شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [1]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى وغفر له ولشيخنا والحاضرين: [كتاب المناسك.

الحج والعمرة واجبان على المسلم الحر المكلف القادر في عمره مرةً على الفور، فإن زال الرق والجنون والصبا في الحج بعرفة وفي العمرة قبل طوافها صح فرضاً، وفعلهما من الصبي والعبد نفلاً، والقادر من أمكنه الركوب ووجد زاداً ومركوباً صالحين لمثله بعد قضاء الواجبات والنفقات الشرعية والحوائج الأصلية، وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه، لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه من حيث وجبا].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (كتاب المناسك).

المناسك جمع منسك، والتنسك هو التعبد، والمناسك تطلق على جميع العبادات، لكن غلب إطلاقها على شيئين من العبادات:

الأول: أفعال الحج، فأفعال الحج تسمى مناسك، مع أن الصلاة من المناسك، والصيام من المناسك؛ لأنها من العبادات.

والشيء الثاني: ما يذبح لله عز وجل؛ قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، فما يذبح لله عز وجل من النسك، الهدي والأضاحي والعقائق.. إلى آخره، وسيأتينا إن شاء الله في أحكام الهدي والأضاحي والعقيقة أن التسمية الشرعية للعقيقة هي النسيكة، ولكن لا بأس أن يطلق عليها في بعض الأحيان عقيقة، ولكن التسمية الشرعية نسيكة.

قال المؤلف رحمه الله: (الحج والعمرة واجبان).

الحج في اللغة: القصد.

وفي الاصطلاح: قصد مكة لأداء المناسك في وقت مخصوص.

والعمرة في اللغة: الزيارة.

وأما في الاصطلاح: فهو زيارة البيت الحرام لعمل مخصوص.

قال المؤلف رحمه الله: (الحج والعمرة واجبان).

الحج واجب لا إشكال في ذلك، وهو أحد الأركان الخمسة، والإجماع قائم على ذلك، ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وفي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، خرجاه في الصحيحين.

والإجماع قائم على ذلك.

وأما العمرة فهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، هل العمرة واجبة، أو أنها ليست واجبةً؟ سيأتي إن شاء الله.

وهنا مسألة:

متى فرض الحج؟

العلماء رحمهم الله لهم في ذلك ثلاثة آراء:

الرأي الأول: أن الحج فرض في السنة التاسعة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

والرأي الثاني: أنه فرض في السنة السادسة، وهذا رأي الشافعي .

والرأي الثالث: أنه فرض في السنة الخامسة.

والصواب في ذلك أنه فرض في السنة التاسعة للهجرة كما سيأتي إن شاء الله بيانه.

وقول المؤلف رحمه الله: [الحج والعمرة واجبان]، ظاهر أو صريح كلام المؤلف رحمه الله تعالى أن العمرة واجبة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وبه قال الشافعي ، وعند الحنفية والمالكية أن العمرة سنة وليست واجبة.

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن العمرة واجبة إلا على المكي، ولكل منهم دليل.

فالذين قالوا: بأن العمرة واجبة استدلوا بأدلة كثيرة، والحقيقة أن الذي يتأمل الأدلة الواردة في وجوب العمرة أو عدم وجوب العمرة على سبيل الخصوص يجد أن هذه الأدلة فيها مقال وفيها ضعف، سواء ممن قال بوجوبها، أو قال باستحبابها، ولهذا نحن سنستدل على وجوب العمرة بأدلة عامة.

أما الذين قالوا: بوجوب العمرة فاستدلوا بأدلة كثيرة، لكن سنأخذ شيئاً من أدلتهم: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (يا رسول الله! هل على النساء من جهاد؟ قال: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة)، وهذا رواه الإمام أحمد وابن ماجه ، ويصححه بعض أهل العلم رحمهم الله.

والحديث في البخاري ولكن ليس بهذا اللفظ، والشاهد هنا: (عليهن جهاد لا قتال فيه)، فقال: (عليهن)، وهذه من صيغ الوجوب عند الأصوليين، وأيضاً سماه النبي صلى الله عليه وسلم جهاداً، وهذا مما يدل على أنه واجب.

وكذلك حديث أبي رزين العقيلي ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حج عن أبيك واعتمر)، لما ذكر أن أباه شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة، وهذا أمر، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه.

وكذلك حديث زيد بن ثابت مرفوعاً: (الحج والعمرة فريضتان..) إلى آخره.

والذين قالوا: بأن العمرة سنة وليست واجبة استدلوا بحديث جابر : (أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، وأن تعتمر خير لك)، وهذا أيضاً صححه الترمذي .

حديث طلحة : (الحج جهاد والعمرة تطوعابن ماجه .

وهذه الأدلة كلها لا تخلو من مقال.

والذين قالوا: بأن العمرة واجبة إلا على المكي استدلوا بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (لا يضركم يا أهل مكة ألا تعتمروا، فإن أبيتم فاجعلوا بينكم وبين الحرم بطن الوادي)، وهذا رواه ابن أبي شيبة في مصنفه؛ ولأن العمرة هي الزيارة، وأهل مكة هم أهل الحرم، وهل الإنسان يزور أهله؟ لا؛ لأنه ملازم لأهله، والعمرة زيارة.

والذي يظهر والله أعلم أن العمرة واجبة، ومما يدل على الوجوب حديث عمرو بن حزم، أن النبي صلى الله عليه وسلم سماها بالحج الأصغر.

أيضاً يدل على الوجوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، فالذي يظهر والله أعلم أن العمرة واجبة، ولكن بالنسبة لوجوبها على المكي فيظهر ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

قال المؤلف رحمه الله: (على المسلم الحر المكلف القادر في عمره مرةً).

هنا بيّن المؤلف رحمه الله شروط من يجب عليه الحج والعمرة:

الشرط الأول: الإسلام، وهذه المسألة سبق أن تكلمنا عليها كثيراً، وقلنا: بأن الكافر يتوجه له خطابان:

الخطاب الأول: خطاب وجوب التكليف، فنقول بأنه مكلف، ويأثم على ترك هذين الواجبين.

والثاني: خطاب وجوب الأداء، لا يجب عليه أن يؤدي؛ لأنه فاقد للأصل، وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54].

الشرط الثاني: الحرية: وعلى هذا لا يجب على الرقيق الحج ولا العمرة، ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، والرقيق ليس مستطيعاً؛ لأنه لا يملك، فليس له مال.

وقوله رحمه الله: (المكلف).

هذا الشرط الثالث، يعني: البالغ العاقل، بهذا نعرف أن الصبي لا يجب عليه الحج ولا العمرة، والمجنون أيضاً لا يجب عليه الحج ولا العمرة، ودليل ذلك الحديث الحسن: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق).

وقوله رحمه الله: (القادر).

أي: المستطيع، وهو المستطيع بماله وبدنه أو بماله كما سيأتي إن شاء الله، ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (على الفور).

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: بأن الحج والعمرة يجبان على الفور، وهذه هي القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية: أن أوامر الشارع المجردة عن القرائن تقتضي الفورية، وجمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى يرون أن الحج على الفور، وعند الشافعية أن الحج على التراخي ما لم يخش العطب، يعني: الهلاك.

والذين قالوا بأن الحج على الفور استدلوا بأدلة وجوب الحج، وهذه الأوامر تقتضي الفورية؛ للقاعدة السابقة.

وكذلك استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر (أن من أصابه كسر أو عرج فإنه حل وعليه الحج من قابل)، يعني: إذا أحصر عن الحج حل وعليه أن يحج من قابل كما سيأتينا إن شاء الله في أحكام الإحصار، وهذا الحديث صححه الترمذي .

وكذلك أيضاً جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (من كان ذا ميسرة فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً).

والذين قالوا: بأنه ليس على الفور استدلوا على ذلك بأن الحج فرض في السنة السادسة كما يقول الشافعي ، وما حج النبي صلى الله عليه وسلم إلا في العاشرة، ويقولون: الدليل على أنه فرض في السنة السادسة أن الله سبحانه وتعالى قال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، وهذه الآية فيها: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، نزلت في كعب بن عجرة في غزوة الحديبية، وغزوة الحديبية كانت في السنة السادسة من الهجرة، فقالوا: بأن هذا دليل على أن الحج على التراخي، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما حج إلا في العاشرة.

وذكرنا أن بعض أهل العلم يرى أن الحج فرض في السنة الخامسة، واستدلوا على ذلك بحديث أنس كما في صحيح البخاري وغيره أنه قال: (نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع، وإنه جاء رجل... إلخ، إلى أن قال: وزعم رسولك أن الله افترض علينا حج بيت الله الحرام)، وقالوا: إن السائل هذا هو ضمام بن ثعلبة ، وضمام بن ثعلبة قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الخامسة.

والصواب في هذه المسألة أن الحج فرض في السنة التاسعة، وأما الاستدلال بقول الله عز وجل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، نقول: صحيح أن الآية في الحديبية، ولكن هذه ليس فيها وجوب الحج، وإنما فيها أن من شرع في الحج والعمرة فإنه يجب عليه أن يتمهما، وأما حديث أنس وأن السائل هو ضمام فهذا ضعيف؛ فلم يثبت أن السائل هو ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه.

فالصحيح أن الحج فرض في السنة التاسعة، والدليل أن آية وجوب الحج: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97]، نزلت في صدر سورة آل عمران، وصدر سورة آل عمران فيها آية المباهلة، لما قدم وفد نجران فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، ثم دعاهم إلى المباهلة، وقدوم وفد نجران كان في التاسعة؛ لأنه لما فتحت مكة في السنة الثامنة دخل الناس في دين الله أفواجاً، فأصبح الناس يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعونه على الإسلام، فدل ذلك على أن الحج فرض في السنة التاسعة من الهجرة.

يبقى الإشكال ما دام أن الحج فرض في السنة التاسعة من الهجرة، لماذا تأخر النبي صلى الله عليه وسلم إلى العاشرة؟

أجاب عنه العلماء رحمهم الله بأجوبة كثيرة، فقيل: بأن السبب هو مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: بأن السبب هو خوف النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود، وقيل: بأنه خوف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة من اليهود، وقيل: بأنه خوف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة من المنافقين.. إلى آخره، والصحيح في ذلك سببان:

أما السبب الأول: فلأن السنة التاسعة -كما أسلفنا في عام الوفود- احتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس في المدينة؛ لكي يبايع الناس على دين الله، فالسنة التاسعة هي عام الوفود.

والسبب الثاني: أنه لا يزال يحج المشركون؛ لأن الحج من بقايا دين إبراهيم عليه السلام، فالمشركون يحجون ويطوفون بالبيت عراة، ولكي تتمحض الحجة للمسلمين أقام النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه على الموسم، وبعثه للحج في السنة التاسعة، وأمره أن ينادي، وأردف علياً رضي الله تعالى عنه أيضاً بالنداء: (ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان)، فلكي يتمحض الحج للمسلمين، ولكي لا يخالط المسلمين جهلة العرب الذين يطوفون وهم عراة احتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى وأن يحج في السنة العاشرة.

فتبين أن تأخر النبي صلى الله عليه وسلم من التاسعة إلى العاشرة إنما هو لعذر، وإذا كان لعذر فإنه لا بأس.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فإن زال الرق والجنون والصبا في الحج بعرفة وفي العمرة قبل طوافها صح فرضاً).

يعني: إذا كلف، يعني وجد شرط الوجوب بأن عتق الرقيق، وعقل المجنون، وبلغ الصبي، وهم واقفون بعرفة، يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (صح فرضاً)، أي: ينقلب إلى كونه فرضاً، حتى ولو دفع من عرفة ورجع فوقف في وقت الوقوف؛ لأن وقت الوقوف يمتد إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، فإذا وقف ثم دفع وبلغ أو عقل أو عتق ورجع ووقف، بل يجب عليه أنه يرجع؛ لأن الحج على الفور، ولكن لو حصل شرط الوجوب في أثناء الوقوف بعرفة صح فرضاً، فإن دفع ووقف يقول: بأنه يصح فرضاً؛ لأن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم لحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة).

يقول المؤلف رحمه الله: (وفي العمرة قبل طوافها).

أيضاً في العمرة قبل أن يطوف، والعمرة أمرها سهل، فلو شرع في الطواف نقول: يكمل العمرة ثم يعتمر مرةً أخرى، ولكن لو حصل هذا الشرط قبل أن يشرع في الطواف، فنقول: بأن عمرته تنقلب فرضاً عن عمرة الإسلام.

وظاهر قول المؤلف رحمه الله تعالى: (فإن زال الرق والجنون والصبا في الحج بعرفة)، أنه سواء سعى قبل ذلك أو لم يسع، وهذا الظاهر والصواب؛ لأن المشهور من المذهب أنه إذا كان سعى فإنه لا يجزئه عن حجة الإسلام؛ لأن السعي لا يشرع تكراره ولا التعبد به.

مثال ذلك: القارن والمفرد لهما أن يسعيا مع طواف القدوم، فإذا جاء قارناً أو مفرداً وطاف طواف القدوم وسعى فإنه يكفيه عن سعي الحج، ولو أن هذا الصبي أو هذا الرقيق طاف للقدوم وسعى سعي الحج ثم بلغ في عرفة أو عتق في عرفة فالمشهور من المذهب أنه لا يجزئ؛ لأن السعي لا يشرع أن يعاد، ولا يتعبد به مفرداً فلا تتطوع لله بالسعي، فالسعي ما يتعبد به إلا تبعاً للنسك فقط، والصحيح في ذلك أنه يجزئه فرضاً، ويعيد السعي مرةً أخرى.

قال المؤلف رحمه الله: (وفعلهما من الصبي نفلاً والعبد نفلاً).

يعني: أن الصبي إذا حج فإن حجه يكون نافلةً، وكذلك أيضاً الرقيق قبل أن يعتق إذا حج، فإن حجه يكون نافلةً، ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن امرأةً رفعت للنبي صلى الله عليه وسلم صبياً فقالت: ألهذا حج يا رسول الله؟! قال: نعم، ولك أجر)، فدل ذلك على أنه يجزئ حتى وإن لم يميز، وإن الصحابة رضي الله تعالى عنهم حجوا ومعهم الصبيان، وهذا من خصائص الحج والعمرة من بين سائر العبادات، فسائر العبادات يشترط لصحتها التمييز، كالوضوء والغسل والتيمم والصلاة والصيام، وأما الحج والعمرة فإنه لا يشترط التمييز، حتى ولو كان ابن ساعة وكان ولد الآن يصح حجه وتصح عمرته.

وكيف يحرم الصبي؟ نقول: بأن الصبي لا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون غير مميز؛ لا يفهم الخطاب ويرد الجواب، فهذا يحرم عنه وليه، فوليه هو الذي ينوي أن هذا الصبي دخل في نسك الحج ونسك العمرة ويكون محرماً.

وإن كان مميزاً فإنه يحرم بإذن وليه الذي يتولى ماله، فيأذن له وليه بالإحرام فينوي الإحرام، وينوي دخوله في النسك، في الحج وفي العمرة، وحينئذ يكون محرماً.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والقادر من أمكنه الركوب، ووجد زاداً ومركوباً صالحين لمثله بعد قضاء الواجبات والنفقات الشرعية والحوائج الأصلية).

الله سبحانه وتعالى اشترط لوجوب الحج الاستطاعة، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وهنا أراد المؤلف رحمه الله تعالى أن يبين من هو المستطيع الذي يجب عليه الحج، فقال: (القادر: من أمكنه الركوب)، هذا الشرط الأول، فلكي يكون قادراً لابد أن يتمكن من ركوب الراحلة، وهذا يختلف، يعني: في زمننا التمكن من ركوب وسائل النقل الموجودة الحديثة، كالسيارة، والقاطرة أصبح ممكناً، فإن كان لا يتمكن من الركوب لمرض أو كبر، أو يلحقه بذلك ضرر أو مشقة ظاهرة نقول: ليس مستطيعاً.

الشرط الثاني: (ووجد زاداً وراحلةً صالحين لمثله).

وجد الزاد، يعني: الطعام والشراب، ما يحتاجه في السفر إلى أن يرجع، وكذلك أيضاً الراحلة المركوب.

وقول المؤلف رحمه الله: (صالحين لمثله)، هذا يختلف باختلاف الناس، فزاد الفقير ليس مثل زاد الغني، وليس مثل زاد المتوسط، فالفقير إذا وجد زاد الفقراء، والغني إذا وجد زاد الأغنياء، والفقير إذا وجد مركوب الفقراء، والغني إذا وجد مركوب الأغنياء، ولهذا قال المؤلف: (صالحين لمثله).

الشرط الثالث: (بعد قضاء الواجبات، والنفقات الشرعية، والحوائج الأصلية).

يعني: يكون وجود الزاد والراحلة بعد قضاء الواجبات، والمقصود بالواجبات الديون؛ سواء كانت الديون لله، أو كانت للمخلوقين، ولنفرض أن هذا الرجل عليه دين لله عز وجل؛ عليه كفارة يمين أو نذر، نقول: ابدأ بالدين فإن فضل شيء فحج به، وإن لم يفضل شيء فإنه لا يجب عليه، أو مثلاً: عليه دين للمخلوق، نقول: ابدأ بدين المخلوق وسدد فإن فضل شيء حج، وإن لم يفضل شيء فإنه لا يجب عليك أن تحج.

والديون لا تخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن تكون حالة، فإذا كانت حالة نقول: ابدأ بالديون وسددها، فإن فضل شيء حج، وإن ما فضل شيء لا يجب عليك الحج.

الحالة الثانية: أن تكون الديون مؤجلة، فنقول: إذا كان يستطيع أن يسدد الدين إذا حل بعد الرجوع من الحج، فنقول: حج، ولنفرض أن الدين يحل في محرم، ويستطيع أنه يسدد، ولنفرض أن إنساناً عليه أقساط ويستطيع أن يسدد من راتبه، فنقول: إذا كان يستطيع أن يسدد يحج ولو كان عليه دين، ما دام أنه يستطيع أن يسدد إذا حل القسط، وأما إذا حل القسط ولا يستطيع أن يسدد فنقول: وفر المال لسداد ما عليك من الدين المؤجل.

فتلخص لنا: أن الديون تنقسم إلى هذين القسمين.

وقوله رحمه الله: (والنفقات الشرعية)، النفقات الشرعية هي الطعام والشراب واللباس، فهذه لا بد أن يكون واجداً لها، له ولمن يمونه إلى أن يعود، فإذا كان مثلاً: عنده خمسمائة ريال أو ألف ريال، وهذه الألف يحتاجها للطعام والشراب لأهله فلا يجب عليه الحج، ولكن إذا كانت زائدة عن النفقات الشرعية إلى أن يعود من الحج نقول له: حج.

قال رحمه الله: (والحوائج الأصلية).

الحوائج الأصلية ما يحتاجه ويلحقه كلفة ومشقة بفقده.

مثلاً: في وقتنا اليوم آلة التبريد يعني: الثلاجة، وآلة الغسل، وآلة الطبخ، وماعون البيت، والفرش، فهذه الحوائج الأصلية يحتاجها، فهو يحتاج إلى ثلاجة، ويحتاج إلى غسالة، ويحتاج إلى شيء يطبخ به، نقول: ابدأ به، فإن فضل شيء حج، وإن ما فضل شيء لا تحج.

إذاً: المستطيع هو من توفرت فيه هذه الشروط الثلاثة، ودليل ذلك حديث أنس رضي الله تعالى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ما السبيل في قول الله عز وجل: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]؟ فقال: الزاد والراحلة)، وهذا الحديث أخرجه الدارقطني والحاكم ولكنه ضعيف.

وتفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وقال به كثير من العلماء رحمهم الله.

والرأي الثاني: رأي المالكية، وهو أحسن الآراء في هذه المسألة، يقولون: بأن الزاد والراحلة هو أن يستطيع أن يصل إلى المشاعر بلا مشقة زائدة على مشقة السفر العادية، فمثلاً إذا كان هذا الشخص يستطيع أن يمشي، وبعض الناس يستطيع أن يمشي، ويستطيع أيضاً أن يخدم الناس إذا كان مثله يخدم الناس، أو يحترف إذا كان مثله عنده صنعة أو حرفة، فهذا يجب عليه الحج، وأما إذا كان لا يستطيع أن يمشي أو لا عنده حرفة ولا مثله يخدم، ولو فرض أنه يستطيع أن يمشي لكن ما عنده حرفة، هل يسأل الناس؟ أو نقول: ما يجب عليه حج؟ يقولون: لا يجب عليه حج، ولكن إذا كان مثله يخدم، أو عنده حرفة، فهنا نقول: بأنه يجب عليه الحج.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه، لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه من حيث وجبا).

القدرة في الحج تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يكون قادراً بماله وبدنه، فهذا يجب عليه أن يبادر بالحج.

القسم الثاني: أن يكون قادراً ببدنه، فيستطيع أن يمشي، ولكن ليس عنده مال، فهذا -كما قلنا-: عند المالكية رحمهم الله: إن كان مثله يخدم ويستطيع أن يخدم الناس أو عنده حرفة يحترف، فهذا يجب عليه، وإلا فإنه لا يجب عليه أن يسأل الناس.

القسم الثالث: أن يستطيع بماله، ولكن لا يستطيع ببدنه، ولهذا قال المؤلف: (وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه)، فهذا يستطيع بماله، ولكنه لا يستطيع ببدنه؛ لأنه مريض مرضاً لا يرجى برؤه، أو كبير في السن، فهذا قال فيه المؤلف: (لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه من حيث وجبا). نقول: يجب عليك أن تنيب، والدليل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن امرأةً من خثعم قالت: يا رسول الله! إن أبي أدركته فريضة الله تعالى في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه)، خرجاه في الصحيحين، فهنا أمرها النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه).

وقال المؤلف رحمه الله: (من حيث وجبا).

يعني هو من أهل هذه البلدة، ووجب عليه الحج بأن توفرت شروط الوجوب في هذه البلدة، فإنه يقيم النائب من هذه البلدة؛ لأنه فرق بين أن يقيمه هنا وبين أن يقيمه من مكة، فقد يقيم من هنا بألفين، ولكن إذا أقامه من مكة يكون بألف، وهو وجب عليه الحج هنا، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.

والرأي الثاني: أنه لا يجب، فسواء أقامه من البلد الذي وجب عليه، أو أقامه من مكة، أو أقامه من الميقات، أو حتى من عرفات، كله جائز، ولا بأس به إن شاء الله، ودليل ذلك: أن المسافة ما بين مكان من وجب عليه وبين المشاعر ليست مقصودة.