خطب ومحاضرات
علاج الهوى
الحلقة مفرغة
العلم من أنبل الغايات وأشرفها، وله مكانة عظيمة في ديننا، به يعبد المسلم ربه على بصيرة، بل ويكون أشد خشية له، فكان تعلمه خشية، وطلبه عبادة، والبحث عنه جهاداً، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، وقد ضرب لنا الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أروع الأمثلة في حرصهم على طلب العلم، فقد طلبوه ضمن ضوابط وشروط معينة، فحصلوا بذلك العلم النافع الصحيح.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
إخواني في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
فاستكمالاً لما كنا قد تحدثنا عنه في موضوع: الهوى، فذكرنا بعض الحالات التي يدخل فيها الهوى، وما هو تعريف الهوى، وتحذير القرآن والسنة من الهوى، وحال السلف الصالح رحمهم الله تعالى في هذا الشأن، ونحن نتكلم اليوم إن شاء الله عن علاج الهوى، وهذا هو لب الموضوع، وهي الثمرة والفائدة المراد معرفتها من طرق هذا الموضوع، وإن كان جزءٌ كبيرٌ من العلاج يكون في اكتشاف الحالات التي يقع فيها الهوى، لأنه كثيراً من الأحيان -أيها الإخوة- لا يدري الإنسان أن هذا التصرف الذي وقع به هو عبارة عن هوى، ولذلك قمنا في المرة الماضية بتسليط الضوء عن كثير من الحالات التي يقع فيها الهوى، قال الشاطبي رحمه الله تعالى: مخالفة ما تهوى الأنفس شاقٌ عليها، وصعبٌ خروجها عنه، ولذلك بلغ الهوى بأهله مبالغ لا يبلغها غيرهم، وكفى شاهداً على ذلك حال المحبين، وحال من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب، وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال، كفار قريش خرجوا في معركة بدر وأهلكوا النفوس والأموال في سبيل الهوى الذي استقر في نفوسهم، وتمكن من قلوبهم، فحرمهم الاستفادة والاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، الهوى سواءً كان عند أبي جهل وغيره هو: حب الرئاسة، وسواءً كان عند سدنة الأصنام هو: حب الأصنام، وسواءً عند الغوغائيين والتبع هو: حب من يعتقدون أنه قدوتهم وأنه من أئمتهم وهم من أئمة النار في الحقيقة.
فإذاً هؤلاء رضوا بإهلاك النفوس والأموال، ولم يرضوا بمخالفة الهوى، أليس كذلك؟
حتى قال الله تعالى في شأنهم: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23] وقال: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14] ويقول ابن القيم رحمه الله مبيناً أهمية تخليص الأعمال من الهوى، يقول في شأن القلب وحال الإنسان: ولا تتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص.
وللإنسان مع الهوى ثلاثة أحوال كما يقول أحد السلف:
الحالة الأولى: أن يغلبه الهوى، فيملكه، ولا يستطيع له خلافاً، وهو حال أكثر الخلق، وهو الذي قال الله فيه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23].
الثاني: أن يكون الحرب بينهما سجالاً، تارةً له اليد، وتارةً عليه اليد، تارةً يغلب الهوى، وتارةً يغلب الإنسان هواه.
الثالثة: أن يغلب الإنسان هواه، فيصير مستولياً عليه؛ مستولياً على هذا الهوى لا يقهره بحال من الأحوال، وهذا هو الملك الكبير والنعيم الحاضر، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من أحدٍ إلا وله شيطان) أي: يأمر بالشر، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره بالشر، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (إلا أن الله أعانني عليه فأسلم) قيل: إن هذا الشيطان أسلم أي: صار مسلماً، وقيل: المعنى: فأسلم أنا من شره، أي: حتى الشيطان للرسول صلى الله عليه وسلم أسلم، فصار الرسول صلى الله عليه وسلم لا أحد يأمره بالشر.
فإذاً هذا منتهى النعيم العظيم أن الإنسان يسيطر على هواه، فلا يدخل الهوى عليه، ولا يجد عليه سبيلاً.
ونحن في علاجنا للهوى -أيها الإخوة- يجب أن نتوجه إلى دين الله نستمد منه النور والضياء، وإلا فلو أننا تركنا لأنفسنا من أن نضع منهجاً لعلاج الهوى، فإننا لن نحل المعضلة، بل سنـزيدها تعقيداً، لذلك كان لا بد من الذهاب إلى القرآن والسنة لمعرفة المنهج الذي على أساسه نحارب الهوى ونسيطر عليه.
وقد وضع أقوامٌ من البشر مناهج يعالجون فيها الهوى، فضلوا أيما ضلال، وارتكبوا أخطاء شنيعة، ومن هؤلاء الأقوام الصوفية ومن نحا منحاهم في طريقة علاجهم للهوى، فإنهم أتوا بأشياء لم ينزل الله بها من سلطان، وابتدعوا في دين الله أشياء عجيبة، فمن ذلك أن أحدهم قال لمريد تابع له: إن أردت استخراج الهوى من نفسك، واستخراج الكبر، والاستعلاء على البشر، فعليك أن تفعل هذا الذي آمرك به، ما هو هذا الشيء؟
قال له: اذهب الساعة إلى الحجام، واحلق رأسك ولحيتك، وانزع عنك هذا اللباس، وابرز بعباءة، وعلق في عنقك حقيبة، واملأها جوزاً، واجمع حولك صبياناً، وقل بأعلى صوتك: يا صبيان! من يصفعني صفعةً فأعطيه جوزةً، وادخل إلى سوقك الذي تعظم فيه، هذا هو علاج الهوى عند هذا الرجل، حلق الرأس واللحية، ولبس الثياب البالية، ويعطي الأطفال جوزاً، ويقول: من يصفعني صفعة أعطيه جوزة.
فهذا المنهج الضال الذي لم ينزل الله به سلطاناً ليس هو المنهج الصحيح في علاج الهوى، وهذا آخر من البشر غلبه هواه فنظر إلى جارية، فلم يفعل ما يأمره الله به من التوبة والاستغفار، وإنما ماذا حصل؟
قلع عينه التي نظر بها إلى المحرم، هذا هو العلاج!! أن يقلع عينه التي نظر بها إلى المحرم، هل هذا هو العلاج الذي أمر الله به من ينظر إلى المحرمات؟!
فإذاً أيها الإخوة! الناس إذا ابتعدوا عن منهج الله، يأتون بأشياء مبتدعة غير صحيحة وهذه من جملتها، لذلك كان لا بد من التمعن في طريقة القرآن والسنة في علاج الهوى، ولما امتحن المكلف بالهوى من بين سائر البهائم، وكان كل وقت تحدث عليه الحوادث من هذا الهوى جعل فيه حاكمان: حاكم العقل، وحاكم الدين وهما لا يتناقضان، ولا يتعارضان، إذ أن الصحيح من الشرع لا يعارض الصريح من العقل مطلقاً كما دلت على ذلك قواعد القرآن والسنة، معرفة أن هذا الهوى ابتلاء من الله عز وجل مهم جداً، معرفة أن هذا الذي تميل إليه نفسك من المحرمات أنه ابتلاء يبتليك الله به حتى يعلم مدى صمودك، ومدى ثباتك، ومدى مقاومتك لنفسك في سلوك الطريق المحرم.
الاستعانة بالله عز وجل وربط القلب به سبحانه
إنه الله عز وجل، ولذلك -أيها الإخوة- كان لا بد من فتح الطريق مباشرةً بين العبد وبين ربه في استعانته بمولاه على هذا الهوى الذي يصيبه، ومن ضمن الأشياء التي يشتمل عليها هذا المنهج في الاتصال بين العبد وربه الدعاء؛ فإنه من أنفع الأمور التي تنفع العبد في التغلب على الهوى، ولذلك كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي والطبراني والحاكم عن زيد بن علاقة رضي الله عنه وهو حديث صحيح وهو في صحيح الجامع ، كان من دعائه عليه السلام: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء، والأدواء) فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أسلم شيطانه، فسلم من شره، ولم يعد أحدٌ يوسوس إليه بالشر، وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من الأهواء، فما بالنا نحن الضعفاء الذين لا يقارن حالنا بحال رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وربط القلب بالله عز وجل خوفاً وطمعاً، ورهبةً ورغبةً، والوقوف بين يدي الله تعالى من أكبر الأشياء التي تنفع في مقاومة الهوى، والدليل على ذلك قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] قال مجاهد : هو العبد يهوى المعصية، فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة، فيتركها لله: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].
إذاً من أين أتى نهي النفس عن الهوى؟ كيف حصل للإنسان أن ينهى نفسه عن الهوى؟
حصل له هذا الشيء بالخوف من الله عز وجل، لأن الله قال: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] ولذلك كان نهي النفس عن الهوى هي نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة، فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية، وهو سبب البلوى، وينبوع الشر، وقلَّ أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى.
العزيمة والخوف من الله
أولاً: عزيمة حرٍ يغار لنفسه وعليها.
والمشكلة أن قوانا تضعف وتخور أمام مواجهة الأهواء والشهوات، فلا بد من العزيمة التي تملأ النفس صموداً وثباتاً ومقاومةً لهذه الأهواء والشهوات، ولا بد من جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة، لأن امتناع الإنسان عن ولوج المعصية وقت المعصية طعمه مر، وقت حصول المعصية وأنت تواجهها لا تستطيع أن تنـزع نفسك بسهولة، بمشقة شديدة جداً، ولكن عندما تطعم نفسك هذا الصبر الذي يكون علقماً في بعض الأحيان مثل: الدواء للمريض، يكون الدواء في بعض الأحيان مراً، ولكن لا بد منه وهو علاجٌ نافعٌ، فلا بد من تناوله، فأنت حين تقاوم وتجاهد، ستشعر بمرارة فراق المعصية، ولكن إذا تجاوزت هذه المرحلة، فإن الله يعقب في نفسك حلاوةً عظيمةً تجدها في نفسك بعد انتصارك على نفسك.
لحظات المعركة يكون الوقع شديداً ليس سهلاً، لا تأتي الفرحة مباشرةً، ويأتي السرور مباشرة، لا بد من لحظات مجاهدة شديدة على النفس وشاقة وصعبة، بعد الانتصار يعقب الله في نفس العبد حلاوة الطاعة وحلاوة ترك المعصية، فالذي يصبر على العلقم في البداية يجد الحلاوة في النهاية، ولا بد من قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، ولا بد من ملاحظة حسن موقع العاقبة والشفاء بتلك الجرعة، أنت تعرف أن مقاومة الهوى ليست سهلة، تعرف أن الامتناع عن المعصية صعب، لكن أنت إذا جلست تفكر في العاقبة التي ستكون لك بعد امتناعك عن الوقوع في هذه المحرمات وفي هذه الشهوات، هذا يسهل عليك الأمر، وإذا جلست تفكر في الحلاوة التي ستجدها بعد المرارة، وفي النعيم الذي ستجده في الآخرة، سيسهل عليك الأمر، وكذلك يتفكر الإنسان أنه لم يخلق للهوى، وإنما هو لأمرٍ عظيمٍ لا يناله إلا بمعصيته للهوى كما قال الشاعر:
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت لـه فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ |
لما يفكر الإنسان أنه ما خلق من أجل أن يتبع أهواءه، وإنما خلق من أجل طاعة ربه.
هناك -أيها الإخوة- هدف عظيم، هناك من الناس من لا يختلفون مطلقاً عن الدواب، يمشي كالبهيمة يتبع شهواته وأهواءه، لما يفكر الإنسان أنه وجد على هذه الأرض لا لاتباع الهوى، وإنما لاتباع شيء آخر.
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت لـه فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ |
قد هيئوك: أنت أيها العبد المسلم قد هيئت لأمر عظيم وهو عبادة الله.
لو فطنت له: المشكلة أن أكثر الناس لا يفطنون له.
فاربأ بنفسك: ارتفع بنفسك.
أن ترعى مع هذا الهمل، ومع هذه الحيوانات التي ليس لها همٌّ إلا اتباع الهوى والشهوات.
ألا يختار لنفسه أن تكون الحيوانات أحسن منه
يأكل من هذه الأعشاب وهو يمشي إلى المنحر، وإلى المكان الذي ستزهق فيه روحه، ويذبح ويهلك فيه وهو يأكل حتى آخر لحظة من هذه الحشائش الموجودة في الأرض.
إذاً: لا نريد أن نساق إلى جهنم، ونحن قد جعلت على أعيننا غشاوة الهوى والمسكرات من المنكرات؛ لأن الشهوات والمنكرات تسكر، فلا يعيش الإنسان في حالة وعي؛ فيساق إلى جهنم، فلا يكون الحيوان أحسن حالاً من الإنسان، يجب على الإنسان أن يرتفع فوق مستوى البهائم، ولو فكر العاقل لحظة قضاء وطره وقارنها بما سيعقب بعد ذلك من الحسرة التي سيقضي فيها بقية عمره؛ لما اقترب من هذا الوطر ولو أعطي الدنيا، والطريق الأعظم في الحذر ألا يتعرض لسبب الفتنة ولا يقاربه، كم من معصية مضت في ساعتها كأنها لم تكن، ثم بقيت آثارها، ولذلك فإنه لا بد للمسلم أن يسير بقلبه في عواقب الهوى، فيتأمل كم فوتت هذه المعصية من فضيلة! وكم أوقعت في رذيلة! وكم أكلة منعت أكلات!!
الآن بعض الناس يأكلون بغير حساب؛ فيضر كثرة الأكل أجسامهم، فيذهب إلى الطبيب يشتكي، فيمنعه الطبيب من قائمة كثيرة من الأكلات، ويحدد له أكلات قصيرة، أكلات ضئيلة قليلة، يحرمه من تلك الأكلات، ما الذي منعه من هذه الأكلات الطيبات؟ إنه كان يأكل بغير نظام في الماضي، فلذلك كم من شهوةٍ كسرت جاهاً، ونكست رأساً، وأورثت ذماً، وأعقبت ذلاً، وألزمت عاراً لا يغسله الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء!!
هذه المعاصي أيها الإخوة! الله عز وجل جعل سنته في الكون أن العاصي لا بد أن يعاقب في الدنيا، فكم من شهوةٍ كسرت جاهاً بسبب هذه المعاصي، حتى أن الإنسان وأمام الناس ليس له وجه، المعصية كسرت جاهه، وأوقعته من مكانته أمام الناس، ونكست رأسه، فلا يستطيع أن يرفع رأسه أمام الناس، وأورثت له ذماً، وأعقبت له ذلاً، وألزمته عاراً لا يغسله الماء بسبب الغشاوة التي على أعين متبعي الهوى.
التأمل في العاقبة
تأمل العاقبة مهم جداً؛ لأنه هو الذي يمنعك من الوقوع في البداية، والله سبحانه وتعالى قد شبه من يتبعون أهواءهم بأخس الحيوانات وأذلها وأحقرها ألا وهو الكلب، فقال عز وجل عن الرجل الذي أعرض عن آيات الله عز وجل: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] فالرجل الذي يتبع الهوى عندما يتصور بأن حاله مثل حال الكلب، هل يا ترى يقدم على هذه الجريمة، وعلى هذه الشهوة؟! وشبههم الله تعالى مرة بالحمير، فقال: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:50-51].
أن يتأمل آيات الله عز وجل
لأن الله يقول في آية أخرى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الروم:29] وهناك قال: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] فالظالم يتبع الهوى، والظالم قد حرم من الإمامة، فمتبع الهوى قد حرم من الإمامة في الدين، فلا يمكن أن يجعله الله عز وجل إماماً يؤتم به في الدين وهو متبع للهوى، فهو ليس بأهل لأن يطاع، ولا أن يكون إماماً ولا متبوعاً في الخير.
وجعل الله متبع الهوى بمثابة عابد الوثن، فقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23] وجعل الله حظار جهنم -الشيء الذي يحوط جهنم- الهوى والشهوات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم اتباع الهوى من المهلكات، فقال: (أما المهلكات: فهوىً متبع، وشحٌ مطاع، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه).
ولو تأمل صاحب الهوى، أو الذي يأتيه الهوى ما له من العاقبة الحسنة إذا خالفه هواه، ومن النور الذي يدخله الله في قلبه، لثبت عند هذا ووقف، قال بعض السلف : الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده.
تأمل! الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده، فتح مدينة بأكملها من شخص واحد أمر عسير جداً، لكن أعسر منه أن يخالف الإنسان هواه.
وكذلك جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً، ثم يخرج إليهم.
المجاهدة والصبر على مقاومة الهوى
ولا خير فيمن إذا زجر لا ينـزجر، وإذا أمر لا يأتمر، فعلاً الآن الذين يصيبهم الرمد هذا مثل حرق العين يريد أن يحك عينه، وقد يكون الطبيب نهاه عن هذا الفعل، وأخبره إن هو حك عينه، أن المرض سينتشر وسيشتد، فماذا يفعل؟ تجد الإنسان قوي الإرادة كأنه قد ربط بحبل يقاوم يده أن تمتد إلى عينه مع أنها تحرقه جداً، لكنه يقاوم أن يمد يده إلى عينه، قد يصيب جلد الإنسان حساسية أو حبوب , فيخبره الطبيب ألا يحك جلده مطلقاً؛ لأنه إذا حكها سينتشر، ماذا يكون شعور الإنسان في تلك الحالة؟
الشخص العاقل يحس بأن هناك دافعاً قوياً لأن يحك جلده، لكنه يصبر على الحك، لأن الحك سيجعل الأمر أسوأ من ذي قبل، كذلك حال الذي يأتيه الهوى، إذا اتبع الهوى سيكون الأمر أسوأ، ولذلك هو يصبر كما يصبر هذا الرجل الذي به رمد شديد وحرقة في عينيه، فلا يحك عينه لأنه أمر بهذا، يقول عبد الملك بن قريب : فقلت لهذا الأعرابي: ألا تشتهي شيئاً؟ قال: بلى، ولكني أحتمي، عندي نظام في الحمية، الطبيب نهاني عن أكلات، يقول الأعرابي: إن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا، الله عز وجل أمرهم أن يمتنعوا عن أشياء، يتبعوا نظام الحمية من أشياء معينة، فغلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا.
قال الفضيل بن عياض في كلام على أن اتباع الهوى يحرم العبد من إصابة الحق، ومن معرفة الدليل، ومن التوفيق في أمور الدنيا والآخرة، يقول: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات، انقطعت عنه موارد التوفيق، فالذي ينغمس في الهوى لا يكاد الله يوفقه إلى خيرٍ أبداً، بل تجد بأن الطرق بينه وبين الخير مسدودة، والعوائق موجودة، لا يستطيع أن يصل إلى الخير؛ لأنه متبع للشهوات والهوى، ما اتخذ الأسباب فكيف يهديه الله؟!
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] والذين لم يجاهدوا فينا، ماذا ستكون عاقبتهم؟
وكذلك كان بعضهم يطوف في البيت، فنظر إلى امرأة جميلة، فمشى إلى جانبها، ثم قال:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بها واللذات والدين |
قال: أنا أهوى الدين، لكن اللذات التي أراها تعجبني، فكيف أجمع بين هوى اللذات وبين الدين؟ فقالت المرأة: دع أحدهما تنل الآخر، فعلاً دع الدين تنل الهوى، الإنسان عنده هذه الإرادة: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:1] طريق الخير وطريق الشر، أنت مخير، لا أحد يرغمك على سلوك أحد الطريقين، دع أحدهما تنل الآخر، وهذا ترك الهوى، الآن لحظات تمر على الإنسان يعاين فيها مواقفاً من الشهوات والهوى، فإذا هو قاوم نفسه هذه المقاومة فإن هذه المواقف في الدنيا التي يقاوم فيها الهوى لا تنسى عند الله يوم القيامة مطلقاً، في ذلك الموقف الذي تزل فيه الأقدام، والذي تدنو فيه الشمس من الخلائق، لا ينسى الله تعالى لعبده أبداً هذه المواقف التي وقفها في الدنيا.
أحدهم ترك شهوات وأهواء ولذائذ كثيرة في الدنيا محرمة من أجل الله عز وجل، فلا ينساها الله تعالى له يوم القيامة، وقال عبد الرحمن بن مهدي : رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام -بعض المنامات التي ترى للصالحين لا بأس من حكايتها، إذا لم يرد فيها مخالفات شرعية، فبعض المنامات أو الرؤى التي رآها صالحون لأناس صالحين، كان السلف رحمهم الله يدرجونها في كتبهم، ويكتبونها وينشرونها، لأنها تؤثر، الرؤيا الصالحة عاجل بشرى المؤمن- فقال عبد الرحمن بن مهدي وهو من كبار أئمة الدين: رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى، فحاسبني حساباً يسيراً، ثم أمر بي إلى الجنة، فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حساً ولا حركةً إذ سمعت قائلاً يقول: سفيان بن سعيد ؟ فقلت: سفيان بن سعيد ، فقال: تحفظ أنك آثرت الله عز وجل على هواك يوماً؟ فقلت: إي والله، فأخذني النثار من كل جانب -النثار في اللغة: هو ما يرش على العروس في ليلة العرس من الزينة، أو الذهب، أو الزهور، إلى آخر ذلك. نسأل الله تعالى أن تكون هذه من الرؤى الصالحة التي رئيت لـسفيان الثوري رحمه الله، فإنه كان من المجاهدين في الله حق جهاده في العلم والتقوى، ونال الإمامة في الدين.
يقول ابن القيم رحمه الله في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) كيف نالوا هذا الظل؟ يقول: إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وجدتهم نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى، فإن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه؛ لأن عنده من القوة والنفوذ والسيطرة ما يستطيع به بسهولة أن يتابع هواه، فلما قاوم نفسه وقاوم هواه، وحكم شرع الله تعالى، ولم يتبع شهواته، وعدل بين الرعية كان له الظل يوم أن تدنو الشمس من رءوس العباد.
والشاب المؤثر عبادة الله على داعي الشباب لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، لولا أن هذا الشاب الذي نشأ في طاعة الله خالف هواه لما نشأ في طاعة الله، والرجل الذي قلبه معلقٌ بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة هواه الداعي له إلى أماكن اللذات، خالف الهوى الذي يدعوه إلى الذهاب إلى أماكن اللذات، وصار يذهب إلى أماكن العبادة والمساجد، أعقب الله عز وجل له الأجر الجزيل بأن أظله في ظل عرشه.
والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه (هوى الرياء) وهوى أن يشاهده الناس، وأن يتحدثوا عن كرمه لم يقدر على ذلك، لو ما خالف هذا الهوى لما صار في هذا المكان يوم القيامة.
والذي دعته المرأة الشريفة الجميلة، فخاف الله عز وجل وخالف هواه، نال نفس الكرامة.
والذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشيته، إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيلاً عليهم يوم القيامة.
تأمل اللذة التي تنتج عن مخالفة الهوى
أحياناً يا إخواني! الشيطان يزين للإنسان المعصية، فيراها جميلة جداً، فينظر إلى المعاصي بعين الحسن، المفروض أن ينظر إلى المعاصي بعين الاستقباح وعين الكراهية لهذا الأمر، كما أن اللص يرى لذة أخذ المال من الحرز الذي يأخذه بكل يسر وسهوله، لكنه لا يرى بعين الفكر قطع اليد، فلذلك يسرق.
وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة، فإن استوثق منه ضابطه كفه، الهوى مثل السبع، ومثل الأسد، إذا ربطته بسلسلة قوية، ما ينفلت منك.
يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر : على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة، ومنهم من يكفه بخيط.
أنه إذا جاءك الهوى فخالفه
مثلاً: الإنسان موقفه من الأحكام الشرعية يحتار هل هذا هو الصحيح، أم هذا هو الصحيح؟ أحياناً يكون الإنسان صادقاً ومخلصاً ويريد أن يصل إلى الحق، فيحتار ما هو الحل؟ فمن ضمن الأشياء التي ترجح قولاً على آخر أن ينظر الإنسان ويدقق ويفتش في نفسه، فينظر أي القولين أقرب إلى هواه فيخالفه ويأخذ الآخر، لماذا؟
لأن النفس في العادة تميل إلى المحرمات، وتميل إلى الخطأ، تميل إلى الأسهل، تميل إلى ما يشبع رغبتها، تميل إلى الحكم الذي لا يكلف الإنسان عناءً ولا مشقةً، لذلك ترى كثيراً من الناس يتبعون أهواءهم في الأحكام الفقهية، فيأخذ الحكم الذي لا يكلفه، لنفترض أن رجلاً من الناس قد وقف أمام حكمين في مسألة فقهية لم يستطع أن يرجح أحدهما على الآخر، فما هي أحد المرجحات التي يستطيع أن يستخدمها؟
أن ينظر نفسه إلى أي قول من هذه الأقوال تميل، فينظر القول الذي تلين له نفسه، ثم يتركه ويأخذ الآخر، إذا اشتبه عليك أمران، فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه.
أحياناً في بعض التصرفات الإنسان قد يشتبه عليه أكلة من الأكلات، هل هذه الأكلة فيها شيء محرم، أم ليس فيها شيء محرم؟ وليس عنده دليل يقطع فيها بأنها محرمة، فهل يأكل، أو لا يأكل؟
ينظر ماذا تميل إليه نفسه، غالباً يجد أن نفسه تميل إلى الأكل، فإذاً يخالف الهوى ولا يأكل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا الشبهات) وغالباً ما تهوى النفس الوقوع في الشبهات، فلذلك لا بد من المخالفة، وهذا من أكبر العلاجات، ويقول ابن الجوزي رحمه الله: تأملت أمراً عجيباً وهو انهيال الابتلاء على المؤمن، وعرض صور اللذات عليه مع قدرته على فعلها، فقلت: سبحان الله! هاهنا يتبين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين، عندما تقف أمام الهوى أو الشهوة.
كما أرجو -أيها الإخوة- عندما أذكر في كلامي الشهوة، لا يعني شهوة الجنس فقط، لا فقد تكون شهوة المال، وقد تكون شهوة الوقوع في الغيبة والنميمة، وقد تكون شهوة الجور في الحكم بين الأولاد، أو بين الناس، أشياء كثيرة كلها شهوات في الحقيقة، شهوة الجاه والمنصب.
أقول: سبحان الله! هاهنا يبين أثر الإيمان فعلاً عند الوقوف أمام المحك، أمام المنعطف، هنا يبين أثر الإيمان، لا يبين في صلاة ركعتين مثلما يبين في هذا الموقف، والله ما صعد يوسف عليه السلام ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام، تأملوا حاله لو كان وافق هواه، فعلاً، تأمل حال يوسف وفكر لما دعته امرأة العزيز وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23] يوسف الآن أمام هذا الموقف، امرأة جميلة وصاحبة منصب وهي سيدة، وهو عبدٌ, وهو غريبٌ عن بلده وشابٌ، وهو أعزبٌ، وقد غلقت الأبواب، وغاب الرقيب، وسيدها ليس له غيرة، لأنه قال بعد ذلك: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يوسف:29] ليس للسيد غيرة، وليس هناك أحدٌ يشاهد، واجتمعت دواعي وقوع الفاحشة أمام يوسف عليه السلام مما لا يجتمع مثله بين رجل وامرأة قط، لما حدث هذا الأمر تأمل لو أن يوسف عليه السلام وافق هواه ووقع على تلك المرأة، هل سيصبح نبياً صديقاً؟! ولكن وقوف يوسف عليه السلام في تلك المحنة أمام شهوته هو الذي أوصله إلى ذلك المقام: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].. قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23].
ولذلك كان سؤال الله الصراط المستقيم في الصلاة أكثر من مرة دائماً: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فيه تذكير للإنسان بألا يتبع الهوى، ويسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم: الطريق المستقيم لا طريق الهوى.
أيها الإخوة: أول ما يحتاج الإنسان في معالجته الاستعانة بمولاه على هذا الأمر، من هو مولانا الذي نستعين به على الشدائد وعلى الأهواء التي نكابدها ونلاقيها؟
إنه الله عز وجل، ولذلك -أيها الإخوة- كان لا بد من فتح الطريق مباشرةً بين العبد وبين ربه في استعانته بمولاه على هذا الهوى الذي يصيبه، ومن ضمن الأشياء التي يشتمل عليها هذا المنهج في الاتصال بين العبد وربه الدعاء؛ فإنه من أنفع الأمور التي تنفع العبد في التغلب على الهوى، ولذلك كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي والطبراني والحاكم عن زيد بن علاقة رضي الله عنه وهو حديث صحيح وهو في صحيح الجامع ، كان من دعائه عليه السلام: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء، والأدواء) فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أسلم شيطانه، فسلم من شره، ولم يعد أحدٌ يوسوس إليه بالشر، وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من الأهواء، فما بالنا نحن الضعفاء الذين لا يقارن حالنا بحال رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وربط القلب بالله عز وجل خوفاً وطمعاً، ورهبةً ورغبةً، والوقوف بين يدي الله تعالى من أكبر الأشياء التي تنفع في مقاومة الهوى، والدليل على ذلك قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] قال مجاهد : هو العبد يهوى المعصية، فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة، فيتركها لله: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].
إذاً من أين أتى نهي النفس عن الهوى؟ كيف حصل للإنسان أن ينهى نفسه عن الهوى؟
حصل له هذا الشيء بالخوف من الله عز وجل، لأن الله قال: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] ولذلك كان نهي النفس عن الهوى هي نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة، فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية، وهو سبب البلوى، وينبوع الشر، وقلَّ أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى.
خوف الإنسان من الله عز وجل، خوفه من عقاب الله في الدنيا، ومن عذاب الله في الآخرة هو الوسيلة حقيقةً لأن ينهى الإنسان نفسه عن الهوى، وقد عقد العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى عليه في كتابه: روضة المحبين ، فصلاً في آخر الكتاب ذكر فيه أموراً كثيرةً من الأشياء التي تعين على مقاومة الهوى، ولخص بعضها من كتاب: ذم الهوى لـابن الجوزي رحمه الله تعالى، فقال: ويمكن التخلص منه بأمور بعون الله وتوفيقه:
أولاً: عزيمة حرٍ يغار لنفسه وعليها.
والمشكلة أن قوانا تضعف وتخور أمام مواجهة الأهواء والشهوات، فلا بد من العزيمة التي تملأ النفس صموداً وثباتاً ومقاومةً لهذه الأهواء والشهوات، ولا بد من جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة، لأن امتناع الإنسان عن ولوج المعصية وقت المعصية طعمه مر، وقت حصول المعصية وأنت تواجهها لا تستطيع أن تنـزع نفسك بسهولة، بمشقة شديدة جداً، ولكن عندما تطعم نفسك هذا الصبر الذي يكون علقماً في بعض الأحيان مثل: الدواء للمريض، يكون الدواء في بعض الأحيان مراً، ولكن لا بد منه وهو علاجٌ نافعٌ، فلا بد من تناوله، فأنت حين تقاوم وتجاهد، ستشعر بمرارة فراق المعصية، ولكن إذا تجاوزت هذه المرحلة، فإن الله يعقب في نفسك حلاوةً عظيمةً تجدها في نفسك بعد انتصارك على نفسك.
لحظات المعركة يكون الوقع شديداً ليس سهلاً، لا تأتي الفرحة مباشرةً، ويأتي السرور مباشرة، لا بد من لحظات مجاهدة شديدة على النفس وشاقة وصعبة، بعد الانتصار يعقب الله في نفس العبد حلاوة الطاعة وحلاوة ترك المعصية، فالذي يصبر على العلقم في البداية يجد الحلاوة في النهاية، ولا بد من قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، ولا بد من ملاحظة حسن موقع العاقبة والشفاء بتلك الجرعة، أنت تعرف أن مقاومة الهوى ليست سهلة، تعرف أن الامتناع عن المعصية صعب، لكن أنت إذا جلست تفكر في العاقبة التي ستكون لك بعد امتناعك عن الوقوع في هذه المحرمات وفي هذه الشهوات، هذا يسهل عليك الأمر، وإذا جلست تفكر في الحلاوة التي ستجدها بعد المرارة، وفي النعيم الذي ستجده في الآخرة، سيسهل عليك الأمر، وكذلك يتفكر الإنسان أنه لم يخلق للهوى، وإنما هو لأمرٍ عظيمٍ لا يناله إلا بمعصيته للهوى كما قال الشاعر:
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت لـه فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ |
لما يفكر الإنسان أنه ما خلق من أجل أن يتبع أهواءه، وإنما خلق من أجل طاعة ربه.
هناك -أيها الإخوة- هدف عظيم، هناك من الناس من لا يختلفون مطلقاً عن الدواب، يمشي كالبهيمة يتبع شهواته وأهواءه، لما يفكر الإنسان أنه وجد على هذه الأرض لا لاتباع الهوى، وإنما لاتباع شيء آخر.
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت لـه فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ |
قد هيئوك: أنت أيها العبد المسلم قد هيئت لأمر عظيم وهو عبادة الله.
لو فطنت له: المشكلة أن أكثر الناس لا يفطنون له.
فاربأ بنفسك: ارتفع بنفسك.
أن ترعى مع هذا الهمل، ومع هذه الحيوانات التي ليس لها همٌّ إلا اتباع الهوى والشهوات.
وكذلك ألا يختار لنفسه أن يكون الحيوان أحسن حالاً منه، ولهذا تساق الحيوانات إلى منحرها وهي منهمكة في شهواتها، أنت الآن عندما تنظر إلى حال رعاة الغنم تجد أنهم يسوقون القطعان إلى المنحر وإلى المجزرة، القطيع وهو يمشي على الأرض إلى المنحر، ويكون في الطريق أعشاب ماذا يحدث؟
يأكل من هذه الأعشاب وهو يمشي إلى المنحر، وإلى المكان الذي ستزهق فيه روحه، ويذبح ويهلك فيه وهو يأكل حتى آخر لحظة من هذه الحشائش الموجودة في الأرض.
إذاً: لا نريد أن نساق إلى جهنم، ونحن قد جعلت على أعيننا غشاوة الهوى والمسكرات من المنكرات؛ لأن الشهوات والمنكرات تسكر، فلا يعيش الإنسان في حالة وعي؛ فيساق إلى جهنم، فلا يكون الحيوان أحسن حالاً من الإنسان، يجب على الإنسان أن يرتفع فوق مستوى البهائم، ولو فكر العاقل لحظة قضاء وطره وقارنها بما سيعقب بعد ذلك من الحسرة التي سيقضي فيها بقية عمره؛ لما اقترب من هذا الوطر ولو أعطي الدنيا، والطريق الأعظم في الحذر ألا يتعرض لسبب الفتنة ولا يقاربه، كم من معصية مضت في ساعتها كأنها لم تكن، ثم بقيت آثارها، ولذلك فإنه لا بد للمسلم أن يسير بقلبه في عواقب الهوى، فيتأمل كم فوتت هذه المعصية من فضيلة! وكم أوقعت في رذيلة! وكم أكلة منعت أكلات!!
الآن بعض الناس يأكلون بغير حساب؛ فيضر كثرة الأكل أجسامهم، فيذهب إلى الطبيب يشتكي، فيمنعه الطبيب من قائمة كثيرة من الأكلات، ويحدد له أكلات قصيرة، أكلات ضئيلة قليلة، يحرمه من تلك الأكلات، ما الذي منعه من هذه الأكلات الطيبات؟ إنه كان يأكل بغير نظام في الماضي، فلذلك كم من شهوةٍ كسرت جاهاً، ونكست رأساً، وأورثت ذماً، وأعقبت ذلاً، وألزمت عاراً لا يغسله الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء!!
هذه المعاصي أيها الإخوة! الله عز وجل جعل سنته في الكون أن العاصي لا بد أن يعاقب في الدنيا، فكم من شهوةٍ كسرت جاهاً بسبب هذه المعاصي، حتى أن الإنسان وأمام الناس ليس له وجه، المعصية كسرت جاهه، وأوقعته من مكانته أمام الناس، ونكست رأسه، فلا يستطيع أن يرفع رأسه أمام الناس، وأورثت له ذماً، وأعقبت له ذلاً، وألزمته عاراً لا يغسله الماء بسبب الغشاوة التي على أعين متبعي الهوى.
استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اقتضاء العلم العمل | 3615 استماع |
التوسم والفراسة | 3614 استماع |
مجزرة بيت حانون | 3544 استماع |
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] | 3500 استماع |
اليهودية والإرهابي | 3429 استماع |
إن أكرمكم عند الله أتقاكم | 3429 استماع |
حتى يستجاب لك | 3396 استماع |
المحفزات إلى عمل الخيرات | 3376 استماع |
ازدد فقهاً بفروض الشريعة | 3350 استماع |
الزينة والجمال | 3340 استماع |