أرشيف المقالات

العولمة ومخاطر طمس الهوية

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
لا شك أن مخاطر العولمة على ثقافات الشعوب، والمَسّ بهُوِيَّتها؛ تشكل تحدياً جديّاً يقلق المهتمين بأصالة الهُوِيَّات، والموروث الثقافي للشعوب والمجتمعات، وذلك من منطلق أن العولمة تزعم أن كل البشر يجب أن يكونوا مجتمعاً عالميّاً واحداً، قائماً على معتقدات وثقافة واحدة، تنطلق من المعايير الكونية للسلوك الغربي بشقيه: الأوروبي منه والأمريكي، والتي يجب أن تطبق وتفرض على كل المجتمعات؛ لتتطابق سلوكياتها، وأنماط معيشتها مع تلك المعايير سواء تم ذلك بالقوة، أو بالكنس المعولم المدعوم بوسائل الغزو العلمي، والتكنولوجي، والمعلوماتي، المعتمدة في الغرب اليوم، وذلك في مجافاة صارخة للقانون الإلهي المركزي، القائم على تعدد الأمم والملل في سياق سنة الله في خلقه على قاعدة: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة:48].
لذلك بادر المهتمون بهذا الأمر في بلدان العالم الثالث، وفي المقدمة منها شرقنا العربي والإسلامي؛ إلى التحذير من الآثار والتداعيات الخطيرة التي تتركها العولمة بتيارها الجارف والمتعجرف، في اندثار الثقافات المختلفة للشعوب خاصة وأن كل ثقافة من ثقافات تلك الشعوب تمثِّل - بحد ذاتها - منظومة من الميراث الفكري والمعتقد الإنساني الذي يمثل إبداعاً للفكر الإنساني بمجمله، مهما كان ذلك النتاج متواضعاً قياساً بمؤشرات الحضارة الغربية الراهنة.
ولا جرم أن تلك المنظومات التراثية ما هي في حقيقة الأمر إلا خصوصيات الشعوب في أنماط طريقة عيشها، وسعيها لحل المشكلات التي واجهتها، وآليات تعاملها مع البيئة المتعايشة معها: إنساناً، وزماناً، ومكاناً، في جدلية تواصل عضوية لا تنفصم، حتى إنها فاضت بها قريحتها: شعراً، وأساطير، وحكايات، وملاحم بطولية ظل تداولها متواصلاً من جيل إلى جيل في مسيرتها الإنسانية عبر الزمن.
وعليه فإن تقويضها، واندثارها بالتجاوز عليها؛ يحرم بقية الإنسانية من خبرات متراكمة، يمكن لها أن تسهم في التطور والنمو الإنساني الراهن ليس بالضرورة على قاعدة التعقيب الآلي وإنما بالاستلهام الإيجابي لخمائر الإبداع في تلك الموروثات في كل ما هو إيجابي ومفيد منها، وعلى سبيل العبرة والاتعاظ في كل ما هو سلبي وضار فيها.
ولعل في مقدمة الأخطار المحدقة بالهُويَّات الوطنية - إضافة إلى ما تقدَّم من تحديات -: خطر الاختفاء التدريجي للغة المستخدمة، فأي مجتمع مستهدَف بالعولمة يبدأ بخسارة لغته التي هي أداة التواصل بين أبناء الأمة، والطريق الذي يربط مجتمعها بأصوله، وبهذا يصبح من السهل احتواء ذلك المجتمع، ومن ثَمَّ تخليه عن ثقافته من خلال انزلاقه في تقبل القيم الثقافية الدخيلة التي تفرض عليه، واستمرائها بمرور الوقت ؛ بغضِّ النظر عن آليات ووسائل الفرض والإجبار، حتى تتمكن رياح العولمة - بالمحصلة - من إلقائه في متاهات الضياع والاستلاب، وما يترتب على هذا الوضع المتأزم من فقدان للهُوِيَّة، وضياع للكيان، وتفريط في مقومات الوجود.
ولأن الموروث الثقافي هو ذاكرة الأمة التي إن محيت فإن الأمة ستصبح كياناً خرفاً بلا ذاكرة، تتخبط ولا تعرف كيف تهتدي إلى سبيل الرشاد؛ لذلك فإن الانتباه إلى مخاطر مسخها بالعولمة الجارفة يصبح مسألة منافحة عن الوجود تستوجب استنفار طاقات الموروث الحضاري للأمة بكل أبعادها: الفكرية، والدينية، والاجتماعية، والمادية، وحشدها في مواجهة رياح العولمة في جوانبها السلبية التي تستهدف المس بمقومات الأصالة.
ولأن المجتمعات كائنات حية، دائمة التطور والنمو، وهي قابلة للتعايش مع المتغيرات التي تطرأ على أساليب حياتها بموجب مقتضيات التطور؛ فإنه يجب العمل على إيجاد السبل الملائمة لقبول ثقافة العيش في عالم متعدد الأعراق والثقافات، وقادر على التعايش في وئام على قاعدة: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] بحيث يتمكن أي مجتمع أن يفيد ويستفيد مما تقدمه الإنسانية من عطاءات في مجالات: العلوم، والتكنولوجيا، والمعلوماتية، والمعارف الأخرى دون أن يشعر أي منها بتحديات تستهدف الهُوِيَّة والوجود.
وعليه؛ فإنه من أجل ضمان الارتقاء بحس التعايش الجمعي، والنمو الآمن؛ فإن علينا أن ندرك أن التغير لا يعني بالضرورة خسارة الهُوِيَّة لأي مجتمع، بل والأهم من ذلك كله الحرص على البقاء المقرون بالأصالة، المتصلة بالعصر اتصالاً حيّاً وحركيّاً، يواكب إيقاعات التطور المعاصر بسلاسة، ولا يعرقل مسيرة: الإعمار، والبناء، والتقدم على الأرض.
وإذا كانت الدول النامية قد فاتتها فرصة المشاركة في رسم ملامح عصر الصناعة؛ لأسباب ذاتية، وموضوعية معروفة؛ فإنه لا ينبغي لها في عصر المدنية المعلوماتية أن تخسر هذه الفرصة اليوم، وعليه فإنها يجب أن تتخلى عن نهج التبعية، وتنتهج الطريق المستقل للتنمية والتطور بحيث تحمل مردودات التطور، ومنتجات حركة النمو في مسيرتها المعاصرة، ملامح الخصوصية الوطنية كعلامة فارقة بشكل واضح؛ وذلك من خلال العمل على استيعاب معطيات العولمة، وهضمها، وتطويعها؛ لكي تصب في مصلحة الخصوصية الوطنية، وليس صهرها، وطمس معالمها، بحيث يأتي هذا النهج في مقدمة الأوليات الوطنية للتنمية المستدامة لاسيما وأن العولمة لم تعد محصورة في الاقتصاد والتكنولوجيا والمعلوماتية فقط؛ بل إن تأثيراتها بكل منعكساتها قد تخطت تلك المجالات لتخترق مجالات التربية ، والتعليم، والثقافة العامة، مما يحتم على المعنيين بالأمر أن يتداركوا الحال، وينتبهوا لدراسة هذا التأثير الحاسم، ويستعدوا لمواجهة تداعياته قبل أن تطيح رياح العولمة بقواعد بنيان الهُوِيَّة الوطنية، وتنسف ركائز ثوابته؛ لنتيه عندئذٍ في فضاء العولمة المفتوح في كل الاتجاهات، والتي تصادر - بدون تحصين مسبق - الخصوصية الوطنية للأمة بالكامل، وتمسخ ملامح الهُوِيَّة؛ فيختلط الأمر علينا عندئذٍ في اختيار نهج التنمية الأنسب عند الشروع في إعادة بناء الحاضر الممسوخ، الغارق في متاهات الضياع والاستلاب، حيث إن الناموس الكوني للتغيير قائم على قانون: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]؛ فنخسر بذلك فرصة التاريخ.


نايف عبوش

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢