شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [2]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن أبى طلق حاكم عليه واحدة أو ثلاثاً أو فسخ، وإن وطئ في الدبر أو دون الفرج فما فاء، وإن ادعى بقاء المدة أو أنه وطئها وهي ثيب صُدق مع يمينه، وإن كانت بكراً وادعت البكارة وشهد بذلك امرأة عدل، صدقت، وإن ترك وطأها إضراراً بها بلا يمين ولا ع

ذر فكمول].

تقدم لنا شيء من أحكام الظهار وذكرنا من ذلك تعريف الإيلاء وذكرنا أن الإيلاء في اللغة: الحلف، وأما في الاصطلاح: فهو أن يحلف على ترك وطء زوجته أبداً، أو مدة تزيد على أربعة أشهر، وأن حكمه محرم ولا يجوز، وأيضاً تقدم لنا ما يتعلق بشروطه، وأنه إذا توفرت شروطه ضربت المدة للمولي، وهل يحتاج إلى الحاكم القاضي في ضرب المدة أو لا يحتاج، الفقهاء يقولون: بأنه لا يحتاج، وأن المدة تبدأ من حين يحلف، وتقدم لنا ما يتعلق بمضي المدة هل تطلق به المرأة أو لا تطلق به المرأة، وذكرنا في ذلك رأيين:

الرأي الأول: وهو رأي جمهور أهل العلم، أن المرأة لا تطلق بمضي المدة، وذكرنا أدلة من أدلتهم، ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [البقرة:226-227] قال: (عزموا) مما يدل على أنه لابد من طلاق يعزم عليه، وأيضاً قال: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:227] وهذا يدل على أنه لابد من طلاق يسمع.

وأيضاً من الأدلة على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى جعل المدة للأزواج ولم يجعلها عليهم، مما يدل على أن مضي المدة لا يحصل به الطلاق.

وكذلك أيضاً: أن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أن المولي يوقف بعد مضي المدة وأنها لا تطلق عليه، إما أن يفيء وإما أن يطلق عليه القاضي كما سيأتينا إن شاء الله.

والرأي الثاني في المسألة: هو رأي الحنفية، وأنه إذا مضت المدة فإن الزوجة تطلق عليه، واستدلوا على ذلك بقراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، (فإن فاءوا فيهن)، وسبق الجواب عن هذا الاستدلال بهذه القراءة، وذكرنا أن الراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإلا أمر بالطلاق، فإن أبى طلق حاكم عليه واحدة أو ثلاثاً أو فسخ، إذا أبى أن يفيء).

وهذا رأي جمهور أهل العلم؛ لأنه لما امتنع من الفيئة ومن الطلاق فإن القاضي يقوم مقامه كقضاء الدين، كما أنه إذا امتنع من قضاء الدين فإن القاضي يقوم مقامه في قضاء الدين الذي عليه.

والرأي الثاني: قول عند الشافعية ورواية عند الحنابلة، أن القاضي لا يطلق عليه، وإنما يحبسه ويعزره، ولا يطلق عليه حتى يفيء أو يطلق هو؛ لأن الطلاق لمن أخذ بالساق.

والصواب في ذلك هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم لما تقدم.

قال المؤلف رحمه الله: (طلق حاكم عليه واحدة أو ثلاثاً أو فسخ).

الحاكم إذا أراد أن يطلق أو يفسخ هل يتخير لنفسه أو يتخير لغيره؟ نقول: يتخير لغيره، والقاعدة عندنا: أن من تخير لغيره فإن خياره خيار مصلحة وليس خيار تشه.

وعلى هذا فقول المؤلف رحمه الله: (أو ثلاثاً)، هل هذا فيه مصلحة للزوجين كونه يطلق عليهم ثلاثاً أو ليس فيه مصلحة؟ نقول: هذا ليس فيه مصلحة؛ لأن هذا طلاق بدعي، ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فالصواب في ذلك أن كونه يطلق عليه ثلاثاً أن هذا غير صواب؛ لأن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد لا تكون المصلحة في ذلك للزوجين.

بقينا هل الأصلح الطلاق أو الأصلح الفسخ؟

المؤلف ذكر ثلاث حالات: إما أن يطلق ثلاثاً أو يطلق واحدة أو أن يفسخ.

وقلنا: أما الطلاق الثلاث فهذا الصواب أن القاضي لا يملكه لأن الزوج وهو الأصل لا يملكه؛ لأن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولأن المصلحة قد تكون للزوجين في عدم طلاق الثلاث؛ لأنه سيسد الباب عليهم، قد يرجع الزوج إلى إحسان العشرة، وقد سد القاضي الطلاق على الزوجين.

يبقى: هل يطلق واحدة أو يفسخ؟ نقول: هذا يختلف باختلاف الأحوال، قد يكون الأصلح هو الفسخ وقد يكون الأصلح هو الطلاق، فيكون الأصلح هو الفسخ كما لو كان الزوج طلق زوجته طلقتين، لو قلنا بأنه يطلق فإذا طلق الثالثة بانت منه بينونة كبرى، وحينئذ يسد الباب، فنقول هنا الأصلح الفسخ. وقد يكون الأصلح هو الطلاق كما لو كانت الحالة متعثرة بين الزوجين وقد سبق طلقتان، فكون القاضي يوقع طلقة هنا يسد الباب.

لو كانت الحالة يعني استقامة الزوجين وإرجاع العشرة الحسنة إلى ما بينهما هذه متعثرة بين الزوجين، فنقول: لو إذا فات طلقتان الأصلح أن يطلق طلقة واحدة فيسد الباب، أو يفسخ، لأنه إذا فسخ لا يتمكن الزوج من الرجوع إلا برضا المرأة، وقد يكون الأصلح أن يطلق طلقة واحدة فقط، كما لو كان يرجى صلاح حال الزوجين والزوج لم يطلقها، فكونه يطلق طلقة واحدة هنا فيه فسحة للمراجعة، لو فسخ القاضي لا يتمكن الزوج من المراجعة.

فهنا نقول: قد يكون المصلحة في بعض الأحوال أن يطلق طلقة واحدة، وقد يكون المصلحة في بعض الأحوال أن يفسخ كما تقدم. فهذا يرجع إلى اختلاف الأحوال ودراسة حال الزوجين كما سلف. كما ذكرنا أنه إذا كان يرجى أن يعود الزوج إلى العشرة الحسنة، فكون القاضي يطلق طلقة واحدة إذا لم يفت شيء من الطلقات هذا هو الأولى، لأنه إذا فسخ يكون سد الباب، إن فات شيء من الطلقات وطلق طلقة يكون سد الباب عليهم.

إذاً: هذا يرجع إلى دراسة حال الزوجين، والقاضي يتخير خيار مصلحة، لأنه يتخير لغيره لا يتخير لنفسه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن وطئ في الدبر أو دون الفرج فما فاء).

الفيئة كما سلف هي الوطء في الفرج، فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227] الفيئة هي الوطء في الفرج وهذا باتفاق الفقهاء، وعلى هذا لو أنه وطئ في الدبر أو وطئ فيما دون الفرج أو أنه استمتع فقط، فنقول بأن هذا ليس من الفيئة.

قال: (وإن ادعى بقاء المدة أو أنه وطئها وهي ثيب صُدِّق مع يمينه) يعني: ادعى أنه بقي يوم أو يومان مثلاً على مضي الأربعة الأشهر، وادعت المرأة أن المدة قد انتهت، فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء المدة، اللهم إلا إذا كان هناك بينات أو قرائن فيرجع إلى ذلك، وإذا لم يكن شيء من ذلك فإن القول قول الزوج كما سلف، لأن الأصل بقاء المدة.

قال: (أو أنه وطأها وهي ثيب صدق مع يمينه) لو ادعى الزوج أنه قد فاء وأنه وطئ زوجته، وادعت المرأة أنه لم يطأ فهذا لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن تكون الزوجة بكراً، فهذا لا يصدق الزوج، لأن الحال تكذب دعواه، إذ إنها لا تزال بكراً، فيكون القول قول الزوجة.

الأمر الثاني: أن تكون الزوجة ثيباً، فيقول المؤلف رحمه الله: بأن القول قول الزوج؛ لأن هذا أمر خفي لا يعلم إلا من جهته، وأيضاً الأصل بقاء النكاح وعدم ما يعرض له من فسوخات، إلا إذا كان هناك بينات أو قرائن، ونقول: بأن القول قوله لكن مع يمينه، لأن ما تدعيه المرأة محتمل الصدق، فلابد من اليمين التي تؤكد ما ذهب إليه .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن كانت بكراً أو ادعت البكارة وشهد بذلك امرأة عدل صدقت) هذا الأمر الثاني كما سلف، إذا كانت المرأة بكراً وادعى أنه وطئها وأنكرت، فالقول قول المرأة، لكن لابد أن تشهد امرأة عدل، لأن مثل هذه الأشياء ممكن إطلاع النساء على ما يتعلق بالبكارة، فإذا ادعت المرأة أنها بكر وأنه لم يطأ، فنقول: القول قول المرأة، لكن لابد من البينة لإمكان البينة، وذلك بأن تشهد امرأة عدل على صدق ما تقول.

قال: (وإن ترك وطأها إضراراً بلا يمين ولا عذر فكمول) هذه المسألة إذا ترك الزوج وطء زوجته إضراراً بها لكنه لم يحلف، فهل يأخذ ذلك حكم الإيلاء أو نقول بأنه لا يأخذ حكم الإيلاء؟ المؤلف رحمه الله يقول: بأنه يأخذ حكم الإيلاء، وعلى هذا نضرب له مدة الإيلاء أربعة أشهر، فإن فاء وإلا أمره الحاكم بأن يطلق، فإن أبى طلق الحاكم عليه أو فسخ كما تقدم، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

والرأي الثاني وهو الرواية الثانية في مذهب الإمام أحمد : أنه لا يأخذ حكم الإيلاء، لتخلف شرط من شروط صحة الإيلاء وهو الحلف، فهو لم يحلف، والله عز وجل يقول: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227]، فما دام أنه لم يحلف لا يأخذ حكم الإيلاء، وهذا القول هو الصواب.

وعلى هذا لا حاجة إلى أن نضرب له مدة، فيؤمر بالمعاشرة بالمعروف، فإن عاشر بالمعروف وإلا فإن القاضي يفسخ عليه.

ومثل ذلك أيضاً لو ظاهر ولم يكفر، لأن المظاهر -كما سيأتينا- يحرم عليه أن يطأ زوجته حتى يكفر، لو أنه ترك إخراج الكفارة هنا سيلحق المرأة الضرر، فهل يكون حكمه حكم الإيلاء أو نقول بأنه لا يأخذ حكم الإيلاء؟

المشهور في المذهب أنه يأخذ حكم الإيلاء.

الرأي الثاني: أنه لا يأخذ حكم الإيلاء؛ لعدم اليمين، وهذا القول هو الصواب.

وعلى هذا إذا ترك إخراج الكفارة إذا كان مظاهراً نقول: يجب عليك أن تخرج الكفارة، وأن تطأ، وأن تعاشر بالمعروف، وإلا فإنه يفسخه.