شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [12]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله:

[ويقول: التحيات لله، والصلوات، والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، هذا التشهد الأول.

ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، ويستعيذ من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، ويدعو بما ورد، ثم يسلم عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك].

تكلمنا فيما سلف عن كيفية وضع اليدين للتشهد، وأيضاً ما هي الكيفية المشروعة للتشهد الأول؟

وذكرنا أن عندنا صفتين:

الصفة الأولى: صفة مجزئة، وهي كيفما جلس.

والصفة الثانية: صفة مستحبة، وهي الافتراش، والافتراش هي: أن ينصب رجله اليمنى، ويجعل أطراف أصابعه، تجاه القبلة، وأما بالنسبة لرجله اليسرى، فإنها تكون مفروشة، بمعنى: أن ظهرها يكون إلى الأرض، ويجلس على بطنها، وهو الأصل في جلسات الصلاة.

وأما بالنسبة لليدين، فذكرنا أن هناك صفتين:

الصفة الأولى: أن يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق الإبهام، والوسطى، ويشير بالسبابة، وذكرنا خلاف أهل العلم فيما سبق: هل يحركها دائماً أو أنه يترك التحريك دائماً، أو أنه يحركها في مواضع؟

وذكرنا أن التحريك دائماً لا يثبت، وكذلك أيضاً نفيّ التحريك أنه لا يثبت، وذكرنا خلاف أهل العلم متى تحرك... إلى آخره؟

والصفة الثانية: أن يقبض الأصابع كلها، ويشير بالسبابة، وأما اليسرى فإنها تكون ممدودة الأصابع.

بالنسبة لمكان وضع الكفين ذكرنا صفتين:

الصفة الأولى: أن يلقم الكفين الركبتين، فالكف اليمنى تكون على طرف الركبة اليمنى، وأما الكف اليسرى فإنه يلقمها الركبة اليسرى.

الصفة الثانية: أن يجعل الكف اليمنى على الفخذ اليمنى، ويجعل الكف اليسرى على الفخذ اليسرى.

ثم بعد ذلك يقول الأذكار المشروعة، كما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى.

التشهد الأول

يقول المؤلف رحمه الله: (ويقول: التحيات).

التحيات: جمع تحية، والتحية: هي التعظيم، كما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

وقال بعض العلماء: التحيات معناها: الألفاظ الدالة على السلام والملك، والبقاء والعظمة.

وقوله: (لله).

يعني: أن التحيات المطلقة تكون لله عزّ وجل خاصة، أي أن التعظيم على وجه الإطلاق يكون خاصاً بالله عزّ وجل، وعلى هذا نفهم أن التحيات تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما كان على وجه الإطلاق، فهذا خاص بالله عزّ وجل، ومعناها: الألفاظ الدالة على العظمة، والتعظيم، والملك، والبقاء... إلى آخره.

القسم الثاني: التحيات لا على وجه الإطلاق، وإنما على وجه الخصوص، كما لو قلت: لك تحيتي، أو لفلان تحيتنا ونحو ذلك، فإن هذا يكون لغير الله عزّ وجل.

قال المؤلف رحمه الله: (والصلوات).

الصلوات اختلف في تفسيرها:

فقيل: المراد بالصلوات هي الصلوات الخمس المعهودة.

وقيل: المراد بذلك العبادات.

وقيل: أن المراد بذلك هي الأدعية... إلى آخره.

قال: (والطيبات).

الطيبات يشمل: الأقوال والأعمال، فكل قول طيب لله عزّ وجل، وكل عمل طيب يكون لله عزّ وجل، وفي حديث أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله طيبٌ، لا يقبل إلا طيباً )، فالأعمال الطيبة، والأقوال الطيبة، الأعمال الصالحة، والأقوال الصالحة، هذه تكون لله عزّ وجل.

قال: (السلام عليك أيها النبي).

السلام، قيل: إن السلام: اسم من أسماء الله عزّ وجل، ومعناه: السالم من كل عيب ونقص، وفي سورة الحشر: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر:23].

ومعنى ذلك: أن الله مع النبي صلى الله عليه وسلم، بالحفظ والكلاءة والرعاية.

وقيل: السلام اسم مصدر بمعنى التسليم، ومعنى التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم: الدعاء له بالسلامة، فأنت إذا قلت: السلام عليك أيها النبي، فإنك تدعو للنبي بالسلامة؛ ففي حياة النبي صلى الله عليه وسلم تدعو لبدنه بالسلامة من كل آفة، وبعد مماته تدعو لسنته وشرعه بالسلامة من كل آفة، من تحريف الغالين، وتأويل المبطلين، وأما بعد وفاته فتدعو له بالسلامة من أهوال يوم القيامة؛ لأن الأنبياء في عرصات القيامة يجثون على الركب ويقولون: اللهم سلم سلم.

والنبي: ذكر أوحي إليه بشرع، ولم يؤمر بتبليغ.

وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في كتابه النبوات وقيل: إن النبي لا يأتي بشريعة جديدة، وإنما يكون متبعاً للرسول الذي قبله، يعني: يحكم بشريعة الرسول الذي قبله.

والنبيء بالهمز مأخوذ من النبأ؛ لأنه يخبر عن الله عزّ وجل، وأما بلا همز فقيل: إن ذلك تسهيل، وقيل: إن ذلك من النبوة: وهي الرفعة.

قال: (ورحمة الله).

أيضاً كما أنك دعوت للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلام فتدعو له بالرحمة، فإذا جمع بين التسليم والرحمة حصل النجاة من المرهوب بالسلام، والفوز بالمطلوب بالرحمة، فهو بالتسليم ينجو من المرهوب، ينجو من الآفات والمصائب ونحو ذلك، وبالرحمة يفوز بالمطلوب، يفوز بجنة الله، وثوابه، ورضائه.

قال: (وبركاته).

أيضاً دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضع الله عزّ وجل فيه وفي دعوته البركة، والبركة هي: النماء والزيادة.

ومعني: وبركاته: أنك تسأل الله عزّ وجل أن يبارك في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي دعوته، وفي سنته، وإذا حصل ذلك وكثرت بركات النبي صلى الله عليه وسلم كثر أجره، وعظم مقامه عند الله عزّ وجل.

قال: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).

دعاء بالسلامة، للحاضرين من الإمام، والمأموم، والملائكة، وعلى عباد الله الصالحين، والصالح: هو كل من قام بحق الله، وحق المخلوق، وفي هذا فائدة الصلاح والتقى، فإذا كان الإنسان صالحاً فإن كل مصلٍ يدعو له بالسلامة.

قال: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).

سبق تفسير الشهادة، أشهد، يعني: أقر وأعترف، أنه لا معبود بحق إلا الله عزّ وجل، أقر إقرار من تيقن الشيء كأنه شاهده بعينه.

قال: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).

يعني: أقر وأعترف؛ أن محمداً عبد الله ورسوله، وكما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، هذه هي شهادة أن محمداً عبده ورسوله، وتقدم أن تكلمنا على هذه الشهادة في أوائل الكتاب، وهنا جمع بين التعبيد والرسالة، وفي هذا رد على من يجفوا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، ورد أيضاً على من يغلو في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: (عبده) هذا رد على غلاة الصوفية، والخرافية، والقبوريين، الذين يغلون في النبي صلى الله عليه وسلم، ويرفعونه فوق مرتبته، وقوله: (رسوله)، رد على من جفا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر رسالته، أو أنكر عموم رسالته، كاليهود، ومشركي العرب وغيرهم.

قال المؤلف رحمه الله: (هذا هو التشهد الأول).

يعني: هذا هو التشهد الأول الذي يجب على كل مصل أن يأتي به، ودليل ذلك: حديث ابن مسعود رضي الله عنه، كما في الصحيحين.

يقول المؤلف رحمه الله: (ثم يقول: اللهم صلى على محمد)... إلى آخره.

هذا في التشهد الأخير، وهل يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الأول أو أنه لا يصلي؟ للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:

الرأي الأول: المشهور من مذهب الإمام أحمد ، أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول.

الرأي الثاني: رأي الشافعي رحمه الله: يرى أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول.

وسبقت هذه المسألة، وتكلمنا عليها، وذكرنا أن الأقرب: هو ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله: أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول؛ لكن المأموم يكون تبع إمامه، فإذا لم ينهض الإمام فإنه إذا انتهى من التشهد يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يسكت.

لأن الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هو التكبير، والتسبيح، وقراءة القرآن)، فحصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في هذه الأشياء.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الثاني

قال: (ثم يقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد).

اللهم، معناها: يا الله، والصلاة هذه تقدم أن ذكرنا تفسيرها، وقلنا: بأن معنى: صل على محمد، أقرب شيء ما ذكره البخاري رحمه الله عن أبي العالية، أن معنى الصلاة على محمد: الثناء عليه في الملاء الأعلى، فإذا قلت: اللهم صلى على محمد فأنت تدعو أن الله عزّ وجل يثني على عبده في الملأ الأعلى عند الملائكة المقربين، كأنك تقول: يا الله أثن على عبدك محمد صلى الله عليه وسلم عند الملائكة المقربين.

أيضاً: (آل محمد)، سبق أن ذكرنا ذلك، وقلنا أن الصواب في تفسير آل النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يختلف باختلاف السياقات، فإذا أفرد الآل، فقيل: اللهم صل على آل محمد، فالمراد بذلك: أتباعه في دينه، وإذا جمع مع الآل غيرهم، كما لو قيل: اللهم صل على محمد، وصحابته، وأتباعه، فإن المراد بذلك: المؤمنون من أقاربه.

قال: (كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد).

كما صليت، الكاف هذه للتشبيه، يعني: أيها أفضل محمد أو إبراهيم؟ محمد أفضل من إبراهيم، وآل محمد أفضل من آل إبراهيم، فكيف يقال: صل على محمد كما صليت على إبراهيم، والأصل أنك إذا شبهت أن يكون المشبه أنزل من المشبه به، الأصل أنه يشبه إبراهيم وآل إبراهيم بمحمد وآل محمد؟

هذه المسالة تكلم عنها العلماء رحمهم الله كثيراً، وأفردت في رسائل مستقلة، واختلف العلماء رحمهم الله كثيراً، وأقرب شيء أن الكاف هنا ليست للتشبيه، وإنما هي: للتعليل؛ لأن الأصل أن يكون المشبه به أعلى من المشبه، ومحمد وآل محمد أعلى من إبراهيم وآل إبراهيم، وأن هذا من باب التوسل بفعل الله السابق لتحقيق الفعل اللاحق، يعني: نتوسل يا الله بصلاتك على إبراهيم وعلى آل إبراهيم أن تصلي على محمد وعلى آل محمد.

والتوسل بأفعال الله وصفاته وأسمائه الحسنى من أنواع التوسلات المشروعة.

فالخلاصة في ذلك: أن الكاف هنا: للتعليل، وليست للتشبيه، وأن هذا من باب التوسل بفعل الله السابق لتحقيق الفعل اللاحق.

قال: (كما صليت على آل إبراهيم)، آل إبراهيم إسماعيل، وإسحاق، وأولادهما.

قال: (إنك حميد).

حميد فعيل بمعنى: مفعول، فهو سبحانه وتعالى المحمود على أسمائه الحسنى، والمحمود على أفعاله، والمحمود على صفاته العليا، وعلى جميع أفعاله وأقداره الشرعية الدينية، والكونية القدرية.

وأيضاً: فعيل بمعنى: فاعل يعني: حامد، فهو سبحانه وتعالى يحمد عباده الذين يحمدونه، ويطيعون أمره، ويجتنبون نهيه، سمع الله لمن حمده، يعني: استجاب الله لمن حمده.

قال: (مجيد).

مجيد أيضاً: فعيل ذو المجد أي: العظمة، فهو سبحانه وتعالى لا أعظم منه في ذاته، ولا أعظم منه في أسمائه، ولا صفاته.

قال: (وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد).

البركة بمعنى: الثبوت، واللزوم، والاستقرار، وقوله: بارك، يعني: أحل البركة يا الله في محمد وآل محمد بالنماء، والكثرة، والتطهير ونحو ذلك، أحل البركة في محمد وآل محمد، كما أحللت البركة في إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، يعني: أحل البركة في محمد وآل محمد، بالكثرة، والنماء، كثرة الإتباع ونحو ذلك، مما يطرحه الله عزّ وجل، ويبارك فيه.

الصيغ الواردة في التشهد والاستفتاح والصلاة على النبي ومسالك العلماء فيها

ذكر المؤلف رحمه الله التشهد، ثم ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتشهد ورد له صفات ينبغي لطالب العلم أن يحفظها، وكذلك أيضاً الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ورد لها صفات ينبغي لطالب العلم أن يحفظ شيئاً منها، فهناك تشهد ابن مسعود كما ذكر المؤلف رحمه الله، وتشهد أبي موسى ، وتشهد ابن عباس ، وتشهد عمر رضي الله تعالى عنه.

كذلك أيضاً الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ورد لها صيغ، منها صلاة كعب بن عجرة كما ثبت ذلك في صحيح البخاري ، وكذلك أيضاً حديث أبي مسعود البدري ، وكذلك أيضاً حديث أبي حميد ، وحديث أبي سعيد ، وحديث أبي هريرة ، وحديث طلحة وغير ذلك.

فهذه صيغ للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وسبق أن أشرنا إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فيما يتعلق بالعبادات التي وردت على وجوه متنوعة، وذكرنا أن العلماء رحمهم الله، لهم في ذلك مسلكان:

المسلك الأول: مسلك الترجيح، كما يذهب إليه كثير من الأئمة، فمثلاً: عند التشهد، الشافعي رحمه الله: يختار تشهد ابن عباس : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، والإمام أحمد وأبو حنيفة يختاران تشهد ابن مسعود : التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمه الله وبركاته... إلى آخره.

وفي الاستفتاحات، الإمام أحمد يختار استفتاح أبي سعيد : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، والشافعي يختار استفتاح أبي هريرة : اللهم باعد بيني وبين خطايا كما باعدت بين المشرق والمغرب... إلى آخره، فنجد أن كثيراُ من الأئمة وأتباع الأئمة يسلكون مسلك الترجيح.

الرأي الثاني: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه يسلك مسلك الجمع، وأنه ينبغي للمسلم أن ينوع بين هذه الصيغ، فتارة يأتي بهذه الصيغة، وتارة يأتي بهذه الصيغة، فعلى المسلم أن يحفظها ويكررها؛ لأن الإنسان إذا كررها في صلاته يجعل الصلاة حية.

أولاً: يحفظ العلم.

ثانياً: يعمل بالسنة كلها، وأيضاً يجعل العبادة أقرب ما تكون عبادة، بخلاف ما إذا داوم على صيغة واحدة فإنها تكون قريبة من العادة، من حيث أن الخشوع لا يكون فيها كما يكون فيما إذا خالف بين هذه الأنواع.

الاستعاذة بعد التشهد

قال المؤلف: (ويستعيذ من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا، والممات، وفتنة المسيح الدجال).

هذه الاستعاذة بالله من هذه الأربع، جمهور العلماء: على أن هذا مستحب، وليس واجباً، واستدلوا على ذلك: بحديث ابن مسعود رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما علمه التشهد قال: ثم ليتخير من الدعاء أعجبه)، مما يدل على أن هذه الأربع لا تتعين.

الرأي الثاني: أن الاستعاذة بالله من هذه الأربع واجب، وهذا ذهب إليه طاوس رحمه الله تعالى، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقال به: ابن حزم من الظاهرية، واستدلوا على ذلك بظاهر الأمر، ففي صحيح مسلم الأمر استعاذة بالله من هذه الأربعة.

وفي الصحيحين من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من أمره.

والأقرب في هذه المسألة: أن الاستعاذة بالله من هذه الأربع ليس واجباً، وإنما هو مستحب لوجود الصارف، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

قال: (ويستعيذ من عذاب جهنم).

جهنم علم على النار، الذي أعدها الله عزّ وجل لأعدائه، الكافرين، (وعذاب القبر)، القبر مدفن الميت.

(وفتنة المحيا والممات)، فتنة المحيا: ما يكون من فتن الشبهات والشهوات، وأما فتنة الممات: فهي سؤال الملكين، يعني: فتنة الممات تشتمل أولاً: على سؤال الملكين حينما يوضع الميت في قبره، فأنه يأتيه ملكان، فيسألانه عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه، وكذلك أيضاً يشمل عرض الأديان على المحتضر، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن عرض الأديان على المحتضر لا يكون لكل أحد، بل إذا كان الإنسان مقبلاً على الله عزّ وجل، وصالحاً وتقياً، قائماً بالأوامر، تاركاً للنواهي، فإن الله سبحانه وتعالى لا يخذله، وهذا هو حسن الظن بالله، وأنك لا تظن بالله سوءاً من أن الله يميتك على غير حسن الخاتمة، بل حسن الظن بالله عزّ وجل إذا كنت مخلصاً صادق النية، متابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، قائماً بالأوامر، مجتنباً للنواهي، فإن حسن الظن بالله عزّ وجل أن الله يختم لك بالحسنى، وأما كونك تظن أن الله لا يختم لك بالحسنى، فهذا من سوء الظن بالله.

الرابع: قال: (وفتنة المسيح الدجال)، الدجال: صيغة مبالغة، مأخوذ من الدجل، وهو الكذب والتمويه، فلكثرة دجله وكذبه وتمويهه سمي دجالاً، ومسيحاً لكونه ممسوح العين اليمنى، يعني: أعور العين اليمنى، وقيل: لأنه يمسح الأرض بذهابه، وطوفانه بها، فلا يترك بقعة إلا دخلها، إلا ما استثني.

الدعاء بعد التشهد والاستعاذة من الأربع

قال: (ويدعو بما ورد).

يعني: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو الأحسن أن المسلم يدعو بما ورد، ولو دعا بما شاء من خيري الدنيا والآخرة فإن هذا جائز ولا بأس به؛ لكن كما ذكر المؤلف رحمه الله -وأحسن من ذلك- أنه ينبغي للمسلم إذا دعا أن يتخير دعوات النبي صلى الله عليه وسلم التي جاءت في كتاب الله وسنته صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من المأثم، والمغرم، ومن ذلك أيضاً ما جاء في دعاء أبي بكر : اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم اغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك الغفور الرحيم.

وكذلك أيضاً يقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، وأيضاً يقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، هذه كلها أدعية واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول المؤلف رحمه الله: (ويقول: التحيات).

التحيات: جمع تحية، والتحية: هي التعظيم، كما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

وقال بعض العلماء: التحيات معناها: الألفاظ الدالة على السلام والملك، والبقاء والعظمة.

وقوله: (لله).

يعني: أن التحيات المطلقة تكون لله عزّ وجل خاصة، أي أن التعظيم على وجه الإطلاق يكون خاصاً بالله عزّ وجل، وعلى هذا نفهم أن التحيات تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما كان على وجه الإطلاق، فهذا خاص بالله عزّ وجل، ومعناها: الألفاظ الدالة على العظمة، والتعظيم، والملك، والبقاء... إلى آخره.

القسم الثاني: التحيات لا على وجه الإطلاق، وإنما على وجه الخصوص، كما لو قلت: لك تحيتي، أو لفلان تحيتنا ونحو ذلك، فإن هذا يكون لغير الله عزّ وجل.

قال المؤلف رحمه الله: (والصلوات).

الصلوات اختلف في تفسيرها:

فقيل: المراد بالصلوات هي الصلوات الخمس المعهودة.

وقيل: المراد بذلك العبادات.

وقيل: أن المراد بذلك هي الأدعية... إلى آخره.

قال: (والطيبات).

الطيبات يشمل: الأقوال والأعمال، فكل قول طيب لله عزّ وجل، وكل عمل طيب يكون لله عزّ وجل، وفي حديث أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله طيبٌ، لا يقبل إلا طيباً )، فالأعمال الطيبة، والأقوال الطيبة، الأعمال الصالحة، والأقوال الصالحة، هذه تكون لله عزّ وجل.

قال: (السلام عليك أيها النبي).

السلام، قيل: إن السلام: اسم من أسماء الله عزّ وجل، ومعناه: السالم من كل عيب ونقص، وفي سورة الحشر: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر:23].

ومعنى ذلك: أن الله مع النبي صلى الله عليه وسلم، بالحفظ والكلاءة والرعاية.

وقيل: السلام اسم مصدر بمعنى التسليم، ومعنى التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم: الدعاء له بالسلامة، فأنت إذا قلت: السلام عليك أيها النبي، فإنك تدعو للنبي بالسلامة؛ ففي حياة النبي صلى الله عليه وسلم تدعو لبدنه بالسلامة من كل آفة، وبعد مماته تدعو لسنته وشرعه بالسلامة من كل آفة، من تحريف الغالين، وتأويل المبطلين، وأما بعد وفاته فتدعو له بالسلامة من أهوال يوم القيامة؛ لأن الأنبياء في عرصات القيامة يجثون على الركب ويقولون: اللهم سلم سلم.

والنبي: ذكر أوحي إليه بشرع، ولم يؤمر بتبليغ.

وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في كتابه النبوات وقيل: إن النبي لا يأتي بشريعة جديدة، وإنما يكون متبعاً للرسول الذي قبله، يعني: يحكم بشريعة الرسول الذي قبله.

والنبيء بالهمز مأخوذ من النبأ؛ لأنه يخبر عن الله عزّ وجل، وأما بلا همز فقيل: إن ذلك تسهيل، وقيل: إن ذلك من النبوة: وهي الرفعة.

قال: (ورحمة الله).

أيضاً كما أنك دعوت للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلام فتدعو له بالرحمة، فإذا جمع بين التسليم والرحمة حصل النجاة من المرهوب بالسلام، والفوز بالمطلوب بالرحمة، فهو بالتسليم ينجو من المرهوب، ينجو من الآفات والمصائب ونحو ذلك، وبالرحمة يفوز بالمطلوب، يفوز بجنة الله، وثوابه، ورضائه.

قال: (وبركاته).

أيضاً دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضع الله عزّ وجل فيه وفي دعوته البركة، والبركة هي: النماء والزيادة.

ومعني: وبركاته: أنك تسأل الله عزّ وجل أن يبارك في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي دعوته، وفي سنته، وإذا حصل ذلك وكثرت بركات النبي صلى الله عليه وسلم كثر أجره، وعظم مقامه عند الله عزّ وجل.

قال: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).

دعاء بالسلامة، للحاضرين من الإمام، والمأموم، والملائكة، وعلى عباد الله الصالحين، والصالح: هو كل من قام بحق الله، وحق المخلوق، وفي هذا فائدة الصلاح والتقى، فإذا كان الإنسان صالحاً فإن كل مصلٍ يدعو له بالسلامة.

قال: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).

سبق تفسير الشهادة، أشهد، يعني: أقر وأعترف، أنه لا معبود بحق إلا الله عزّ وجل، أقر إقرار من تيقن الشيء كأنه شاهده بعينه.

قال: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).

يعني: أقر وأعترف؛ أن محمداً عبد الله ورسوله، وكما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، هذه هي شهادة أن محمداً عبده ورسوله، وتقدم أن تكلمنا على هذه الشهادة في أوائل الكتاب، وهنا جمع بين التعبيد والرسالة، وفي هذا رد على من يجفوا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، ورد أيضاً على من يغلو في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: (عبده) هذا رد على غلاة الصوفية، والخرافية، والقبوريين، الذين يغلون في النبي صلى الله عليه وسلم، ويرفعونه فوق مرتبته، وقوله: (رسوله)، رد على من جفا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر رسالته، أو أنكر عموم رسالته، كاليهود، ومشركي العرب وغيرهم.

قال المؤلف رحمه الله: (هذا هو التشهد الأول).

يعني: هذا هو التشهد الأول الذي يجب على كل مصل أن يأتي به، ودليل ذلك: حديث ابن مسعود رضي الله عنه، كما في الصحيحين.

يقول المؤلف رحمه الله: (ثم يقول: اللهم صلى على محمد)... إلى آخره.

هذا في التشهد الأخير، وهل يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الأول أو أنه لا يصلي؟ للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:

الرأي الأول: المشهور من مذهب الإمام أحمد ، أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول.

الرأي الثاني: رأي الشافعي رحمه الله: يرى أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول.

وسبقت هذه المسألة، وتكلمنا عليها، وذكرنا أن الأقرب: هو ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله: أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول؛ لكن المأموم يكون تبع إمامه، فإذا لم ينهض الإمام فإنه إذا انتهى من التشهد يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يسكت.

لأن الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هو التكبير، والتسبيح، وقراءة القرآن)، فحصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في هذه الأشياء.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2816 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2730 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2676 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2643 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2638 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2556 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2553 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2526 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2520 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2497 استماع