رسائل إلى الدعاة إلى الله
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
رسائل إلى الدعاة إلى اللهالإخلاص لله:
الإخلاص لله أعظم الأصول في الإسلام، وأصدق إن قلت: إن غاية هذا الدين هو إخلاص العبادة لله؛ لمَ؟ لأن الذي أوجدني وأوجدَكَ أحقُّ بالعبادة؛ وهو القائل: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]؛ أي: ليَعبدوني وحدي، وليُخلصوا العبادة لي وحدي؛ يقول شيخ الإسلام رحمه الله في بيان أهمية أعمال القلوب: "وهي مِن أصول الإيمان وقواعد الدين، مثل محبَّته لله ورسوله، والتوكُّل على الله، وإخلاص الدين لله، والشُّكر له، والصبر على حكمِه، والخوف منه، والرجاء له، وما يَتْبع ذلك" ا.هـ، فلإخلاص حقيقة الدِّين ومَضمون رسالة الله؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]، قال الفُضيل بن عياض في هذه الآية: "أخلَصُه وأصوَبُه"، قيل: "يا أبا عليٍّ، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبَل، حتَّى يكون خالصًا صوابًا؛ والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنَّة" ا.هـ.
الإخلاص سبب في عِظَم الجزاء مع قلَّة العمل، وتفريج الكربات، والحفاظ من الوقوع في المعاصي؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]، والإخلاص سبب للغُفران ونَيل الرِّضوان ولشَفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
بعض السلف يكون عنده زوَّار فيَقوم من الليل يُصلي ولا يعلم به زوارُه، وكانوا يَجتهدون في الدعاء ولا يُسمع لهم صوتٌ، وكان الرجل ينام مع امرأته على وسادة فيَبكي طول ليلته وهي لا تَشعُر، ويقول الشافعي رحمه الله: "وددتُ أن الناس تعلَّموا هذا العلم - يعني كتبه - على ألا يُنسب إليَّ منه شيء"، فأعينوا أنفسكم في تحقيقه على تعظيم الله؛ وذلك بتوحيده، والخوف منه إذا اطَّلع على قلبك وأنت تُرائي، والإكثار من عبادات الخفاء، والإلحاح بالدعاء.
الشهرة:
هذه الشَّهوة التي تَجرح الإخلاص أمرها مذموم، وخطرُها عظيم، وطالبها كاذب في قصدِه الذي يَزعم فيه أنه لله مخلصٌ، فهي ذلَّة للتابع وفتنة للمَتبوع، ويُروى في ذمِّها والتحذير منها آثار مُتواترة؛ عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أنه قال: ما صدَق اللهَ مَن أحبَّ الشُّهرة، ويقول عليٌّ رضي الله عنه: "تبذَّل ولا تشتهر، ولا ترفع شخصك لتُذكر، وتعلَّم واكتُم، واصمتْ تسلَم؛ تسُر الأبرار، وتغيظ الفجار"، وروي أن رجلًا صحب ابن محيريز في سفرٍ، فلمَّا فارَقَه قال: أوصِني، فقال: إن استطعت أن تَعرف ولا تُعرف، وتَمشي ولا يُمشى إليك، وتَسأل ولا تُسأل، فافعل.
ومواقف السلف عجيبة غريبة في تجنُّبها؛ من ذلك ما يُروى عن خالد بن معدان أنه كان إذا كثرت حلقتُه قام مخافة الشُّهرة، وعن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام، وقال معمر: عاتبتُ أيوب على طول قميصِه، فقال: إنَّ الشُّهرة فيما مضى كانت في طوله، وهي اليوم في تشميره، وخرَج الحسن ذات يوم فاتَّبعه قوم فقال: هل لكم من حاجة؟ وإلا فما عسى أن يُبقي هذا من قلب المؤمن؟
ووسائل التواصل اليوم كشفت المخلص من المتحايل، والعالم من المتعالِم، وطالب العلم من طالب الدنيا، والسلف في وقتِهم كانوا يَكرهون الشهرة من الثياب الجيدة والرديئة؛ إذ الأبصار تمتد إليهم، فهذا في لباس، فكيف بقول؟ فكيف بفعل؟ فكيف بمخالفة شرع الله، وكان بعضهم تعرض له الحكمة على لسانه، فلا يَنطق بها مخافة الشُّهرة، واليوم يفرحون بكثرة المتابِعين وبكثرة المديح والإطراء، فالله المستعان، أين نحن من أخلاق السلف ومن حِكمتهم ورشادهم واتزانهم؟!
الرد على المخالف:
الردُّ على المخالف له قدر كبير وشأن عظيم في الإسلام، فهو أمر لازم على الداعية العالم، ساقط عن الجاهل والمتعالم؛ لحفظ الدين من التبديل والتحريف، ولرفع الحق وكشف الباطل، وقد شطَّ القوم فيه بين جُفاة وغلاة، والحق ما توسَّطَهما، فتسرع الغلاة دون تدبُّر، وتكلَّموا دون علم، وأخَذَهم الحسد والتشفِّي، والشُّهرة والرِّياء دون تعقُّل ومراعاة للمصالح والمفاسد، وأخَذهم التسرُّع للرد دون تثبُّت وتحرٍّ، بل ربَّما يصل للتقوُّل والتجريح، لا على مسائل أصوليَّة، بل على مسائل اجتهاديَّة يسوغ الخلاف فيها، وإخراج المخالف من السنَّة إلى البدعة أمر شديد، وأمر كبير وعظيم إن كان من الدين.
فإذا المخالف صنِّف من المضلِّين، فيحل لهم هتك عرضه وشتمُه، بل يصل بهم الأمر إلى قتله كما تفعل الخوارج ومَن نَحا نحوهم، فالتعصُّب لغير المعصوم ضلالة وجهالة، يتصيدون الهفوات، ويَفرحون بالزلات، ويَدخلون في النيات، ويحملون الكلام أسوأ الاحتمالات، فصرفوا طاقاتهم، وضيعوا أوقاتهم، وشغلوا أنفسهم في التنقيب عن الأخطاء وتتبُّع زلات إخوانهم، فلا رسخت أقدامهم في العلم، ولا لهم نصيب من الدعوة إلى الله، بل أشعَلوا نار الفتن، وفرَّقوا الصف؛ فضعفتْ قوة أهل السنة، وقويتْ شوكةُ أهل البدعة، وهان على الجفاة أمر الشرع بدعوى الحفاظ على وحدة المسلمين، فسكَتوا عن أهل الباطل، وألجَموا أفواههم عن قول الحق الذي به يُؤمرون، فهؤلاء توسَّموا النفاق والجهل، وكانوا عونًا معينًا لأهل الباطل، فعقب ذلك اندراس معالم الدين وانطماس الحقائق، وانتشار البدع والمنكرات، وانقلاب الموازين، واضطراب المفاهيم، والحق بين هذا وهذا، والتخلص من مسالِكهم، فإخلاص ومُتابعة وأهلية وعدالة وقول حسن، والموفَّق مَن وفَّقَه اللهُ.
هذه رسائل من القلب إلى القلب، فكلُّنا مقصرون، ولم ينجُ منه أحد، وكلنا مُخطئون، وهذه طبيعة البشر، فلا أحد يَسلم منه، لكن الخطر أن تسمح للشيطان أن يستثمر ذنبك ويُرابي في خطيئتك.
أسأل الله أن يَكلأكم برعايته، ويحوطكم بعنايته، ويهديكم ويسدِّدكم.