هل العلوم الشرعية من العلوم الإنسانية؟
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
هل العلوم الشرعية من العلوم الإنسانية؟الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فللإجابة عن السؤال المتعلِّق بإمكانية تصنيف العلوم الشرعية على أنها من العلوم الإنسانية، يبدو لي أن الأمر يحتاج إلى بيان المقصود بالعلم عند كُتَّاب المنهجية المعاصرين، بالإضافة إلى بيان المقصود بالعلوم الإنسانية، ومكانتها بين العلوم عند المهتمِّين بدراسة مناهج البحث.
أولًا: تعريف العلم عند بعض الباحثين في مناهج البحث:
يبدو أنه لا يوجد اتفاقٌ حول معنى "العلم" بين الباحثين في مناهج البحث، ومن التعريفات التي ذُكِرت للعلم:
1- العلم هو: "المعرفة المنسَّقة التي تنشأ عن الملاحظة والدراسة والتجريب، والتي تتمُّ بغرض تحديد طبيعة أو أُسُس أو أُصُول ما تتمُّ دراستُه"[1].
وهذا التعريف هو التعريف الوارد في قاموس "ويبستر"، ويُلاحَظ منه الإشارة إلى مصادر العلم، وهي: الملاحظة والتجريب؛ للكشف عن الأُسُس والأُصُول لموضوع الدراسة، وهو تعريفٌ شائعٌ في كتب منهج البحث العلمي.
2- قال كامل المغربي: "واليوم يُطلق العلم على مجموعة المعارف المؤيَّدة بالأدلة الحِسِّيَّة، وجملة النواميس التي اكتُشِفتْ لتعليل حوادث الطبيعة تعليلًا مؤسَّسًا على تلك النواميس الثابتة"[2]، ويُلاحظ هنا ربطُ العلم بما تُدركه الحواسُّ.
3- قال علاء إبراهيم زايد بعد أن أورد عددًا من التعريفات: "وجملة القول فإن العلم هو محاولةٌ لاكتشاف العالم المحسوس، ومعرفة العَلاقات المتداخِلة والمنسِّقة للحقائق"[3]، وهذا التعليق من الكاتب رَبطَ معنى العلم بدراسة المحسوسات.
وعند كلام رجاء دويدري عن خصائص التفكير العلميِّ، نصَّتْ على الخصيصة الثانية من خصائص التفكير العلمي بقولها: "الملاحظة الحِسِّية كمصدر وحيد للحقائق"[4].
ففي أكثر كتب منهج البحث العلمي اتجاهٌ واضحٌ يربط العلم بدراسة المحسوسات التي يُمكن إخضاعها للحواسِّ بطريقة أو بأخرى، أما ما لا تُدركه الحواسُّ، فلا يُعدُّ الكلام فيه من قضايا العلم، عند أصحاب هذا الاتجاه، فهذا الاتجاه في تعريف العلم يتَّفق تمامًا مع رأي المدرسة العلمانية الأوربية التي ظهرت بعد سقوط هيمنة الكنيسة على البحث العلمي، فبعد الصِّدام مع الكنيسة بدينها المحرَّف، لم يبقَ عند هذه المدرسة من مصادر المعرفة العلمية إلَّا التجرِبة والملاحظة وما يُبنى عليهما، ومعنى هذا أن الوحي ليس من مصادر المعرفة العلمية عند هذه المدرسة.
ويبدو أن أفكار هذه المدرسة شائعةٌ في كتب منهج البحث، وقد تسرَّبتْ آثارُها وانتشرتْ بين الناس، فنجد مثلًا عباراتٍ شائعةً مثل: "التخصُّص الشرعي والتخصُّص العلمي"، وهذا يُوحي بأن العلوم الشرعية ليستْ من العلم، ونجد أيضًا عبارة: "لا تعارُض بين العلم والدين"، وهذا يُوحي بأن تعلُّم الدين ليس من العلم، ونجد عناوينَ بارزةً مثل: "خطوات منهج البحث العلمي"، وعند فحص هذه الخطوات نجد أنها تختصُّ بدراسة المحسوسات في العلوم الطبيعية، أو الظواهر في العلوم الإنسانية، ولا تنطبق على دراسة المسائل الشرعية كمسائل العقيدة أو الفقه، أما دراسة الغيبيَّات، فهو خارج نطاق البحث في هذه المدرسة الحِسِّيَّة.
وهنا قد يقول قائلٌ: هذه اصطلاحاتٌ ولا مُشاحَّةَ في الاصطلاح، فما المشكلة لو اقتصر معنى العلم على دراسة المحسوسات؟
ويبدو لي أن هذا الاعتراض غيرُ موفَّقٍ؛ لأن معنى العلم والعلماء راسخٌ في القرآن والسُّنة التي ترتكز عليهما العلوم الشرعية.
ثانيًا: المقصود بالعلوم الإنسانية ومكانتها بين العلوم:
يُقصد بالعلوم الإنسانية "تلك التي تصبُّ اهتمامها على دراسة الإنسان من جوانبه المختلفة"[5].
وأبرز هذه العلوم: علم النفس، وعلم الاجتماع، والتاريخ، والاقتصاد، وليس هناك اتِّفاقٌ على تسميتها، فإذا قيل: علوم اجتماعية، فإنه يشير إلى بعضها، ويُطلَق على بعضها علومٌ إنسانية، وقد يذكر أحدٌ هذه التسميات، ويُشير إلى هذه العلوم مجتمعةً، وليس هذا محلَّ مناقشة هذه المسألة.
وقد اختلف الباحثون بشأن هذه العلوم ومكانتها بين العلوم، والنقد يُوجَّه لهذه العلوم من ناحية عدم وجود منهج مُقْنع يُلائم هذه العلوم، فلا ينطبق عليها منهج دراسة الرياضيات، وعند محاولة تطبيق منهج دراسة العلوم الطبيعية (أي: التجربة والملاحظة) على هذه العلوم الإنسانية، فإن الباحثين تواجههم معوقاتٌ كثيرةٌ، منها:
• أن الظواهر التي تدرسها هذه العلوم أشدُّ تعقيدًا من الظواهر التي تدرسها العلوم الطبيعية.
• من الصعب تطبيق التجربة والملاحظة الدقيقة على البشر؛ نظرًا لاختلاف شخصيات البشر وعواطفهم.
• ارتباط الظواهر الإنسانية بزمانٍ ومكانٍ مُحدَّدٍ.
• أن الموضوعية المطلوبة في البحث العلمي قد يتعذَّر تحقيقُها؛ لأن الإنسان مهما بلغ قد يتأثَّر بعواطفه وهواه[6].
ولهذه العقبات يُنظَرُ إلى نتائج البحث في العلوم الإنسانية أو الاجتماعية على أنها احتماليةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ، ولا ترقى إلى مستوى العلوم الطبيعية من حيث الدقة والثبات والعموم، وهذه الملحوظات مشروحةٌ في كتب منهج البحث العلمي.
• ومما سبق يتَّضح أن معنى "العلم" في عُرْف كُتَّاب المنهجية يختصُّ بدراسة الجوانب المحسوسة في الظواهر الطبيعية والاجتماعية أو الإنسانية، وأن العلوم الإنسانية مهما حاولت تطبيق التجربة والملاحظة، فنتائجُها أقلُّ دِقَّةً من العلوم الطبيعية، فإذا كانت هذه حالَ العلوم الإنسانية، فكيف يمكن اعتبار العلوم الشرعية من العلوم الإنسانية؟
هل لأن العلوم الشرعية تتعلَّق بالإنسان أيضًا؟ هذا لا يكفي؛ فالطبُّ أيضًا يتعلَّق بالإنسان ولا يُصنَّف من العلوم الإنسانية.
ثم إن العلوم الشرعية تعتمد على الوحي المنزَّل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الوحي لا يُعتبر من مصادر المعرفة العلمية حسب التعريف الشائع للعلم في كتب المنهجية المعاصرة.
وهناك مشكلة أخرى تتعلَّق بنتائج البحث في العلوم الإنسانية، فهذه النتائج في الجملة لا ترقى إلى مستوى نتائج البحث في العلوم الشرعية من حيث الدِّقة غالبًا، خاصة في مسائل الأصول، فالحقيقة العلمية المستنتجة من دليلٍ شرعيٍّ قطعيِّ الثبوت والدلالة، لا يرقى إلى مستواها (من حيث الثقة) دليلٌ آخرُ؛ لا في العلوم الطبيعية، ولا في العلوم الإنسانية.
وهناك ملحوظة تتعلَّق بأهداف البحث العلميِّ في العلوم الطبيعية والإنسانية كما يقول كُتَّاب المنهجية، فالبحث في هذه العلوم يهدف إلى فهم العلاقات بين الظواهر، والتنبُّؤ باتجاهها، ثم التحكُّم فيها أو ضبطها أو الاستعداد لها قبل حدوثها، ولا حاجة هنا إلى الكلام عن أهداف البحث في العلوم الشرعية؛ فهي معروفةٌ عند أهلها.
إذًا العلوم الشرعية تختلف عن العلوم الإنسانية من حيث المواضيع التي تدرسها، ومن حيث منهج البحث، ومن حيث دقة النتائج التي يتمُّ التوصُّل إليها؛ ولهذا فالعلوم الشرعية مجموعةٌ متميزةٌ عن غيرها من العلوم، لها مواضيعُها، ومنهج البحث فيها يختلف عن غيرها، ولا يصحُّ إضافتها إلى أية مجموعة من العلوم.
[1] عبدالعزيز النهاري؛ حسن السريحي؛ مقدمة في مناهج البحث العلمي، (دار خلود، 2002م)، ص9.
[2] أساليب البحث العلمي في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ط1، (عمَّان، 2002م)، ص14.
[3] منهج البحث العلمي، ط1، (الرياض: مكتبة الرشد، 1428هـ)، ص12.
[4] البحث العلمي؛ أساسياته النظرية وممارسته العملية، ط3، (دمشق: دار الفكر، 1426هـ)، ص31.
[5] ناهد عرفة؛ مناهج البحث العلمي، ط1 (مصر: الجمعية الفلسفية المصرية، 1426هـ)، ص141.
[6] انظر: أحمد بدر؛ أصول البحث العلمي ومناهجه، ط5، (دار المعارف، 1989م)، ص249.
- ناهد عرفة؛ مرجع سابق، ص142.