ماذا بعد العراق


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فالسلام عليكم -أيها الأحبة الأبرار- ورحمة الله وبركاته.

نحن الآن في ليلة الجمعة الثامن من شهر صفر لسنة (1424)هـ.

لقد جئتم إلى هذا المكان المبارك -أيها الأحبة- على وقع الدمار الهائل الذي حل بـالعراق وعاصمة الرشيد ، جئتم والأسى يعصر قلوبكم، واليأس يجتاح النفوس، لكن لا يأس فالدهر دول، لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87].

اليأس حرامٌ حرامٌ على قومٍ آمنوا بالله تعالى، وأن الله حق، وله الحكمة البالغة، والرحمة السابغة، وبيده تصريف الأمور، وإذا كان عمر الولايات المتحدة الأمريكية نحو مائتي سنة، فلنذكر أنها خاضت مع نفسها حرباً ضروساً حصدت أكثر من ستمائة وخمسين ألف قتيلٍ فحسب، فدعونا نهدئ أنفسنا وندغدغ عواطفنا بهذا الخبر الجميل.

قوات غازية تجتاح عدة ولايات أمريكية بما فيها واشنطن ، وتقتحم البيت الأبيض، واختفاء الرئيس الأمريكي ونوابه ومساعديه وسط حالةٍ من الفزع والهول والذهول.

الثوار الغاضبون المحتجون على السياسة الأمريكية يحتلون الشوارع ويهتفون ضد الإدارة ويتهمونها بممارسة جرائم حربٍ وإبادة وبتضليل الشعب وبانتهاك القوانين ومصادرة الحقوق.

مجموعة من السجناء تقتحم السجن وتنضم إلى الثوار.

مدمنو مخدرات يرفعون لافتاتٍ تقول: كفى ترويعاً للشعب، كفى ترويعاً للآمنين.

محتجون يدمرون تمثال الحرية ويضعون عليه خرقة مكتوبٌ عليها: انتهى وقت الخداع، اكشفوا الأقنعة عن وجوهكم البشعة يا تجار النفط، الشعب يرفضكم ولن يختاركم بعد اليوم.

هل أنت في حلمٍ لذيذ؟ هذا الحلم اللذيذ المنبعث من عمق الخيال، هو انعكاسٌ لما يجري في عاصمة الرشيد اليوم، ولعله صورة من صور المستقبل.

لقد هجم عليَّ البارحة موجةٌ عارمة من الحزن والكآبة، ولا أظن أحداً من المسلمين بقي بمعزلٍ عنها، وهو يرى ويسمع سقوط مدينة الخلافة بأيدي علوج الروم.

يا دجلة الخير ما يغليك من حنقٍ     يغلي فؤادي وما يشجيك يشجيني

ما أن تزال سياط البغـي ناقعةً     في مائك الطهر بين الحين والحين

ووالغاتٌ خيول البغي مصبحةً     على القرى آمنةً والدهاقين

أدري بأنكِ في حزنٍ وفي لغبٍ     والناس حولك عدوا بالملايين

يرون سود الرزايا في حقيقتها     ويفزعون إلى حدسٍ وتخمين

الوداع يا بغداد ! يا بلد المنصور والرشيد والنعمان و أحمد و الكرخي و الجنيد و إسحاق و مطيع و حماد ! يا منـزل القادة والخلفاء، والمحدثين والفقهاء، والزهاد والأتقياء، والشعراء والظرفاء! يا مثابة العلم والتقى، وموئل المجد والغنى، يا دنياً فيها من كل شيءٍ شيء..!!

الوداع يا دار السلام ! ويا موئل العربية! ويا قبة الإسلام! ويا منارة التاريخ! ويا منبر الحضارة! منذ أوائل الألف الخامس قبل الميلاد، تاريخٌ موغلٌ في القدم شهد هذا السهل - سهل الرافدين - قفزةً هامةً في التاريخ بالانتقال من القرى الزراعية إلى حياة المدن، ومر على هذا السهل زمنٌ كانت فيه شبكات القنوات معجزةً من معجزات الري في العالم، مرت عليه قرون وأجيال وأمم لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى: السومريون وهم من أقدم بناة الحضارة في التاريخ كله، ومن العراق انطلقت أول إمبراطورية معروفة في التاريخ، ثم جاء البابليون والآشوريون والكلدانيون وكان الفتح الإسلامي درة عقدٍ في هذا البلد الطيب، فحفظ للإسلام وده ووفاءه وبقاءه، وظلت العراق منطلقاً وعاصمةً للخلافة مئات السنين.

بنيت بغداد في عصر أبي جعفر المنصور؛ لتكون عاصمة الخلافة، وبلغت أوجها في عصر الرشيد ، ولذلك كانت تسمى عاصمة الرشيد ، كما تسمى دار السلام ، و المدورة ، و الزوراء، و بغداد .

ففي عام (1258)م انطفأت تلك الشعلة الوهاجة عندما أقبل التتر بقيادة هولاكو حفيد جنكيز خان واستباحوا بغداد ، واصطبغت دجلة بلون الدم من كثرة ما ألقي فيها من الجثث كما اصطبغت بلون الحبر من كثرة ما ألقي فيها من الكتب، فكانت نهايةً لمجدٍ وحضارة، واشتعلت الحرائق حتى اعتكر دخانها غيماً أسود عظيماً في سماء بغداد ، واغتيلت حضارةٌ من أغنى الحضارات الإنسانية، إنها حضارة الإسلام.

يقول الله عز وجل: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] قد يكون هذا الأجل الذي ضربه الله تعالى للأمم -كما يضرب للأفراد آجالاً- انقراضاً وزوالاً واستئصالاً بالكلية، وقد يكون انكماشاً وضعفاً وتراجعاً يحيط بأمةٍ من الأمم أو شعبٍ من الشعوب، والله تعالى كما يقول نبيه عليه الصلاة والسلام: (وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مسمى) فللأمم آجال، كما للأفراد، ولها نهوض، ولها هبوط، ولها شباب، ولها هرم، ولكن هذه الأمة المحمدية تتميز عن الأمم الأخرى بأن أجلها لا ينتهي إلا بقيام الساعة، فهي أمةٌ تمرض ولكنها لا تموت.

ثانياً: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141].

أيام الدنيا دول لا يدوم فيها حزن ولا سرور، ولا عز ولا ذل، ولا غنى ولا فقر، وإنما الدهر بالإنسان دوار، وكما يقول بعض الشعراء من أولاد الخلفاء:

ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت     لنا رغبةً أو رهبة عظماؤها

فلما انقضت أيامنا عصفت     بنا شدائد أيامٍ قليل رخاؤها

وصرنا نلاقي النائبات بأوجـه     الرقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها

إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت     علينا الليالي لم يدعنا حياؤها

يقول الأمريكيون: إن هذه نهاية التاريخ كما سطر فوكوياما في كتابه المشهور ونظريته الذائعة، ولعلنا نقول: بل هو تاريخ النهاية.

والله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله عن الظالمين المجرمين أهل الغدر والفجر والكفر: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [إبراهيم:44] كنت أقرأ هذه الآية كثيراً وأتعجب! وأقول: سبحان الله منزل القرآن! كل البشر يعرفون أن لهم نهاية، وأن لهم أجلاً يموتون فيه، فمن هؤلاء الذين أقسموا ما لهم من زوال؟ حتى رأينا بأعيننا هؤلاء القوم الذين غرتهم قوتهم، وغرتهم غطرستهم، وغرهم أمرهم من ربهم تبارك وتعالى، فصاروا يتكلمون عن أن حضارتهم هي نهاية التاريخ، وأن بقاءهم سوف يكون أبدياً أزلياً سرمدياً، فأقسموا ما لهم من زوال، وسكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم.

هذه المداولة المذكورة في كتاب الله عز وجل: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] هي نتيجة الاستفادة من السنن الربانية، فهؤلاء تذرعوا بالسنن، واكتشفوا واخترعوا وتعلموا وجربوا واتحدوا وتعاونوا حتى وصلوا إلى هذا المستوى من القوة الاقتصادية والتقنية والعسكرية التي بها استطاعوا أن يستفردوا في هذه الفترة بحكم العالم تقريباً، فصار العالم أحادي القطب تديره أمريكا وفق مزاجها ونظرها.

انتصارهم -أيها الأخ الكريم!- ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، نعم. أنا مثلك تماماً حينما أرى خوذة هذا الجندي المتغطرس الأجنبي الغريب في هيئته وسحنته وبزته وقيمه وأخلاقه عن بلادنا وعن تاريخنا وعن أرضنا أرض المجد وأرض التاريخ يأتي من بلدٍ غريب منبت الجذور، ثم يظهر قوته ويضع علمه -أنا مثلك أشعر بالغيظ وأشعر بالمقت، لكنني أدري أن هذا النصر الذي يقتطفه الآن إنما هو نتاج مجموعةٍ من التفوقات التي حصلت عليها إدارته في غيبةٍ وغفلة من الأطراف الأخرى، فهم استفادوا من هذه السنن الربانية، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، فانتصارهم ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، بل هو انتصارٌ حياتيٌ، علمي، تقنيٌ، اقتصاديٌ، إداريٌ، سياسي، وهو جزء من سنة الابتلاء التي تقابل بالصبر وتقابل بالمدافعة.

ولهذا؛ الآية الثالثة قوله عز وجل: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251] فإن ما يصنعه الله سبحانه وتعالى في أرضه وفي عباده من القضاء والقدر لا يمكن أن يكون شراً محضاً، ولا بد أن يكون فيه جوانب من الخير ومن الحكمة، وإن كانت هذه الجوانب قد تخفى على العباد، خصوصاً في أوقات الأزمات، وحينما يستحر الحزن والقلق والكآبة والتوتر في قلوب الناس، لكن المؤمن يظل راضياً مدركاً أن وراء الأمر من حكمة الله تعالى وحسن تدبيره ما يحمد الناس له العواقب.

رابعاً: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165] نريد أن نلوم أمريكا ، وكم يسرنا ونطرب حينما نسمع من المحللين والكتبة والإعلاميين والخطباء وغيرهم من يتكلم في هذه الدولة الظالمة، وأعتقد أن كل ما يقال عنها فهو جزء قليلٌ مما تستحق، ولكن علينا ألا نغفل أيضاً عن أن هذه الإدارة المتغطرسة الظالمة التي لا يمكن أن يخفي قبحها شيء لم تكن لتبلغ فينا ما بلغت لولا أننا أتينا من قبل أنفسنا.

وهاهو ربنا تبارك وتعالى يقول للمبشرين بالجنة وللسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165].

فينبغي علينا أن نقول هذا لأنفسنا الآن والجراح ساخنة، والدماء نازفة، والآلام حية، قل هو من عند أنفسنا.

علينا أن نعتبر هذه فرصة لنصحح فيها أوضاعنا، ونصلح فيها أحوالنا، ونستدرك ونعود إلى ربنا تبارك وتعالى عودةً صادقة، توبةً على مستوى الفرد والجماعة والأسرة والمجتمع والدولة والأمة.

لقد ذهبت هذه الحرب بالكثير الكثير، ذهبت أولاً بالشعارات الجوفاء التي طالما تحدث عنها هؤلاء الناس، فتكلموا عن الحريات، وعن القوانين الدولية، وعن حقوق الإنسان، وعن العدالة، وعن القيم الأخلاقية، فإذا بهذه الحرب تكشف عن الوجه الأسود الكالح الذي لا يمكن أن يستر ولا يخفى.

أين الشعارات أين المالئون بها الدنيا     لَكَم زوّروا التاريخ والكتبا

فلا خيول بني حمـدان راكضةٌ     لهواً ولا المتنبي مالئٌ حلبا

وقبر خالد في حمص تلامسـه     فيرجف القبر من زواره غضبا

يا رُبَّ حيًّ رخام القبر مسكنه     ورُبَّ ميت على أقدامه انتصبا

يا بن الوليد ألا سيفٌ تؤجـره     فإن أسيافنا قد أصبحت خشبا

لقد انكشف الزور، وبانت هذه الشعارات التي طالما ضللت كثيراً من شباب الأمة وشباب العالم، فظنوا أن هذه الحضارة استثناءٌ، وأنها لونٌ ونمطٌ من الحرية للبشر كلهم، وأنها تجردت عن كل المعاني الرديئة، فإذا بها تبين في أكلح وأقبح صورها عدواناً على الآمنين .. استهدافاً للأبرياء .. تحدياً للقوانين .. محاولةً لمصادرة الحقيقة والقضاء عليها، وهكذا انكشف أن الحرية الإعلامية المدعاة، أو الحرية السياسية ليست إلا نوعاً من التسلط، ولكنه ربما يكون أحياناً بألوان من القفَّازات الناعمة، والمظاهر الجميلة، والعبارات المعسولة، وتخفي وراءها ما تخفي.

الكل يعاني نوعاً من التسلط، ربما في كثيرٍ من دول العالم الإسلامي تواجه الشعوب نوعاً من التسلط الواضح المكشوف المباشر، سواءً من خلال الإعلام، أو من خلال مصادرة الرأي والحرية، لكن العالم الغربي وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية بان من خلال هذه الحرب أن شعبها ربما يعاني نوعاً آخر من التسلط، يكون هذا النوع بقدرٍ كبيرٍ جداً من محاولة غسيل عقول الناس، والتأثير على إرادتهم بحيث يتقبلون هذه الأشياء بقناعة، فأنت تعمل ما تريد ما دمت تعمل ما نريد.

ذهبت هذه الحرب بالقوانين الدولية، والمنظمات التي كان الحديث يتم حولها، وتبين أن ما يتحدثون عنه من استقلال الدول أنه ليس إلا هراءً.

فهذه دولٌ مستقلة يتم العدوان عليها لأغراضٍ مختلفة، ويتم غزوها، ويعتبر الذين يدافعون أو يقاومون خارجين على القانون الدولي، مخالفين للأنظمة، يتم اعتقالهم، وأسرهم، وقتلهم، ومحاكمتهم، وضربهم، وتعذيبهم.

أيضاً قوانين الحرب التي تقتضي عدم العدوان على الأبرياء، وعدم العدوان على المؤسسات الإعلامية، نجد أنها ذهبت في دوامة هذه الحرب العمياء الظالمة.

أدعياء الحرية في الولايات المتحدة الأمريكية يهاجمون الإسلام، ويهاجمون نبيه عليه الصلاة والسلام، ويتهمونه بالدموية، وبالعنف، وبالإرهاب، بينما نحن نتحدى أن عدد القتلى في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المسلمين وغيرهم لا يمكن أن يقاوم عدد القتلى في يومٍ واحد في هذه الحرب الظالمة فضلاً عما قبلها من الحروب وما قد يكون بعدها.

ذهبت هذه الحرب بالحياد والاستقلال: الاستقلال السياسي، والثقافي، والعسكري، فإننا نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية كما سوف يتبين بعد قليل تحاول أن تفرض نفسها كسلطةٍ عالمية بلا منازع ولا مقاوم.

ذهبت هذه الحرب بالنظام العربي الذي تبين من خلالها أنه نظام مكشوفٌ عاجز، غير قادرٍ على المقاومة ولا على الاستقلال بالقرار والموقف.

ذهبت الحرب ربما بالإدارة الأمريكية التي انغمست في رمالٍ متحركة لا تعرف إلى أين تؤدي بها، ولعل الانتخابات القادمة بعد سنة ونصف أو سنتين تصدق هذا الظن أو تكذبه.

فهل جاءت هذه الحرب لهم بشيء؟ نعم. لا شك أنها جاءت بمناطق نفوذ ونفط وقوة كبيرة وهيبة في أماكن شتى من العالم.

فيما يتعلق بالنفط مثلاً: فإن الشركات الأمريكية سوف تظفر بحصة الأسد من خلال علاقاتها مع القوى العراقية، ومن خلال دورها الأساسي في الحرب، وسيكون لذلك فائدة إضافية مهمة وهي تدمير ما يسمى بـمنظمة أوبك أو تحجيمها عن أن تقوم بأي موقفٍ فيه إضرار بالمصالح الأمريكية.

يقول المستشار الاقتصادي للرئيس الأمريكي: إن نجاح الحملة العسكرية على العراق سوف يصب في صالح الأعمال والشركات الأمريكية، ويقول: إن معنى تغيير النظام في العراق هو ضخ ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين برميل نفط يومياً بشكل إضافي إلى سوق النفط، وربما بعد خمس سنوات سيضخ عشرة ملايين برميل يومياً من النفط العراقي إلى أسواق العالم، وسوف تكون حصة الأسد من ذلك للشركات الأمريكية.

أثر الحرب على وحدة العراق

ماذا سوف تفعل الحرب بوحدة العراق؟

قد يتخوف الكثيرون أن تتحول العراق إلى دول: كدولةٍ للأكراد، ودولة للشيعة، ودولة للسنة، وهذا لا يبعد أن يكون احتمالاً ولو لم يكن في نظري بالاحتمال القوي.

إن العراق كدولة لا تتعلق بالرئيس مثلاً، ولا بالحزب، فالرئيس العراقي ليس هو تيتو يوغسلافيا الذي جمع رقعاً متفرقة حتى تثور المخاوف من بعده حول وجود العراق من عدمه، وخلال عددٍ من الحالات لم تظهر نزعاتٌ انفصالية جدية إلا عند الأكراد الذي يشكلون حوالي (15-20%) من الشعب العراقي، ومع ذلك فإن الأكراد يفضلون نوعاً من العلاقة مع حكومةٍ مركزية.

نعم. قد تعم الفوضى في المرحلة الانتقالية كما يسمونها، خصوصاً مع تعارض مصالح الدول المجاورة التي لكل واحدة منها أجندة خاصة فيما يتعلق بـالعراق أو بالجزء المتاخم لها، يتضح هذا جلياً مثلاً في إيران وتركيا وغيرها.

هل سوف تأتي الحرب بالديمقراطية؟

تستطيع أمريكا أن تلون غزوها كما تشاء، لكن هذا التلوين لا يعدو أن يكون ورقة التوت ليس أكثر، الديمقراطية المزعومة هي ضربٌ من الخيال، ليس لأن العراقيين ألفوا الاستبداد مثلاً، فهم قادرون على تجاوز هذا، لكن لما قد يحدث من الفوضى أولاً، وهذا متوقع بل نحن نراه اليوم في بغداد وفي الموصل وفي البصرة وفي غيرها من مدن العراق ، ولأن أمريكا جاءت لتبقى، وليس مهماً عندها شكل الحكام أو نوع الحكم بقدر أهمية ضمان ولاء المقيمين في بغداد لها ولمصالحها.

العراقيون وإن كانوا غير متعاطفين مع النظام السابق، إلا أنهم يكنون كرهاً أكبر لـأمريكا، خصوصاً منذ فرضت عليهم الحصار على مدى أكثر من ثلاث عشرة سنة، وقتلت من أطفالهم ما يزيد على مليوني طفل بسبب الأمراض التي لا تجد لها شفاءً، إضافة إلى شعورهم الوطني المعروف، فهم من أول من ثار على الاستعمار البريطاني.

تفيد التقارير الأمريكية أنه سوف يكون على أمريكا نشر ما يزيد على خمسة وسبعين ألف جندي للحفاظ على الاستقرار في العراق على مدى سنة كاملة على أقل تقدير، إضافة إلى الحاجة الماسة إلى وجود أكثر من خمسة آلاف جندي على مدى خمس سنوات في العراق .

إذاً: الديمقراطية نموذج هش، يمكن أن يوجد منها في العراق ما هو مفصلٌ على وفق المصالح الأمريكية، ما يحقق للناس الحرية الشخصية، وما يحقق لهم المتعة العاجلة، وقدرٌ من المشاركة يضمن استقرار البلد ليس أكثر.

ماذا سوف تفعل الحرب بوحدة العراق؟

قد يتخوف الكثيرون أن تتحول العراق إلى دول: كدولةٍ للأكراد، ودولة للشيعة، ودولة للسنة، وهذا لا يبعد أن يكون احتمالاً ولو لم يكن في نظري بالاحتمال القوي.

إن العراق كدولة لا تتعلق بالرئيس مثلاً، ولا بالحزب، فالرئيس العراقي ليس هو تيتو يوغسلافيا الذي جمع رقعاً متفرقة حتى تثور المخاوف من بعده حول وجود العراق من عدمه، وخلال عددٍ من الحالات لم تظهر نزعاتٌ انفصالية جدية إلا عند الأكراد الذي يشكلون حوالي (15-20%) من الشعب العراقي، ومع ذلك فإن الأكراد يفضلون نوعاً من العلاقة مع حكومةٍ مركزية.

نعم. قد تعم الفوضى في المرحلة الانتقالية كما يسمونها، خصوصاً مع تعارض مصالح الدول المجاورة التي لكل واحدة منها أجندة خاصة فيما يتعلق بـالعراق أو بالجزء المتاخم لها، يتضح هذا جلياً مثلاً في إيران وتركيا وغيرها.

تستطيع أمريكا أن تلون غزوها كما تشاء، لكن هذا التلوين لا يعدو أن يكون ورقة التوت ليس أكثر، الديمقراطية المزعومة هي ضربٌ من الخيال، ليس لأن العراقيين ألفوا الاستبداد مثلاً، فهم قادرون على تجاوز هذا، لكن لما قد يحدث من الفوضى أولاً، وهذا متوقع بل نحن نراه اليوم في بغداد وفي الموصل وفي البصرة وفي غيرها من مدن العراق ، ولأن أمريكا جاءت لتبقى، وليس مهماً عندها شكل الحكام أو نوع الحكم بقدر أهمية ضمان ولاء المقيمين في بغداد لها ولمصالحها.

العراقيون وإن كانوا غير متعاطفين مع النظام السابق، إلا أنهم يكنون كرهاً أكبر لـأمريكا، خصوصاً منذ فرضت عليهم الحصار على مدى أكثر من ثلاث عشرة سنة، وقتلت من أطفالهم ما يزيد على مليوني طفل بسبب الأمراض التي لا تجد لها شفاءً، إضافة إلى شعورهم الوطني المعروف، فهم من أول من ثار على الاستعمار البريطاني.

تفيد التقارير الأمريكية أنه سوف يكون على أمريكا نشر ما يزيد على خمسة وسبعين ألف جندي للحفاظ على الاستقرار في العراق على مدى سنة كاملة على أقل تقدير، إضافة إلى الحاجة الماسة إلى وجود أكثر من خمسة آلاف جندي على مدى خمس سنوات في العراق .

إذاً: الديمقراطية نموذج هش، يمكن أن يوجد منها في العراق ما هو مفصلٌ على وفق المصالح الأمريكية، ما يحقق للناس الحرية الشخصية، وما يحقق لهم المتعة العاجلة، وقدرٌ من المشاركة يضمن استقرار البلد ليس أكثر.

الأهداف المعلنة للحملة الأمريكية على العراق كانت تقول: تدمير الأسلحة والذخائر الكيماوية والبيولوجية، وإسقاط نظام البعث القائم، الذي يرونه تهديداً لجيرانه -لإسرائيل- ولمصالحهم الحيوية، وبالتالي قد يطرحون ما يسمى بالتحول الديمقراطي في العراق على النمط الغربي العلماني كمثلٍ يحتذى لدول الجوار.

وفي تقديري فإن أهم أهداف استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في المدى القريب والمتوسط ما بين خمس عشرة إلى عشرين سنة هو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط السياسية، المنطقة الغنية بثرواتها، بالبترول، بالماء، بالزراعة، بالخيرات، والذي ينفرد بأفضل وأخطر مركز بين الأقاليم في العالم، والذي تمثل بعض دوله في تقدير واشنطن بيئةً مناسبةً لنمو التطرف الديني والإرهاب كما يزعمون ويقولون.

والهدف الثاني لهم في ذلك هو: تغيير نظم الحكم في عددٍ من الدول العربية المحورية؛ لإقامة حكوماتٍ حليفة للغرب، وفي نفس الوقت تتمتع بنوعٍ من القوة والنفوذ، وقدرٍ مناسب من التأييد الشعبي، بما يتيح لهم في بضع سنوات مقبلة محاولة تجاوز الأشكال الديمقراطية بدرجةٍ أو بأخرى، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة تعتزم الانفراد بحكمٍ عسكريٍ أو مدني مباشر في العراق لفترة معينة، باعتباره دولة بترولية ونفطية، وبما يحمي المصالح الحيوية والأمنية للولايات المتحدة في المنطقة العربية بأسرها، وبما يحقق اتخاذ العراق قاعدة انطلاق لعمليات عسكرية مرجحة في المستقبل المنظور ضد إيران -مثلاً- وضد سوريا ، أو ضد بعض الدول المجاورة بما يخدم أمن إسرائيل والتخطيط الأمريكي، لمزيدٍ من السيطرة على الثروات الطبيعية في الخليج ، وفي بحر قزوين ، وفي آسيا الوسطى الإسلامية، إضافةً إلى تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في أراضي العراق وفي بحارها وفي أجوائها، وحرمان القوى الكبرى المنافسة من بناء وتنمية مصالحها في الشرق الأوسط.

الإدارة الأمريكية ترى أنه يمكن الوصول إلى السعودية -مثلاً- أو إلى مصر، أو سوريا، أو لبنان، أو إيران، عبر العراق بسهولةٍ أكثر وكلفةٍ أقل، ويبدو أن هذا من الأهداف الأساسية للحرب؛ فالهجوم على العراق واحتلاله يجعله مركزاً لتخويف إيران وسوريا ، ويمكن من خلاله التحرك باتجاه السعودية ودول الخليج؛ لإحداث تغييراتٍ تتوافق مع السياسة الأمريكية. كما أنه يمكن من خلاله التحرك باتجاه سوريا ولبنان.

السيطرة التامة على كل فلسطين ، والقيام بعملية تهجير واسعة ضد الفلسطينيين، وخصوصاً أن قادة اليهود باتوا مقتنعين أن تغييرات جذرية قد حصلت بعد انتفاضة الأقصى، وأدت إلى إسقاط اتفاقية أوسلو ، ومن ثم فإنهم يعتقدون أن الظروف بعد الحادي عشر من سبتمبر قد تغيرت، وأن اتفاقية أوسلو وملحقاتها لم تعد مقبولة.

وبطلبٍ من الإدارة الأمريكية أعد الدكتور ماكس زنقر المختص في تحليل السياسات -وهو مؤسس معهد مشهور، معهد هيدسون للدراسات الاستراتيجية والأمريكية- وثيقة ترسم سيناريوهات محتملة للعالم خلال العقدين المقبلين وأهمها هو:

أولاً: أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تقوم بهجماتٍ عدة ضد دول، وربما يؤدي ذلك إلى سقوط حكوماتٍ إسلامية، وستمتلك العراق ومصر وإيران والسعودية في تقديره أسلحةً نووية -طبعاً دعك من العراق الآن- وأن دولاً أخرى ستمتلك أسلحةً بيولوجية تستخدمها في النـزاعات فيما بينها، وأن إسرائيل ستظل موجودة إلى ما بعد عشرات السنين، إلا أنها سوف تواجه خطراً كبيراً على وجودها، وقد تتعرض للإبادة بواسطة سلاحٍ إسلامي غير تقليدي يتوافر بكثرة في الشرق الأوسط.

ثانياً: كما يتحدث التقرير أيضاً بتفصيلٍ عن هذا السيناريو، ويقسم الدول الإسلامية إلى قسمين: الدول المؤيدة لما سماه بالإسلام الكفاحي، أو الإسلام المقاوم، والدول المعارضة له.

أما الإسلام الكفاحي الجهادي المقاوم فسوف يسيطر حسب تقديره على الدول العربية، وهي تسعمائة مليون نسمة، وكذلك طبعاً الجاليات الإسلامية في أوروبا وفي أفريقيا ، وأما تركيا ووسط آسيا التي تشكل أربعمائة مليون نسمة من العالم الإسلامي، فإنها سوف ترفض هذا اللون من الإسلام كما يتحدث.

تتضمن الوثيقة أيضاً: خطة لمكافحة الإسلام يقسمها إلى عشر مراحل:

منها: حل الصراع العربي الصهيوني، وذلك بحل مشكلة اللاجئين من خلال إعادة توطينهم، وهنا نطرح سؤالاً أين؟ الله أعلم!

وحظر استخدام الإرهاب، ما هو الإرهاب؟ هذا سؤال أيضاً!

دولة فلسطينية ملتزمة بأمن إسرائيل ضمن خارطة الطريق أو غيرها، ويفترض أنه من الممكن العمل على إخضاع الفلسطينيين حتى يخضعوا للحل الذي تريده إسرائيل، ومن هنا فإن المنطقة متجهة إلى مرحلةٍ شديدة السواد وفق هذه السيناريوهات التي ترسمها الإدارة الأمريكية، وتحاول فرضها ليس على العالم الإسلامي فحسب بل على العالم كله، لكن تبقى إرادة الممانعة، والرفض، والإصرار على التغيير، وفرض الوجود قادرةً على إفشال هذه المخططات وعلى البقاء على ساحة الحياة، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق:15-17].

ما هي أسس التقرير الاستراتيجي الأمريكي؟

هناك تقرير استراتيجي أمريكي يخرج بين بضع سنوات، وهذا هو التقرير الأخير الذي صدر بعد أحداث أيلول بسنة تقريباً بعنوان: استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية، وقد خرج في عشرين أيلول سبتمبر (2002م). هذا التقرير الذي يرسم السياسة الأمريكية ماذا ينطوي عليه؟

تحقيق الحلم الأمريكي بإقامة دولة لها الريادة في المجتمع العالمي

أولاً: السياسة الأمريكية بشكل عام تستهدف تحقيق الحلم الأمريكي بإقامة دولة لها الريادة في المجتمع العالمي، وفي نفس الوقت يتمتع أفرادها بمستوى عالٍ من الأمن والمعيشة، ولذلك يقول أحد الرؤساء الأمريكان - ريجان في تجديد انتخابه-: أيها الأمريكيون! تعالوا لنقيم الجنة على هذه الأرض. فهذا هو الحلم الذي يسعون إليه، رفاهية في الداخل، وأمن قومي مستتب، إضافةً إلى السيطرة على العالم.

وقد تطورت الأسس التي قامت عليها عبر الأوضاع المحلية والمتغيرات الدولية، ففي البداية -مثلاً- كانت استراتيجيتهم تقوم على العزلة التي عبر عنها الرئيس مونرو حينما رسم خريطة الولايات المتحدة الأمريكية ، ورسم حولها أسلاكاً شائكة، ووضع أمامها شعاراً يقول: نحن نرحب بالزائر إذا لم يكن معه بندقية. معناه: أنهم منعزلون على أنفسهم، ولكنهم يرحبون بالزوار، ومن هنا كانت أمريكا مكاناً لاستقبال المهاجرين من أنحاء العالم.

ثم انتقلت بعد ذلك إلى المرحلة الثانية وهي: المشاركة في صياغة النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وملء الفراغ الذي نجم عن تراجع الدور الأوروبي في العالم الإسلامي وغيره.

ثم جاءت المرحلة الثالثة وهي الحرب الباردة، واستراتيجيات الأحلاف العسكرية حتى سقوط الاتحاد السوفيتي.

ونستطيع أن نقول: إن المرحلة الرابعة التي نعيشها هي هذه المرحلة التي يتكلم عنها هذا التقرير الذي أعدته لجان عمل وأوصلته إلى البيت الأبيض، ووزع في ثلاث وعشرين صفحة بالعنوان السابق، وتزامن إعلانه مع مرور عام على أحداث سبتمبر.

الأخذ بزمام المبادرة بالهجوم: الضربات الاستباقية

يؤكد هذا التقرير أن الرؤيا الجديدة للإدارة الأمريكية لا تقوم على رد الاعتداء، وإنما تأخذ زمام المبادرة بالهجوم على أي طرف يحتمل أن يكون عدواً في المستقبل، حتى ولو من دون دليل، أو من دون أسبابٍ تؤكد نية الاعتداء، وهذا ما يسميه التقرير بالضربات الاستباقية.

إذاً هم يقولون: إنه لا ينبغي لنا أن ننتظر حتى تأتي الضربة أو يأتي العدوان لندفعه، وإنما أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، فعلينا أن نقوم بضربات استباقية، ولعل مما يؤكد صدقية هذا التقرير بدايتهم بـالعراق ، وهم يقولون في التقرير نفسه: إننا نسعى إلى أعمالنا ومشاريعنا ضمن إطارٍ عالميٍ من التحالف، ولكننا مستعدون أيضاً أن نمضي قدماً بمفردنا إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك. وهكذا فعلوا هنا، فهم قد تجاوزوا المنظمات الدولية، وتجاوزوا حلفاء الأمس الذين اجتمعوا معهم على ما يسمى بالحرب على الإرهاب، وانطلقوا بمفردهم مع حلفائهم البريطانيين في حربٍ منعزلةٍ مفردةٍ حرب استباقية، ليس المقصود بها حماية أمريكا من عدوان العراق ، ولكن المقصود منها حماية أمريكا وحلفاء أمريكا والمقصود بهم بالدرجة الأولى اليهود.

إذاً: تقوم أمريكا على أساس نظرة استراتيجية تمارس ضربات استباقية لكل ما يمكن أن يشكل خطراً مستقبلياً، وبناءً على ذلك فهم سوف يقومون بحرمان جميع دول العالم التي لا تنطوي ضمن سياستهم وأهدافهم من الحق في التقدم والتصنيع والتسليح؛ لأنهم سوف يشكلون خطراً عليهم، وهو ما يسمونه عادةً بالدول المارقة كما يتحدثون -مثلاً- عن كوريا الشمالية ، أو عن إيران ، وقد يتحدثون عن سوريا أو غيرها.

تقدم أمريكا نفسها على أنها شرطي العالم، تراقب، وتحاسب، وتكافئ، وتعاقب، وتمنع من الحصول على التقنية، وتنشر ثقافتها ورؤيتها الخاصة المتعلقة بالحرية .. المتعلقة بالحرب والسلام .. المتعلقة بالحقوق والتعليم .. المتعلقة بالإرهاب .. المتعلقة بتمويل الجمعيات الخيرية وغيرها، وتفرضها على الحكومات وعلى الشعوب.

يقول هذا التقرير في هذه الاستراتيجية: سنحول المحنة إلى فرصةٍ سانحة. يعني: إن الأزمة التي مرت بهم بعد (11) سبتمبر سوف يحولونها إلى فرصة؛ ليقوموا باستدراك كثيرٍ من الخلل والنقص والعيب الذي ينتظم سياستهم، وهم يسمون من لا ينطوي تحت لوائهم بأنه مارق أو خارج على القانون، وكيف لا؟! فهم الذين يصنعون القانون، وهم الذين يكتبونه، وهم الذين ينفذونه.

ودعوى القوي كدعوى السباع     من الناب والظفر برهانها

ضرورة التركيز على الجانب الاقتصادي

يتحدث التقرير بشكلٍ متعاظم عن أهمية الجانب الاقتصادي، وكأنه يقول: إن العالم عبارة عن شركة اقتصادية، وإن الولايات المتحدة الأمريكية هي رئيس هذه الشركة، نعم، إنهم يدركون أن الاتحاد السوفيتي مع أنه كان دولة تملك قوةً عسكرية ضاربة إلا أن الذي هزمه هم والاقتصاد، ولذلك تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن تكون ضمن تحالفاتٍ دولية مع قوى اقتصادية وشراكة اقتصادية تضمن لها تفوقاً دائماً.

ثم يخلص إلى أهمية وجود قوات أمريكية في مناطق مختلفة من العالم، ومنها منطقة الخليج لحماية حلفائها وأصدقائها من أي خطرٍ محتمل.

إن آلية العلاقة بين العالم الإسلامي ودوله وبين الولايات المتحدة قد اختلفت اليوم اختلافاً كبيراً في ظل هذا التحول الاستراتيجي الجديد، وهذا يفرض على دول العالم الإسلامي جميعاً -وهو طرفٌ أساس في هذه العلاقة- أن يراجع هو مفاهيمه، وهو بين خيارين لا ثالث لهما:

الخيار الأول: أن يرسم لنفسه رؤيةً خاصة صادقة، تقوم على قيمه ومبادئه أولاً، وتقوم على مصالحه ثانياً، وتتكيف مع هذا الواقع المتغير، فإن لم يفعل، فإنه سيظل مكتفياً بالمراقبة والانتظار والتساؤل، ومن الواجب على أي دولةٍ من دول العالم أن يكون لها رؤيتها الخاصة المعبرة عن تطلعاتها ورغبات شعوبها، وعن قيمها ومبادئها، وعن مصالحها وحاضرها ومستقبلها.

فيما يخص العالم الإسلامي فهناك أولاً حماية إسرائيل والتأكيد على تفوقها، وعلى التحالف الاستراتيجي الأمريكي معها. إن أمريكا ملتزمةٌ بالتحالف مع إسرائيل، وملتزمةٌ أيضاً بضمان التفوق العسكري وغير العسكري لهذه الدولة المسخ دولة إسرائيل، ليس فقط في مواجهة دولةٍ إسلامية؛ بل في مواجهة العالم الإسلامي كله مجتمعاً.

كذلك: إن التقرير يوجه لهجةً رادعة صارمة إلى الدول الإسلامية التي تعارض السياسة الأمريكية بشكلٍ كلي أو جزئي كـإيران -مثلاً- أو سوريا ، أو السعودية أو غيرها، ويتهم هذه الدول بدعمها للإرهاب، وأن هذا الدعم إذا لم يتراجع فسوف يعرضها لضرباتٍ موجعة.

إن دعم الشعب الفلسطيني يعتبر دعماً للإرهاب .. إن دعم المقاومة الباسلة هو دعمٌ للإرهاب .. إن دعم الجمعيات الخيرية هو دعمٌ للإرهاب، بل لست أبالغ إذا قلت: إن إقامة المدارس، والمؤسسات، والمساجد، والأربطة، وجوانب النشاط الإسلامي الخيري كل ذلك هو دعمٌ للإرهاب، والحسابات الأمريكية تقوم بمتابعته ومراقبته ومحاسبة القائمين عليه حساباً دقيقاً.

محاربة الإرهاب

الأمر الرابع: محاربة الإرهاب دون أن يحددوا ما المقصود بالإرهاب بالضبط. فإنهم يمارسون نوعاً من الإرهاب البشري البشع بآلاتهم العسكرية الضخمة، كما نرى ذلك في حق المدنيين وغير المدنيين سواءً في العراق ، أو في أفغانستان ، أو ما يمارسه اليهود في فلسطين من عمليات إرهابية قاسية ظالمة، لكن هذا كله عندهم له عبارة، وله غطاء من الدفاع عن النفس، ومن المحافظة على الحياة، ومن المحافظة على الحقوق، ومن المحافظة على الحرية، أما ما يقوم به الإسلاميون، وما يقوم به المسلمون فهو الإرهاب بعينه، ولقد قبضوا على يهوديٍ في الولايات المتحدة الأمريكية يسعى ويهم لتفجير مواقع ومؤسسات ومراكز إسلامية، فلم يقيدوا هذه الجريمة على أنها نوعٌ من الإرهاب، وإنما اعتبروها اعتداءً على ممتلكاتٍ خاصة، فهم يتحكمون في تعريف الإرهاب، ويضعونه كما يشاءون، ويرفعونه عمن يشاءون.

التدخل في الشئون الداخلية للدول

النقطة الأخيرة: هي التدخل في الشئون الداخلية للدول، وهذا أمرٌ واضح، فربما لربع قرنٍ أو أقل أو أكثر والله تعالى أعلم ستواجه كثيرٌ من الدول الإسلامية ألواناً من التدخل المؤذي في شئونها الخاصة: التدخل في إعلامها .. التدخل في مناهج التعليم .. التدخل في المناهج الشرعية والكليات الشرعية .. التدخل في قضايا المرأة .. التدخل في قضايا الأقليات كما يسمونها .. التدخل في الحريات الدينية، حرية العبادة ... إلى غير ذلك من العبارات التي كثيراً ما تتردد في التقارير التي تصدر مثلاً عن وزارة الخارجية، أو عن منظمات الحقوق، أو عن وزارة الدفاع، أو عن غيرها، وباسم الحرية وباسم السلام يتم هذا التدخل.

بطبيعة الحال لا شك أن الدول الإسلامية كلما أبدت نوعاً من طأطأة الرأس، ومن الاستسلام، ومن القبول بهذا التدخل أغرت هؤلاء بمزيدٍ منه، وكلما استطاعت أن تراهن على شعوبها، وأن توحد صفها، وأن تقاوم وأن تفرض نوعاً من سيادتها على هؤلاء فإنهم يمكن أن يبتعدوا أو يتأخروا.

هناك ما يسمى بمبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية والتي أعلنتها وزارة الخارجية الأمريكية قبل بضعة أشهر، ورصدت لها (29) مليون دولار، وربما هذه فقط نفقات الدعاية للمشروع، أما المشروع نفسه فلا شك أنه سوف يستغرق مبالغ ضخمة، ولكن السؤال: من هو الذي سوف يدفع فاتورة هذه المبالغ؟

الهدف الأساسي مما يسمى بالشراكة الأمريكية الشرق أوسطية هو إلحاق النظم العربية كلها بالمنظومة الأمريكية، بواسطة إرادة مفروضةٍ بقوة السلاح وقوة التهديد، وقاعدتهم تقول: تكلم بلطف واحمل عصا غليظة، وذلك في ظل اختلالٍ واضح للقوى بين العالم الإسلامي ودولة إسرائيل بمفردها.

إن الإدارة الأمريكية بتوجهها النازي المؤيد للتيار الصهيوني المسيحي المتطرف مصرةٌ على التدخل في خصوصيات المسلمين، وعلى ممارسة لونٍ من التغيير في داخل المجتمع الإسلامي على المستوى الثقافي والعلمي والتعليمي والسياسي وغيره، وهذا هو أيضاً نفس مبادرة باول للشرق الأوسط كما أشرت إليها، وفيها عدد من النقاط خلاصتها هو ما سبق ذكره.

أولاً: السياسة الأمريكية بشكل عام تستهدف تحقيق الحلم الأمريكي بإقامة دولة لها الريادة في المجتمع العالمي، وفي نفس الوقت يتمتع أفرادها بمستوى عالٍ من الأمن والمعيشة، ولذلك يقول أحد الرؤساء الأمريكان - ريجان في تجديد انتخابه-: أيها الأمريكيون! تعالوا لنقيم الجنة على هذه الأرض. فهذا هو الحلم الذي يسعون إليه، رفاهية في الداخل، وأمن قومي مستتب، إضافةً إلى السيطرة على العالم.

وقد تطورت الأسس التي قامت عليها عبر الأوضاع المحلية والمتغيرات الدولية، ففي البداية -مثلاً- كانت استراتيجيتهم تقوم على العزلة التي عبر عنها الرئيس مونرو حينما رسم خريطة الولايات المتحدة الأمريكية ، ورسم حولها أسلاكاً شائكة، ووضع أمامها شعاراً يقول: نحن نرحب بالزائر إذا لم يكن معه بندقية. معناه: أنهم منعزلون على أنفسهم، ولكنهم يرحبون بالزوار، ومن هنا كانت أمريكا مكاناً لاستقبال المهاجرين من أنحاء العالم.

ثم انتقلت بعد ذلك إلى المرحلة الثانية وهي: المشاركة في صياغة النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وملء الفراغ الذي نجم عن تراجع الدور الأوروبي في العالم الإسلامي وغيره.

ثم جاءت المرحلة الثالثة وهي الحرب الباردة، واستراتيجيات الأحلاف العسكرية حتى سقوط الاتحاد السوفيتي.

ونستطيع أن نقول: إن المرحلة الرابعة التي نعيشها هي هذه المرحلة التي يتكلم عنها هذا التقرير الذي أعدته لجان عمل وأوصلته إلى البيت الأبيض، ووزع في ثلاث وعشرين صفحة بالعنوان السابق، وتزامن إعلانه مع مرور عام على أحداث سبتمبر.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5157 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع