثير الخلطة، وكثير النوم، وكثير الذهاب والإياب والتنزهات.. إلخ, هذا يضيع عليه الوقت، ولا يستدرك شيئاً، ولا يتمكن الإنسان من الأخذ من ميراث النبوة والتزود بنور العلم إلا إذا كان حافظاً لوقته.

ولو قرأت أيضاً في كتب الرجال وسير العلماء وكيف كانوا حافظين لأوقاتهم لوجدت العجب العجاب.

ابن الجوزي رحمه الله كان من أشد الناس حفظاً لوقته، وكان عامة الناس يغشونه في بيته فلا يستطيع أن يردهم، يعني: يأتونه لزيارته والجلوس معه وسؤاله فلا يستطيع أن يردهم, فكان يعمد رحمه الله إذا جاءه العامة أن يشغلهم ببري الأقلام، فإذا خرجوا استفاد من هذه الأقلام التي قاموا ببريها في الكتابة والتأليف.. إلخ.

وكان ابن عقيل رحمه الله يقول: لا يحل لي أن أضيع شيئاً من وقتي، فكان يمضي وقته إما في القراءة والكتابة أو في الذكر والاستغفار.

المنهجية في طلب العلم

كذلك مما أوصي به: أن يكون الطالب منظماً لا يكون مبعثراً، فإذا كان مبعثراً فإنه لا يستفيد، لا بد أن يكون منظماً، بمعنى أن يكون له أصول وقواعد يسير عليها، في كل فن من فنون العلم يكون له متن يسير عليه، وهذا المتن كما أسلفت يقوم بحفظه, وأيضاً بتعلم مسائله, ويعرف راجحه ومرجوحه, ودليل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فهذه لا بد لطالب العلم منها، يعني: من حيث المنهج لا بد للطالب أن يسير على هذه القواعد والأصول التي كتبها العلماء من قبله، فإنه إذا لم يكن سائراً على شيء من ذلك، فإنه يكون مبعثراً، ويكون غير منتظم، تجد أنه تارة يقرأ في هذا الباب، وتارة في الباب الآخر، وتارة يقرأ في هذا الكتاب، وتارة يقرأ في هذه الفتوى .. إلخ, لا يكون منظماً.

وإذا نظرت إلى هدي العلماء السابقين نجد أنهم يسيرون على هذه المتون، فعندنا عمل وعندنا منهج، العمل الإنسان يعمل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما المنهج والتربية والتعلم فإنه يكون على قواعد وأصول حتى يسير الإنسان إلى مبتغاه ومراده.

تقييد العلم بالكتابة

كذلك أيضاً مما أوصي به: أن يقيد الفوائد, أن يعتني بالكتابة وتقييد العلم، وأن لا يعتمد على الحفظ؛ لأن الإنسان إذا كان معتمداً على حفظه فحسب فإن الحفظ وخصوصاً في وقتنا هذا سرعان ما يخونه.

لا بد للإنسان أن يعتمد الكتابة وأن يقيد، يكون له متن يقيد في حواشيه أو يجعل فيه أوراقاً يقيد في هذه الأوراق ما يسمعه وما يقرؤه وما يتعلمه لكي يكون هذا المتن مرجعاً له، ويعتمد عليه في الاستذكار والتعليم . إلخ.

كذلك أيضاً: على الطالب أن يكون له ثلة تعنى بالعلم، فإن الإنسان إذا كان له ثلة تعنى بالعلم وأصحاب يعينونه على ذلك فإن هذا أيضاً من أهم الوسائل في طلب العلم.

من أهم الوسائل في طلب العلم أن يكون للإنسان أصحاب وزملاء يعنون بالعلم. والإنسان على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل، والطيور على أشكالها تقع.

فإذا كان الإنسان مزاملاً لأهل العلم تشبه بهم وأخذ منهم وأعانوه وصار منهم، وإذا كان مزاملاً لأهل التجارة ونحو ذلك صار متأثراً بهم، وعلى هذا فقس.

فعلى الإنسان أن يكون له أصحاب يعنون بالعلم، يستذكر معهم ويتحفظ معهم شيئاً من المحفوظات أو شيئاً مما قرءوا.. إلخ.

فأسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح, وأن يجعلنا هداة مهتدين, وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبساً علينا.

اللهم صل على محمد.

أولاً: عليه بالإخلاص؛ أن يخلص عمله لله عز وجل، فإن العلم من أفضل العبادات وأجل القربات؛ ولهذا ذكر أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن تعلم العلم وتعليمه أفضل العبادات البدنية؛ لما اختلف العلماء رحمهم الله في أي العبادات البدنية أفضل؟ قال الشافعي: أفضلها الصلاة, وقال الإمام أحمد رحمه الله: أفضلها الجهاد في سبيل الله, وقال أبو حنيفة رحمه الله: أفضلها العلم تعلمه وتعليمه.

ولا شك أن تعلم العلم وتعليمه من الجهاد في سبيل الله؛ ولهذا في الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ) .

والله عز وجل يقول: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]. فالله عز وجل جعل المؤمنين طائفتين؛ طائفة تنفر للجهاد في سبيل الله، وطائفة تجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم تأخذ عنه سنته، فإذا رجعت الطائفة المجاهدة علمتهم الطائفة القاعدة.

والنبي عليه الصلاة والسلام جاهد الناس بجهادين:

الجهاد الأول: جهاد العلم والبيان؛ وهذا في المرحلة المكية، فمدة ثلاث عشرة سنة كان النبي صلى الله عليه وسلم يجاهد الناس بغرس التوحيد ونبذ الشرك وشوائبه.

ثم بعد ذلك في المرحلة المدنية جاهد الناس بجهاد السيف والسنان، فعلينا أيها الأحبة أن نخلص في العلم لله عز وجل سواء كان علماً أو غيره؛ قال الإمام أحمد : العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته، قيل: وكيف تصح النية؟ قال: إذا أراد أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره.

فإذا أراد بتعلمه أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره, وأن يعبد الله على بصيرة, وأن يدعو الناس إلى هذا العلم الذي تعلمه، فإن هذا لا يعدله شيء؛ كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

وإن هذا هو عمل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فالذي يقوم بتعلم العلم وتعليمه للناس يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام نوح وموسى وعيسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فإنهم يتعلمون من ربهم ثم بعد ذلك يعلمون الناس، ويوجهون الناس ويرشدونهم.

فعلينا دائماً وأبداً أن نعلق قلوبنا بالله عز وجل محبة ورغبة ورهبة ورجاءً وتوكلاً واستعانة، وألا يلتفت قلب الإنسان إلى المخلوقين, أو إلى الدنيا, أو حظوظها الفانية.

والله عز وجل في الحديث القدسي كما في حديث أبي هريرة المخرج في الصحيحين يقول: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ).

وذكر سفيان رحمه الله قال: كانوا يتعلمون النية كما يتعلمون العلم.

وقال بعض السلف: رب عمل صغير كبرته النية، ورب عمل كبير صغرته النية, فقد يبذل الإنسان جهده ويعمل ويكثر من العمل .. إلخ لكن يصغره نيته، تكون نيته مشوبة بشوائب الشرك، مشوبة بالرياء، مشوبة بالسمعة، مشوبة بالتفاف القلب إلى المخلوقين .. إلخ.

فعلى المسلم دائماً وأبداً أن يعلق قلبه بالله عز وجل وألا ينظر إلى الدنيا وحظوظها الفانية, وإنما يريد وجه الله عز وجل, والاستزادة من هذا العلم وتبصير الناس ودعوتهم .. إلخ.

والآثار عن السلف في الإخلاص كثيرة جداً؛ فمن ذلك ما ذكر محمد بن واسع رحمه الله قال: كان الرجل يقوم في الصف فتسيل دموعه على لحيته لا يشعر به من بجنبه، وكان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة تسيل دموعه على خده لا تشعر به امرأته.

وقال أبو التياح رحمه الله: كان الرجل يقرأ عشرين سنة لا يعلم به جيرانه.

وقال محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى: الإجابة والإخلاص مقرونان لا فرقة بينهما، يعني: أن إجابة الدعاء يكون مع الإخلاص، فكلما كان الإنسان أخلص في عمله كانت استجابة الله عز وجل له أكثر.

أما الوصية الثانية: فعلى الإنسان أن يعمل بما علم؛ وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً هدي صحابته رضي الله تعالى عنهم.

ثبت في صحيح مسلم من حديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من صلى لله في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة بني له بهن بيتاً في الجنة ). قالت أم حبيبة رضي الله تعالى عنها: فما تركتهن منذ سمعتهن من النبي صلى الله عليه وسلم.

قال عنبسة الراوي عن أم حبيبة : فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة .

قال النعمان بن سالم الراوي عن عنبسة : ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة .

قال عمرو بن أوس الراوي عن النعمان بن سالم : ما تركتهن منذ سمعتهن من النعمان بن سالم .

عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كما في صحيح البخاري : ( رأى رؤيا, رأى في منامه النار.. إلخ, فقص على حفصة ، فقصتها حفصة رضي الله تعالى عنها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل ), قال سالم بن عبد الله : فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً.

و معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ( يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ) - قال: عن عمل، دلني على عمل فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام ودعائمه ( تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتصلي الصلوات، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان, وتحج البيت )، ثم دله على أبواب الخير، ثم قال له: ( ألا أدلك على رأس الأمر, وعموده, وذروة سنامه )، ثم دله على ملاك ذلك كله، لأنه رضي الله تعالى عنه أراد العمل، لم يرد إلا العمل.

وكان النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهما: ( كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه )، كل ذلك استجابة لقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2].

وكان مسروق رحمه الله يقوم الليل حتى انتفخت ساقاه، وكانت امرأته تقف من ورائه وتبكى وتقول: إنما أبكي رحمة له.

فعلينا أيها الأحبة! إذا علمنا شيئاً أن نسارع إلى العمل به وامتثاله؛ هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة.

قال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل, وأغلق عنه باب الشر.

فكلما رأيت الإنسان أكثر تطبيقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم, وأكثر مبادرة إلى العلم والعمل فاعلم أن ذلك من علامة الخير به.

الوصية الثالثة: على الإنسان أن يدعو إلى ما تعلم، وهذا داخل فيما سبق، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يبايع الناس على ذلك.

يقول جرير بن عبد الله كما ثبت في الصحيحين: ( بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة، وعلى إيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم. ) .

والله عز وجل يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]. فسبيل النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه وهديه, وطريقة من اتبعه, وهدي من اتبعه هي الدعوة إلى الله عز وجل.

الوصية الرابعة: الإنسان عليه أن يصبر وأن يصابر؛ فالعلم لا بد له من مصابرة، ولا بد له مجاهدة، ولن يؤتيك بعضه حتى تؤتيه كلك.

ومن يقرأ في حال السلف رحمهم الله وفي تراجمهم وكتب الطبقات وسير العلماء وأخبار الرجال يجد العجب العجاب من مصابرة العلماء رحمهم الله للعلم, فلا بد للإنسان أن يصابر.

من أئمة العلماء ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يجمع سنة النبي عليه الصلاة والسلام من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فكان يأتي إلى بيت الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يعلم أن عنده شيئاً من سنة النبي عليه الصلاة والسلام فيضع رداءه ويتوسده، فتأتي الريح وتسفي عليه التراب حتى يخرج ذاك الصحابي، ثم بعد ذلك يأخذ منه تلك السنة التي حفظها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان أيضاً مالك يفعل نحواً من ذلك مع شيخه نافع مولى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما .. إلخ.

وأخبارهم كثيرة جداً.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [22] 2515 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [1] 2461 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [4] 2442 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [12] 2421 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [2] 2395 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [14] 2351 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [2] 2348 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب النكاح [1] 2310 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [23] 2304 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [6] 2300 استماع