شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [6]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها، ومطلقته ثلاثًا حتى يطأها زوج غيره، والمحرمة حتى تحل.

ولا ينكح كافر مسلمة، ولا مسلم ولو عبدًا كافرة إلا حرة كتابية، ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة، إلا أن يخاف عنت العزوبة لحاجة المتعة أو الخدمة، ويعجز عن طول حرة أو ثمن أمة، ولا ينكح عبد سيدته، ولا سيد أمته، وللحر نكاح أمة أبيه دون أمة ابنه، وليس للحرة نكاح عبد ولدها.

وإن اشترى أحد الزوجين أو ولده الحر أو مكاتبه الزوج الآخر أو بعضه انفسخ نكاحهما، ومن حرم وطؤها بعقد، حرم بملك يمين إلا أمةً كتابية]

تقدم لنا المحرمات للأبد، وأنهن خمسة أنواع، وتقدم ما يتعلق بهذه الأنواع، ثم شرعنا في المحرمات إلى أمد، يعني: المحرمات إلى غير التأبيد، وأن المحرمات إلى أمد على سبيل التأقيت ينقسمن إلى نوعين:

النوع الأول: ما كان التحريم بسبب الجمع، وهذا بينه الله عز وجل في كتابه، والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فلا يجمع بين الأختين، ولا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها.

والنوع الثاني: التحريم بسبب عارضٍ ثم يزول، وهذا ما شرعنا فيه، وذكرنا من هذه العوارض: العدة، فلا يجوز نكاح المعتدة حتى تنتهي عدتها، وذكرنا ما يتعلق بالعدة، وأن العدة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: عدة للمتزوج، والقسم الثاني: عدة لغيره، وكذلك ما يتعلق بالمستبرأة، ثم شرعنا في الزانية، وأن للعلماء رحمهم الله في نكاحها رأيان:

الرأي الأول: أن نكاح الزانية لا يجوز، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وبينا دليله فيما تقدم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم .

والرأي الثاني: أن نكاح الزانية جائز، وهذا ما قال به أكثر أهل العلم، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) ولم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زوجها أن يعتزلها، قالوا: فدل ذلك على أن نكاح الزانية جائز، واستدلوا أيضًا على ذلك بقصة المتلاعنين ولم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزوج أن يعتزل زوجته، ولأن الأصل الحل إلى آخره.

لكن الصواب في ذلك: هو ما ذهب إليه الحنابلة، وأن نكاح الزانية لا يجوز.

قال رحمه الله: (حتى تتوب وتنقضي عدتها).

لأن التحريم لعارض، وهو وجود الزنا وفعل الفاحشة منه، فإذا تابت وصارت عفيفةً جاز الزواج منها، لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وعفا الله عما سلف، وللعلماء رحمهم الله في تفسير توبة الزانية قولان:

القول الأول: أن توبتها أن تراود فتمتنع، يعني: أن يراودها ثقة ويطلب منها فعل الفاحشة فتمتنع، فإذا حصل ذلك فهذا دليل على أنها قد تابت، وقالوا: بأن هذا ما قاله عن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

والرأي الثاني: أن توبتها كغيرها، وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهذا القول هو الصواب، يعني: أن تقلع عن الذنب وأن تندم وأن تعزم ألا تعود إلى آخره، وهذا القول هو الصواب؛ لعموم أدلة التوبة، وأما القول بأنها تراود فتمتنع، فهذا فعل للمنكر، فكيف يقال به؟! ولأنه قد تحصل المراودة فيوقع الشيطان بينهما شرًا، وخصوصًا أنها قريبة عهدٍ بهذا الذنب.

وعلى هذا نقول: الصحيح في هذه المسألة أن توبة الزانية كغيرها، وأن توبتها: الندم والإقلاع والعزم على عدم العود، وأن تكون التوبة خالصة لله عز وجل، فإذا توفرت هذه الشروط، فنقول بأنها تابت، ويعرف ذلك بسبر سيرتها وصلاح حالها، أما القول بأنها تراود إلى آخره فهذا القول فيه نظر، وما ورد عن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهذا إما أنه غير ثابت عنهما رضي الله تعالى عنهما، وإما أنه حادثة عين، وحادثة العين اقتضت مثل هذا الشيء.

وظاهر كلام المؤلف في قوله: (والزانية حتى تتوب) أن الزاني لا يأخذ هذا الحكم، وأنه يجوز تزويج الرجل إذا كان يقترف الفاحشة ولم يتب منها، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله.

والرأي الثاني في هذه المسألة هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وهو: أنه لا فرق بين الزاني والزانية، وأن كلًا من الزاني والزانية لا يجوز تزويجه حتى يتوب، وهذا القول هو الصواب في هذه المسألة، والدليل الوارد في ذلك دليل واحد وهو قوله: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] فالصحيح أنه إذا كان يقترف الفواحش، فلا يصح أن يزوج حتى يتوب.

قال رحمه الله: (ومطلقته ثلاثًا حتى يطأها زوج غيره).

وهذه أيضًا من المحرمات لعارض، أي: إذا طلق زوجته آخر الطلقات الثلاث، فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، ويدل لذلك قول الله عز وجل: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] ، ولكي تحل المطلقة ثلاثًا لزوجها الأول لا بد من شروط:

الشرط الأول: أن ينكحها غير زوجها نكاح رغبة لا نكاح تحليل، فإن كان نكاح تحليل فإنها لا تحل لزوجها الأول؛ لأنه زواج التحليل وجوده كعدمه، لا تحل به الزوجة لزوجها الأول.

الشرط الثاني: الدخول بهذه المرأة، وأنه لا يكفي العقد، ويدل لذلك حديث امرأة رفاعة وأنها طلقت آخر الطلقات الثلاث، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير ، فأرادت أن ترجع إلى رفاعة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) ، فدل ذلك على أنه لا بد من حقيقة الوطء، وأنه لا يكتفى بالعقد، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم.

والرأي الثاني: أنه يكتفى بالعقد، وقال به سعيد بن المسيب ، واستدل بقوله: حَتَّى تَنكِحَ [البقرة:230] وهنا قد نكحت، لكن الصواب أن المراد بالنكاح هنا الوطء؛ لوجود الدليل على ذلك من السنة، فقوله: حَتَّى تَنكِحَ [البقرة:230]، المراد به الوطء.

وأما الإنزال فليس شرطًا؛ لأن ذوق العسيلة يحصل بإيلاج الحشفة، فإذا حصل إيلاج الحشفة حصل ذوق العسيلة.

الشرط الثالث: الانتشار، فيشترط انتشار الذكر؛ لأنه لا يحصل ذوق العسيلة بلا انتشار.

الشرط الرابع: أن يكون العقد صحيحًا.

قال رحمه الله: (والمحرمة حتى تحل).

هذه أيضًا من المحرمات لعارض وهو عارض الإحرام، فإنها محرمة حتى تحل، ويدل لذلك حديث عثمان رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح المحرمة أو ينكح المحرم ) ، وعندنا ثلاثة لا يصح عقدهم إذا كان أحدهما محرمًا: الزوج والزوجة والولي، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم، ودليل ذلك ما تقدم عن عثمان رضي الله تعالى عنه.

والرأي الثاني رأي الحنفية، يقولون: يصح نكاح المحرم، واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم ) وهذا الحديث أجاب عنه العلماء رحمهم الله بأجوبة كثيرة، منها: أن صاحب القصة ميمونة ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، وأبو رافع وهو السفير بينهما قد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، وبأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يعلم بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة حتى أحرم، فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم، وبأن قوله: ( تزوج ميمونة وهو محرم ) يعني: في الحرم.

وعلى كل حال؛ فالصواب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى، وأنه لا يجوز تزوج المحرمة أو المحرم حتى يحل من إحرامه.

فإن كان معتمرًا فحتى يحل من إحرام العمرة، وإن كان حاجًا فأكثر أهل العلم على أنه لا بد من التحلل الثاني، وأنه لا يكتفى بالتحلل الأول، والرأي الثاني اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أنه إذا حصل التحلل الأول كفى، لكن الأحوط في هذه المسألة أنه لا يتزوج حتى يحل من إحرامه التحلل كاملًا، يعني: حتى يحل التحلل الثاني، فيفعل الحلق والرمي والطواف مع السعي، فإذا تمت هذه الأشياء حل له كل شيء حتى النساء.

وأما أن يخطب المحرم، أو أن تخطب المحرمة، فالمشهور من المذهب أن ذلك مكروه، والصواب أنه محرم؛ لأن الخطبة وسيلة إلى النكاح المحرم، والوسائل لها أحكام المقاصد.

قال رحمه الله: (ولا ينكح كافر مسلمة).

هذا أيضًا التحريم لعارض وهو عارض الكفر، فالكافر لا يجوز له أن يتزوج مسلمةً حتى ولو كانت أمةً وهو حر، فإن الكافر ليس كفئاً للمسلمة، ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221] ، ويدل لذلك أيضًا قول الله عز وجل: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10] في المؤمنة بالنسبة للكافر، فكذلك أيضًا في الكافر بالنسبة للمسلمة.

قال رحمه الله: (ولا مسلم ولو عبدًا كافرةً) أي: أن المسلم ليس له أن يتزوج الكافرة، إلا ما يستثنى كما سيأتينا إن شاء الله، ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221]، ويقول سبحانه وتعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة:10] ، حتى ولو كان رقيقًا وتزوج حرةً فهو محرم ولا يجوز.

قال رحمه الله: (إلا حرةً كتابية).

استثنى المؤلف رحمه الله، الكتابية، فلا بأس للمسلم أن يتزوجها، وهي: النصرانية أو اليهودية بالشروط التي سنذكرها، ويدل لذلك قول الله عز وجل: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5]، وقد ذكر المؤلف الشروط فقال: (إلا حرة كتابية) وهذا هو الشرط الأول: أن تكون حرة، وهو ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله خلافًا لـأبي حنيفة رحمه الله تعالى، ويدل لذلك قول الله عز وجل: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25] فدل ذلك على أن الأمة الكتابية لا يجوز أن يتزوجها، ولأن المسلم لا يجوز له أن يتزوج الأمة المسلمة إلا بشروط، فالأمة الكتابية من باب أولى.

إذاً: الشرط الأول: أن تكون هذه الكتابية حرة، فإن كانت أمةً فإنه لا يصح العقد عليها بالنكاح، لكن له أن يطأها بملك اليمين.

وخالف في ذلك أبو حنيفة رحمه الله تعالى، فقال: يصح أن يعقد على الأمة الكتابية؛ لعموم قول الله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] ، لكن الصواب في هذه المسألة ما عليه أكثر أهل العلم.

قال رحمه الله: (كتابية).

وهذا هو الشرط الثاني: أن تكون كتابيةً، يعني: تدين بدين أهل الكتاب، بدين اليهود أو بدين النصارى، وهل يشترط أن تدين بالدين الخالص؟ يعني: إن كانت يهودية تدين بالدين الذي جاء به موسى عليه السلام، وإن كانت نصرانية تدين بالدين الذي جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام، هل هذا شرط أو ليس شرطًا؟ بعض السلف ذهب إلى ذلك، والرأي الثاني: أن هذا ليس شرطًا؛ لأن الله سبحانه وتعالى أباح نساءهم وذبائحهم، مع أنه ذكر عنهم أنهم يشركون بالله فقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] ، وقال: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] ومع ذلك أباح الله نساءهم وذبائحهم، والصواب في ذلك أنه لا يشترط، حتى لو كان عندها بعض الأخطاء في دينها إلى آخره فيجوز أن تنكح، لكن إذا كانت ملحدة كما يوجد اليوم كثير منهن أو كانت لا دين لها، وإن كانت تسمي نفسها نصرانية أو يهودية، ولكن لا تؤدي شيئًا من الشعائر، فهذه مرتدة فإذًا لا يجوز نكاحها، وهي مثل المجوسية والوثنية لا يجوز نكاحها، لكن إذا كانت تعتقد أنها نصرانية أو أنها يهودية وتؤدي شيئًا من الشعائر فهذه يجوز نكاحها، أما إذا كانت ملحدة ومرتدة لا ترى الأديان ولا تطبق شيئًا من تعاليم الدين ونحو ذلك، فهذه لا يجوز نكاحها.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (كتابية) أنه لا يشترط أن يكون أبواها كتابيين، وهذا هو الشرط الثالث، والمشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب الشافعي أنه يشترط أن يكون أبواها كتابيين، فإن كان أبواها غير كتابيين فلا تنكح؛ لأنه إذا كان أبواها غير كتابيين لم تكن متمحضة دين أهل الكتاب.

والرأي الثاني رأي الحنفية: أنه لا يشترط؛ لأن الله سبحانه وتعالى علق الأمر بالدين، ولم يعلقه بالأنساب فقال: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة:5] فما دام أن هذه المرأة كتابية فيجوز نكاحها حتى ولو كان أبوها غير كتابي بأن كان مجوسياً أو كانت أمها مجوسية، أو كان أبوها وثنياً أو مرتداً إلى آخره، وهذا هو الصواب.

الشرط الرابع: أن تكون عفيفة، فإن كانت غير عفيفة فهذه لا يجوز نكاحها، وتقدم لنا أن المسلمة إذا كانت غير عفيفة فلا يجوز نكاحها، فمن باب أولى إذا كانت الكتابية غير عفيفة، فإنه لا يجوز نكاحها.

قال رحمه الله: (ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة، إلا أن يخاف عنت العزوبة لحاجة المتعة أو الخدمة).

وهذا أيضًا من المحرمات لعارض الرق، فالحر المسلم ليس له أن يتزوج الرقيقة، إلا بشرطين ذكرهما الله عز وجل، في قوله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25] ثم قال بعد ذلك: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25]، فدل ذلك على أن الحر ليس له أن يتزوج الأمة، إلا بهذين الشرطين:

الشرط الأول في قوله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [النساء:25]، وهو: ألا يستطيع مهر الحرة.

والشرط الثاني في قوله: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25]، والعنت: عنت العزوبة، يعني: أنه مشقة العزوبة، والعزوبة: هو الانفراد عن الزوج، يعني أنه يحتاج إلى المرأة للخدمة أو للمتعة ونحو ذلك، فإذا توفر الشرطان جاز أن يتزوج الأمة.

وهذا ما عليه أكثر أهل العلم رحمهم الله تعالى أنه لا بد لكي يتزوج الحر أمةً من توفر هذين الشرطين.

الرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أنه يجوز للحر أن يتزوج الأمة بشرط: ألا يكون تحته حرة، حتى ولو كان موسرًا، والصواب في هذه المسألة ما عليه جمهور أهل العلم، والقرآن صريح في ذلك في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25] وقوله: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25].

أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيقول: إذا اشترط أن يكون أولاده أحراراً فله أن يتزوج الأمة؛ لأنه إنما منع من زواج الأمة لأن أولاده سيكونون أرقاء لسيد الأمة حيث إنهم يتبعون أمهم في الرق، قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا تزوج الحر رقيقة رق نصفه؛ لأن أولاده سيكونون أرقاء، فإذا اشترط وقال: أشترط أن يكون أولادي أحراراً، زال المحذور.

ومع ذلك نقول: ينبغي أن نقف مع القرآن، والقرآن واضح أنه لا بد من هذين الشرطين، حتى ولو اشترط أن يكون أولاده أحرارًا، فلا يجوز إلا توفر الشرطان: أن لا يجد مهر الحرة، وأن يخاف عنت العزوبة.

قال رحمه الله: (أو ثمن أمة).

هذا شرط أضافه المؤلف، فلو أن مهر الحرة ألف ريال، وثمن الأمة خمسمائة، وهو لا يجد ألفاً لكنه يجد خمسمائة، فالمؤلف يقول له: اشتر أمة، ولا يوجد حاجة إلى أن تتزوج، وبذا يزول عنك عنت العزوبة والمشقة، وحتى لا يكون أولادك أرقاء؛ لأن أولادك عندما تشتريها سيكونون تابعين لك أنت، وهي ستصير أم ولد وأولادك منها أحرار، فالمؤلف يقول: إذا كان يجد ثمن الأمة فلا يجوز أن يتزوج، والمذهب على عدم وجود هذا الشرط.

والحقيقة أن ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله قوي، لأن الشريعة ما تفرق بين المتماثلات، وما دام أنه قد وجد ثمن الأمة فلا حاجة إلى أن يعقد عليها.

قال رحمه الله: (ولا ينكح عبد سيدته).

وهذا قد حكي الإجماع عليه، فلا ينكح العبد سيدته؛ لأن المرأة سيدة له، وإذا تزوجها سيكون سيدًا؛ لها لأن الزوج سيد، والله عز وجل يقول: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف:25] فسمى الله عز وجل الزوج: سيدًا، فنقول: الرقيق ليس له أن يتزوج سيدته، إلا أن تعتقه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع صفية حيث أعتقها ثم تزوجها.

قال رحمه الله: (ولا سيد أمته).

يعني أن السيد ليس له أن يتزوج أمته؛ لأنه يملك منفعة البضع بالوطء بالملك، ولا حاجة إلى عقد النكاح، ويدل لهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، حين أعتق صفية وجعل عتقها صداقها، فدل ذلك على أن السيد ليس له أن يتزوج أمته، لكن إذا أراد أن يتزوجها، فنقول له: اصنع كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، أعتقها ثم تزوجها.

قال رحمه الله: (وللحر نكاح أمة أبيه).

أي أن الحر له أن يتزوج أمة أبيه، فلو فرض أن رجلًا لأبيه أمة فله أن يتزوج هذه الأمة، لكن بالشروط السابقة؛ لأن الحر ليس له أن يتزوج الأمة إلا إذا عجز عن طول الحرة وخشي عنت العزوبة، فإذا توفر الشرطان فللحر أن يتزوج أمة أبيه، لكن بشرط: ألا يكون الأب قد وطئها، فإن كان الأب قد وطئها حرمت عليه إلى يوم القيامة؛ لأنه لا يجتمع ماء الرجل وماء ابنه في رحم امرأة واحدة، وهذا نظيره قوله تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22] .

قال رحمه الله: (دون أمة ابنه) يعني: لو كان لابنك أمة، فليس لك أن تتزوج أمة ابنك؛ لأن الولد وما ملك لأبيه، قال صلى الله عليه وسلم: ( أنت ومالك لأبيك ) فما دام أنه يتملكها، فلا يملك أن يعقد عليها.

وقال بعض العلماء: بل له أن يتزوج أمة ابنه؛ لأن الأصل في ذلك الحل، وهذا قول الحنفية، وقد لا يرغب أن يتملك، بل يرغب أن يتزوج، والذي يظهر -والله أعلم- أن ما ذهب إليه الحنفية أقوى، بشرط: ألا يطأها الابن كما قلنا في الأب، فللأب أن يتزوج أمة ابنه إذا قلنا بالصحة بشرط: ألا يكون الابن قد وطئها، فإن كان الابن قد وطئها فلا يجوز، حتى لا يجتمع ماء الأب وابنه في رحم امرأة.

قال رحمه الله تعالى: (وليس للحرة نكاح عبد ولدها).

تقدم لنا أن الحرة، لا تتزوج رقيقها بل تعتقه ثم تتزوجه إن شاءت، وهذه مسألة أخرى وهي أنه لا يجوز للحرة أن تتزوج رقيق ولدها والعلة هي أن الولد لو ملك زوج أمه انفسخ النكاح.. كما لو أن هذه الحرة تزوجت رقيقًا ثم جاء الولد واشترى زوج أمه فإن النكاح ينفسخ ولا يصح فكذلك هنا: ليس لها أن تتزوج رقيق ولدها؛ لأن الولد مالك للزوج، وإذا كان ملك الولد لزوج أمه يفسخ النكاح، فهنا من باب أولى، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

والرأي الثاني في هذه المسألة: أن لها أن تتزوج رقيق ولدها، وأما التعليل بأن الولد إذا ملك زوج أمه انفسخ النكاح، فهذا تعليل عليل لا دليل عليه، والأصل بقاء النكاح.

قال رحمه الله: (وإن اشترى أحد الزوجين أو ولده الحر أو مكاتبه الزوج الآخر أو بعضه انفسخ نكاحهما).

أما قوله: إذا اشترى أحد الزوجين الزوج الآخر، فهذا واضح -كما تقدم- أن السيد ليس له أن يتزوج أمته بل يعتقها ثم يتزوجها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع صفية ، وكذلك لو أن الزوج اشترى زوجته فأصبحت أمةً له فإن العقد ينفسخ، يعني: لو أن رجلاً حراً تزوج أمةً بالشرطين السابقين، ثم أغناه الله عز وجل فاشترى زوجته، فأصبحت أمةً له فإن عقد النكاح ينفسخ؛ لما تقدم أن السيد ليس له أن يتزوج أمته.

ومثله أيضًا: لو أن امرأةً تزوجت رقيقًا ثم ذهبت واشترته، فأصبح ملكًا لها، فليس لها أن تتزوجه؛ لما تقدم أن الحرة ليس لها أن تتزوج رقيقها، فكذلك أيضًا إذا اشترته فإن العقد ينفسخ وهذا واضح.

وقوله: (أو ولده الحر) قد تقدم الكلام على هذه المسألة، وذكرنا أن المذهب أنه لو ملك ولد أحد الزوجين الزوج الآخر انفسخ النكاح، لكن قلنا: هذا ليس مسلمًا، فلو أن امرأة رقيقة تزوجت حرًا، فاشترى ولد الزوج زوجة أبيه الأمه، فالعقد ينفسخ، لكن هذا ليس عليه دليل، والأصل بقاء النكاح.

والصحيح: أنه إذا ملك ولد أحد الزوجين الزوج الآخر، فإن العقد لا يزال باقيًا، كما تقدم أنه يجوز للحرة أن تتزوج رقيق ولدها.

قال رحمه الله: (أو مكاتبه).

يعني: مكاتب أحد الزوجين؛ لأن المكاتب رقيق ما بقي عليه درهم، والمكاتب: هو الذي اشترى نفسه من سيده.

فلو فرضنا أن امرأة حرة تزوجت رقيقًا، وهذه المرأة الحرة لها مكاتب، فجاء المكاتب واشترى زوج سيدته، فإن النكاح ينفسخ؛ لأن المكاتب رقيق ما بقي عليه درهم، فكأن المشتري هي السيدة؛ لأن الرقيق وما ملك لسيده، ولو أن هذا المكاتب عجز نفسه، فإن ماله سيكون لسيدته، فكأن المشتري هو السيدة.

وكذلك إذا اشترى مكاتب الولد الزوج الآخر، فإن النكاح على المذهب ينفسخ؛ لأنهم يرون أن الولد إذا ملك الزوج الآخر انفسخ، وكذلك مكاتبه إذا ملك الزوج الآخر فإن النكاح ينفسخ، والصواب في ذلك: أن الولد إذا ملك أحد الزوجين لا ينفسخ، وكذلك أيضًا مكاتبه لا ينفسخ.

قال رحمه الله: (أو بعضه انفسخ نكاحهما).

يعني: لو أنه ملك بعض زوجته، أو الزوجة ملكت بعض زوجها، ينفسخ النكاح.

قال رحمه الله: (ومن حرم وطؤها بعقدٍ حرم بملك يمينٍ).

هذا الضابط إلى هنا صحيح، ومثاله المعتدة يحرم أن تعقد عليها، فلو اشتريتها حرم أن تطأها، والمحرمة يحرم أن تعقد عليها، وأن تطأها بملك اليمين، والزانية يحرم أن تعقد عليها، فلو اشتريتها فليس لك أن تطأها بملك اليمين حتى تتوب.

قال رحمه الله: (إلا أمةً كتابية).

أي: الأمة الكتابية يحرم أن تطأها بالعقد، ويجوز لك أن تطأها بملك اليمين، فلا يجوز لك أن تتزوجها؛ لأنه يشترط لكي تتزوجها أن تكون حرةً، لكن لك أن تطأها بملك اليمين.

ويؤخذ من كلام المؤلف: أن الأمة غير الكتابية مثل: الوثنية، أو المجوسية، أو الدهرية، التي ليست كتابيةً، أنها لا توطأ لا بالعقد ولا بملك اليمين، أما بالعقد فظاهر؛ لأنه يشترط في الكافرة: أن تكون كتابية كما تقدم، لكن بقينا في ملك اليمين، ولنفرض أنه حصل أسيرة شيوعية فعلى كلام المؤلف لا توطأ؛ لأنه قال: (إلا أمةً كتابية) ، ومفهوم ذلك: أن الأمة غير الكتابية لا توطأ؛ لأنها لا توطأ بعقد فلا توطأ بملك يمين.

وهذه المسألة موضع خلاف، يعني: الأمة غير الكتابية كالوثنية والدهرية والمجوسية، مع أننا نتفق أنها لا توطأ بالعقد، وللعلماء في ذلك رأيان:

الرأي الأول وهو قول أكثر أهل العلم وهو المذهب، كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله: أنها لا توطأ بملك اليمين.

والرأي الثاني: أنها توطأ بملك اليمين.