خصائص وفضائل شهر المحرم
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
اختص الله بمزيد فضله أزمنة على غيرها، وأماكن على غيرها فجعل فيها الخير كثيرًا، والثواب مضاعفًا تفضلًا وتكرُّمًا، ومن ذلك ما جعله الله في المحرم من فضائل وخصائص:منها: أنه من الأشهر الحرم التي قال الله فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ} [ التوبة : 36].
وقد أجمع العلماء على أن المراد بها ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[1].
أخرج البخاري عن أبى بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة حجة الوداع: « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم.
ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»[2].
ومعنى أنه من الأشهر الحرم: أن القتال فيه حرمتُه أعظم وأشد من غيره من الشهور، وإن كان محرمًا في كل وقت وزمان، قال ابن كثير : « وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثةٌ سردٌ وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل شهر الحج شهر، وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر، وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا»[3].
ومنها: أنه الشهر الوحيد الذي أضافه النبي إلى الله.
قال ابن رجب: «وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم شهر الله واضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته كما نسب محمدا وإبرهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء إلى عبوديته ونسب إليه بيته وناقته».
وذكر وجها آخر للإضافة فقال: « وقد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله عز وجل: إنه إشارة إلى أن تحريمه إلى الله عز وجل ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه ويحرمون مكانه صفرا فأشار إلى شهر الله الذي حرمه فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك وتغييره»[4].
ومنها: أن الصيام فيه أفضل صيام بعد الفريضة: أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل»[5].
قال ابن رجب: «وهذا الحديث صريح في أن أفضل ما تطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم» [6].
وقد أجاب عن إشكال أفضلية الصيام بين شعبان والمحرم فقال:
ولكن يقال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شهر شعبان ولم ينقل أنه كان يصوم المحرم إنما كان يصوم عاشوراء وقوله في آخر سنة: «لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع» يدل على أنه كان لا يصوم التاسع قبل ذلك وقد أجاب الناس عن هذا السؤال بأجوبة... والذي ظهر لي والله أعلم أن التطوع بالصيام نوعان:
أحدهما: التطوع المطلق بالصوم فهذا أفضله المحرم، كما أن أفضل التطوع المطلق بالصلاة قيام الليل .
والثاني: ما صيامه تبع لصيام رمضان قبله وبعده فهذا ليس من التطوع المطلق بل صيامه تبع لصيام رمضان وهو ملتحق بصيام رمضان ولهذا قيل: إن صيام ستة أيام من شهر شوال يلتحق بصيام رمضان ويكتب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدهر فرضًا.
فهذا النوع من الصيام ملتحق برمضان وصيامه أفضل التطوع مطلقا فأما التطوع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم) [7].
ومنها: أن فيه يوم عاشوراء الذي نجا الله فيه موسى من بني إسرائيل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: «فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه» [8].
ومنها: قد جُعل الصيام فيه يكفر ذنوب سنة: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» [9].
قال النووي في المجموع شرح المهذب: «...
يكفر كل الذنوب الصغائر، وتقديره يغفر ذنوبه كلها إلا الكبائر....
» ثم قال: « صوم يوم عرفة كفارة سنتين ويوم عاشوراء كفارة سنة وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه....
كلُّ واحد من هذه المذكورات صالحٌ للتكفير فإن وجد ما يكفره من الصغائرِ كفره وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت له به حسنات، ورفعت له به درجات وذلك كصلوات الأنبياء والصالحين والصبيان وصيامهم ووضوئهم وغير ذلك من عباداتهم وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغائر رجونا أن تخفف من الكبائر»[10].
فائدة: أوجه صيام عاشوراء:
الوجه الأول: أن يصوم يوم عاشوراء فقط:
أ- صرح الحنفية بكراهة صوم يوم عاشوراء منفردا عن التاسع، أو عن الحادي عشر.
فذهبوا إلى أن إفراد يوم عاشوراء بالصوم مكروهٌ كراهة تنزيه؛ جاء في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح: [(وأما) القسم السادس وهو المكروه فهو قسمان: مكروه تنزيهًا، ومكروه تحريمًا، الأول الذي كُره تنزيهًا كصوم يوم عاشوراء منفردًا عن التاسع أو الحادي عشر] اهـ[11].
ب- كما صرح الحنابلة: بأنه لا يكره إفراد عاشوراء بالصوم، قال الإمام البهوتي الحنبلي في كشاف القناع عن متن الإقناع: « وَلَا يُكْرَهُ إفْرَادُ الْعَاشِرِ بِالصَّوْمِ، قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ » اهـ[12].
والمختار أنه لا حرج في إفراد عاشوراء بالصيام وحده، لعدم ورود نهي عن ذلك بل ثبت الصيام لمن صام ولو منفردًا بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ»[13].
لكن الخروج من الخلاف مستحب فيصوم يومًا قبه معه أو يومًا بعده معه كما سيأتي.
الوجه الثاني: أن يصوم معه يومًا قبله أو يومًا بعده.
اتفق الفقهاء[14] على سنية صوم عاشوراء وتاسوعاء - وهما: اليوم العاشر، والتاسع من المحرم - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» [15].
قال ابن حجر مبينًا حكمة صيام التاسع مع العاشر: « ثم ما هم به من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطًا له وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح »[16].
أما صيامه مع يوم بعده: فلأن الحكمة هي مخالفة اليهود في صيامهم وذلك يتحقق بصيام التاسع مع العاشر أو الحادي عشر مع العاشر. أخرج الإمام أحمد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَخَالِفُوا فِيهِ الْيَهُودَ، صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا» [17].
الوجه الثالث: أن يصوم يوم التاسع والعاشر والحادي عشر:
قال ابن القيم : « مراتب صومه - أي: عاشوراء - ثلاثة أكملها: أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم وأما إفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار، وعدم تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع، والله الموفق للصواب» [18].
وقال ابن حجر: « وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب أدناها أن يصام وحده وفوقه أن يصام التاسع معه وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر »[19].
قال أحمد مبينًا أحد علل صيام الثلاثة أيام: (فإن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام.
وإنما يفعل ذلك ليتيقن صوم التاسع والعاشر) [20].
وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف عن طاوس رحمه الله أنه كان يصوم قبله وبعده يوما مخافة أن يفوته [21].
والله الموفق..
[1] ينظر: التفسير الوسيط لطنطاوي (6 /278).
[2] البخاري: رقم: 4662.
[3] تفسير ابن كثير 4/ 148.
[4] لطائف المعارف، لابن رجب ص: 36.
[5] مسلم: 1163.
[6] لطائف المعارف، ص: 33.
[7] لطائف المعارف، ص: 34.
[8] البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
[9] مسلم: 1162.
[10] المجموع شرح المهذب 6/ 382.
[11] ص: 640.
[12] 2/ 339.
[13] مسلم
[14] انظر: مراقي الفلاح: ص 106، القوانين الفقهية: ص 114، كشاف القناع: 393/2 - 396، مغني المحتاج: 1 /446، الموسوعة الفقهية الكويتية 28 /87، الفقه الإسلامي وأدلته 2 /1644.
[15] مسلم.
[16] فتح الباري لابن حجر 4/ 245.
[17] أخرجه أحمد في المسند رقم: 2155.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار وفيه محمد بن أبي ليلى.
وفيه كلام.
مجمع الزوائد للهيثمي 3 / 188.
[18] زاد المعاد لابن القيم 3/ 72.
[19] فتح الباري لابن حجر 4 / 246.
[20] المغني لابن قدامة 3/ 178.
[21] مصنف ابن أبي شيبة 2 /313.
___________________________________________
الكاتب: الحسين عبداللطيف خضر