لحظات الغياب والحضور
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
لحظات الغياب والحضور في لحظات غيابٍ عن أنه - تعالى - معي ويُراقبني، تفلت الحماقة، ثم من كثرتها - لحظات الغياب - نُصبح مكشوفين لغزو "الغفلة"، وكأني بها صارت لأكثرنا لحظات حضور، وساعات غياب في هذا الزمن الصعب!
مسكين أيها الإنسان، روحك الظمأى كيف تُشبعها لحظات؟!
وما أحوجَك للاستغفار في تلك اللحظات؛ تدفع به الغفلة وما هو أطغى؛ لنَنجو بها!
ومع الاستغفار تتجمع لحظات الحضور التي تَقتات عليها الروح، فتقلُّ الحماقات والضلالات، ويمتد زمن اللقاء مع الرحمن، وتُحلِّق الروح؛ لتغشانا السكينة والرحمة في التهجد والجُمَع، في رمضان، في عشر ذي الحجة والبيت الحرام، وفي بلد جريح يتطهَّر بدماء أبنائه صبحَ مساء.
التقصير في الاستغفار:
عندما نفكِّر في الدعاء لله تعالى، نجدنا مَسوقين لما هو بين يدي الدعاء، وما هو شرط للتمكُّن منه؛ وهو الاستغفار، ويضرب الله تعالى لنا مثلاً دعاء الرِّبيِّين: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 147]، فقدَّموا الاستغفار بين يدَي طلب التثبيت والنصر من الله تعالى.
اللهم اغفر لنا...
اللهم اغفر لنا!
بصدق، بتجرُّد، بتذلُّل لله تعالى! كلمات بسيطة، فيها ضراعة، صدق في الإقرار بالذنب، إقبال وحنين لقبول الرحمن، بل وطمع المُشفِق بالمغفرة!
ولكن - لأمرٍ ما - إذا قلَّبت بصرك بين الناس وجدت:
• أن قلَّة منهم من يستغفرون؛ لشُيوع الغفلة والتكبُّر - والله أعلم - دون أن ننسى أثر التربية بالنسبة للطفل!
• وأنَّ قلَّة من المستغفرين يتدبرون ما يقولون وهم يستغفرون!
لماذا هذا التقصير في الاستغفار؟ إن تحديد ما أجملناه وتوضيحه هو أول خطوات العلاج:
أ- لعله جهْل بالتنزيل والسيرة، إن لم يكن نقصًا في الإيمان.
ومع الأسف يترفَّع كثير منا عن الاستغفار، وتسمع عبارات مثل: "عن ماذا أتوب؟!"، "أنا لم أذنب"![1] "مللتُ وأنا أسمع هذه الكلمات وأقرأ المنشورات عن المغفرة"، "ليقولها (فلان أو الشيخ) لنفسه"!
حقًّا؛ لأن الاستغفار يجب أن يكون نابعًا من النفس لوجه رب النفس!
ولكنك إذا نالك من الله فضلٌ، أحببت أن تُشارك به أصحابك وإخوانك فذكَّرتهم.
وأقول في عجالة: لا تنتظر ذنبًا كبيرًا حتى تستغفر، فلقد كان الأنبياء يستغفرون، والصحابة والتابعون، وأنا وأنت لسنا أفضل منهم!
الاستغفار الوقائي:
بل إن هنالك استغفارًا استباقيًّا علَّمنا إياه الحبيب؛ مثل اللقاحات (الطعوم) التي تُعطى للطفل كيلا يمرض، فالجراثيم والفيروسات في كل مكان، وكذلك الذنوب ودواعيها، (وعمومًا هنالك لقاحات نفسية واجتماعية يلاحظها الباحث المدقق)، ومن أدلة هذا الاستغفار الاستباقي الوقائي: قولُه صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ((الشرك فيكم أَخفى من دبيب النمل، وسأدلُّك على شيء إذا فعلتَه أذهب عنك صغار الشِّرك وكباره؛ تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفِرك لما لا أعلم))؛ الألباني، صحيح الجامع[2].
ويتميَّز الاستغفار الوقائي على اللقاح الجِسمي ويتفوَّق عليه طبعًا، فهو - على الأقل - وقاية وعلاج في الموطن ذاته: عندما يَقتضي الحال يؤدِّي الدورين معًا، أو يَنتقِل من أحدهما للآخر، ومثال ذلك: دعاء كفَّارة المَجلس: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من جلس في مجلس كَثُر فيه لغطه، ثم قال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غُفر له ما كان في مجلسه ذلك))؛ صحيح ابن حبان، وكثيرًا ما ننسى قوله: غفر الله لنا.
ب- ولعلَّه خلل تربوي، لا سيما في مجال التربية بالقدوة، وهذه ثغرة قلَّ مَن يتنبَّه لها في توجيه الناشئة؛ بحيث يؤدي الاستغفار على وجهه، وأقول للقارئ بدايةً: ثِق أنك - على أي ثغر كنت - عندما تُعلِّم طفلاً في دائرة اهتمامك الاستغفارَ الحقيقي من خلالك، فلن ينقص هيبتَك، علِّمه أنك أخطأت أو قد تُخطئ، بل ستزيد وضاءةً ونورًا في عينه.
ولكن الأسوأ من ذلك أن الطفل يسمَع عن الاستغفار في مُناسبات عجيبة في الأسرة أو المجتمع:
إذا غضب أحد الكبار لخطأ آخرين، قال - وربما بما يُشبه الصياح -: أستغفر الله وأتوب إليه من هذا القول أو العمل، ومن هؤلاء الناس.
وإذا تشاحن اثنان أو تشاجَرا قال الثالث وهو يفرِّق بينهما: تعالَ اهدأ واستغفر ربك، بينما طِفلة في الزاوية تتفرج وترتعِد، والمتشاجر يصيح: "دعني، هو من عليه أن يَستغفِر..".
وإذا لم يعجب إحداهنَّ - في لقاءٍ أهليٍّ - كلامُ أخرى عن أمر سبَقَ - وكلٌّ منهما تراه من زاويتها - قاطعتْها فجأة بنبرة عجيبة وعينين غاضبتين: "استغفِري ربكِ..
استغفري ربك..
ما هكذا كان...
استغفري.."! وطفل جالس يرى مشدوهًا "الانطباع" أو "الفِكرة" تتحول إلى ذنب، وينتظر وقوع العقاب على التي لم تستغفر (وقد تكون أمه أو أخته)! ثم يقول لنفسه "ربما ذاك استغفار آخر، الذي في المدرسة أو دار التحفيظ"، وإن كان محظوظًا سأل وهو يقرأ القرآن وتفسيره مع أحد والديه، وعَلِم وتعلَّم، فالكبار لا يَنتبِهون عادةً لأثر أقوالهم وتصرُّفاتهم على الطفل حتى يسألهم!
وفي النهاية معظم هذا الجيل - كالذي سبَقَه لا يَستغفِر - والآثار السلبية لذلك جمة غفيرة!
أريد أن أستغفر: بالإجمال فإن التقصير في الاستغفار هو أمر مؤلم؛ لأنه يَعكس فتورًا في علاقتنا مع خالقنا، ونحن مُسلمون منذ مئات السنين، فما بالك بمن أسلم منذ ساعات أو أقل، وعلى غرار دورات التنمية الذاتية (التي غدَت "موضة" يتسابَقُ الناس عليها)، بل أهمُّ منها، دروس تربوية إسلامية؛ لتنمية الأخلاق الإيمانية، وغيض مِن فَيض هذا الـ"درس":
من أشداء في الكفر..
لأشداء في الاستغفار:
مع تفاوت العمل الصالح الذي يُقدِّمه كل مُستغفر بين يدي استغفاره لرب العالمين، تتفاوَت صيغة طلب المغفرة ومضمونها؛ فسحَرة فرعون أهل السبق والريادة في الإيمان، لم يمتدَّ إيمانهم إلا هنيهة قبل أن يقدِّموا حياتهم بين يدي استغفارهم لبارئهم؛ لذلك كان طلبُهم "طمعًا" - كما سمَّاه ربُّ العِزَّة - على عِظَم خطاياهم قبله، فتكاد تبلغ عنان السماء، تخيل! ﴿ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 50، 51]، وكان لهم ذلك.
وأحسب أن الطمع في المغفرة يجب أن يكون حال كل مؤمن صادق صالح، فإن قوة العلاقة مع رب العالمين تمنَح الإنسان مهما كان حديثَ عهدٍ بالإيمان أو بتجديده وتقويته - اندفاعًا وإصرارًا في طلب المغفرة عما سلف، تتضاءل أمامه دعواتُ أكثرِنا عبادةً بطلب المغفرة، فلا تثقلنَّ أحدَنا ذنوبُه عن الاستغفار؛ لأنها من حيَلِ الشيطان؛ انطلاقًا من الحديث الصحيح في أنه على العبد ((أن يعزم في المسألة؛ فإن الله لا مُستكرِه له))، اللهم اغفر لنا وتب علينا..
رب غفرانك..
رب غفرانك..
ارحمنا...
نعمة الاستغفار ضمانة وجودٍ وثَمرات:
انظر للطفل الصغير عندما يُغضب أمه وتقطِّب في وجهه - وهو لم يُبِنْ - كيف يقوم بمناورات لإضحاكها، ويَميل بوجهه حيث مال وجهها إذ تشيح عنه؟! فالإنسان مفطور على طلب العفو والمغفرة، ولله المثل الأعلى.
ولقد أكرمنا الله تعالى بنِعمة الاستغفار، كرمًا لا يدركه إلا المتأمل في آياته سبحانه وسنَّة نبيه؛ إذ هو يعود علينا بنِعَم أوسع بكثير وأعظم من مجرد الحصول على ما استغفرنا لأجله من تغطية ذنوبنا (المعنى الحرفي للاستغفار والمغفرة)، ويشمل فيما يشمل: الشفاء، والإمطار، والإثراء، والإنجاب؛ (سورة نوح)، والقوة، والمتاع الحسن (سورة هود)، والقربى لله تعالى وحسْن المآب (داود في سورة "ص").
وهذه بعض التأمُّلات في الثمرات:
كثيرًا ما نقرأ أو نسمع عبارة: "الحمد لله، الذنوب ليست لها رائحة"!
وإن عدم استغفار أصحاب الذنوب يُغطِّيه إلى حدٍّ ما استِغفار صالِحي الأمة، صلى الله وسلم على الحبيب إذ يقول: ((اللهم اغفِر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))، وقال الإمام النووي في مصنَّفه "الأذكار النووية": "ويُستحبُّ مع المُصافحة البشاشة بالوجه والدعاء بالمَغفرة وغيرها"، ولو طبَّقنا هذه النصيحة بشكل تبادُلي لانتشَر عبير المَغفرة! عن نفسي لم أجرِّبها تلك النصيحة في المصافحة، وعمومًا يسرُّني أن يُدعى لي بالمغفرة، وأتذكَّر أحيانًا قوله تعالى لحبيبنا: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 43] فأبتسِم وأنا أؤمِّن على الدعاء لي بالمغفرة؛ ولكنني أحسب أنك لو دعوتَ اليوم لأحد بالمغفرة وأنت تُصافحه لاعتبرها انتقاصًا منه (ولا أريد أن أقول: شتيمة)، إلا من رحم ربي..!
وعندما تكثر ذنوب الناس وتشيع، وما من وازع، ويقلُّ الاستغفار، فالمرء "يشمُّها"، ويحسُّ بها؛ لذلك نَشعر بغثيان حقيقي في بعض المواطن! ربنا غفرانك، ارحمنا!
والقرآن الكريم يُشعرك أن الاستغفار وجوابه المغفرة من الله تعالى هو مِن دعائم استقرار السموات والأرض، واستمرار الحياة في هذا الكون، فلولا أن هذا الإله الخالق المدبِّرُ - سبحانه - حليم على تجاوزات ومعاصي عباده - سُكان أرضه، المُستظلِّين بسمواته - ولولا أنه غفور لهذه المعاصي: لزالَتا! يقول تعالى في سورة فاطر: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41].
الله أكبر، كم تهزُّني هذه الآية! غفرانك...
سبحانك؛ ما أبقى السماءَ تُظلُّنا، ولا الأرضَ تُقلُّنا، إلا حلمُ الله تعالى على سوئنا، وغُفرانه لذنوبنا إذ نستغفر.
فاستغفروا يرحمكم الله، قبل رمضان، وفي رمضان، وبعد رمضان...
اللهم غفرانك، ارحمنا ربنا، وارفع عنا الضَّيْم.
والاستغفار داء ودواء، ورحم الله السلف الصالح؛ قال قتادة: "إن هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم؛ فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار"[3].
وها هنا ملحوظة مهمَّة:
فنحن عندما نصف الدواء لمريض ونقول له: "حبة" كل ثماني ساعات لمدة عشرة أيام، يتقبَّل ذلك بيُسر، وعندما نعطي اللقاح للوقاية من شلل الأطفال مثلاً ونقول للأهل: هناك جرعة بعد شهر ثم شهر ثم سنَة، فإنهم يَنصاعون دون نقاش، بينما التذمر واستعجال الثمرات بشأن أدوية القلوب والذنوب هو القاعدة، علمًا أن للتَّكرار والصبر والاستمرار في علاقتنا مع هِبات رب العباد العلاجية والوقائية - نفس الأهمية بل وأكثر من تلك مع جرعات تحصين وعلاج الأبدان، وقد عرف علماؤنا ذلك القانون العلاجي والوقائي قبل أطباء الأبدان بعقود، ومِن الكلام الطيب في ذلك: قول ابن رجب في "جامع العلوم والحكم": "قال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلى موائدكم وفي طُرقكم وفي أسواقكم وفي مجالسكم، وأينما كنتم؛ فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة"[4].
وأخيرًا: فمن ثمرات الاستغفار - بالإضافة إلى الإمطار والإثراء والإنجاب...
وغيرها: رفع العذاب والهلاك عن الأمة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33].
رحماك ربي...
نجِّنا من الغفلة عن الاستغفار، وارفع البلاء والعذاب عن صغيرِنا وكبيرنا وكل نسمة فينا...
غفرانك.
[1] في خلط بينهما لا مجال هنا لتفصيله، فالاستغفار والتوبة غير متطابقين كما وضح علماؤنا.
[2] وقوله عليه الصلاة والسلام: ((اللهم اغفر لي ما قدمتُ وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت))؛ صحيح مسلم، ومن أدعيته صلى الله عليه وسلم في السجود - كما ورد في الصحيح -: ((اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقَّه وجلَّه، أوله وآخره، علانيته وسرَّه، ما علمتُ منه وما لم أعلم))؛ صفة صلاة النبي؛ للألباني.
[3] جامع العلوم والحكم؛ لابن رجب الحنبلي (ص: 344).
[4] جامع العلوم والحكم؛ لابن رجب الحنبلي (ص: 344).