شرح الأصول الثلاثة [15]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

تكلمنا في ما تقدم عن شيء من أدلة البعث، وذكرنا من أدلة البعث الحس، وأنه ورد بعث الموتى في القرآن في سورة البقرة في خمسة مواضع:

الموضع الأول: قتيل بني إسرائيل.

والموضع الثاني في: الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243] .

والموضع الثالث: قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260].

والموضع الرابع: في قصة الرجل الذي مر على القرية فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ [البقرة:259] ... إلى آخره.

والموضع الخامس: في قوم موسى الذين قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]، أي لما اختار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقات الله عز وجل، فسألوا موسى أن يريهم الله عز وجل جهرة، فأهلكهم الله عز وجل ثم بعد ذلك بعثهم.

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع].

الطاغوت: مشتق من الطغيان، والطغيان: مجاوزة الحد، ومن ذلك قول الله عز وجل: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11] يعني: زاد الماء عن حده المعتاد حملناكم في السفينة.

وأما في الاصطلاح من أجمع التعاريف في تعريف الطاغوت ما ذكره ابن القيم رحمه الله، وإلا فإن للطاغوت عدة تعاريف، عرف بأنه السحر، وعرف بأنه الكهانة، وعرف بأنه الأصنام، وهذه التعاريف على سبيل المثال، وهذه التعاريف كما سنذكرها في كتاب التوحيد، لكن ما ذكره ابن القيم رحمه الله على سبيل الحد والضبط، وأنه ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.

المعبود والمتبوع والمطاع هؤلاء ينقسمون إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكونوا صالحين، مثل: عيسى عليه الصلاة والسلام، فإنه عبد من دون الله عز وجل، مثل: الملائكة، مثل: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم... إلى آخره، فنقول: هؤلاء لا يدخلون في الطاغوت، هذا القسم الأول.

القسم الثاني: أن يكونوا غير صالحين، فإنهم يدخلون في الطاغوت، مثل: ابن العربي والحلاج ، فهؤلاء من أئمة الكفر والضلال، فإنهم يكونون داخلين في الطاغوت.

أو يقال: في قوله: (ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع) يعني: مع رضاهم، معبود يعبد من دون الله عز وجل ويرضى بذلك، يتبع في غير طاعة الله عز وجل ويرضى بذلك، مطاع في غير طاعة الله عز وجل ويرضى في ذلك.

أو يقال: (ما تجاوز به العبد حده) هذا باعتبار العابد والتابع والمطيع، يعني: هو طاغوت باعتبار عابده، أو طاغوت باعتبار تابعه، أو طاغوت باعتبار مطيعه... وهكذا.

وقوله: (من معبود) مثل: الأصنام، فهذه الأصنام طواغيت، وكذلك مثل أئمة الخرافة والصوفية الذين يعبدون من دون الله عز وجل، ومثل أصحاب القبور الذين يعبدون من دون الله عز وجل وهم راضون بذلك في حال حياتهم. هذا قوله: (من معبود).

قوله: (أو متبوع) مثل علماء السوء الذين يدعون الناس إلى الضلال والكفر، أو البدع، أو تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله... إلى آخره.

قوله: (أو مطاع) هذا يراد به الأمراء، إذا أمروا بما يخالف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال: [والطواغيت كثيرة ورؤوسهم خمسة].

الطواغيت كثيرون كما ذكر ابن القيم رحمه الله حدهم معبود أو متبوع أو مطاع، وكما ذكرنا أن بعض العلماء فسر الطاغوت بأنه الساحر، وفسر بأنه الكاهن، وفسر بأنه الصنم... إلى آخره، ولهذا قال: (الطواغيت كثيرة، ورءوسهم خمسة) يعني: علماؤهم وكبراؤهم خمسة:

قال: [إبليس لعنه الله].

إبليس هذا أبو الجن، وكان مع الملائكة وليس من الملائكة، لكن الله عز وجل أعطاه نفوذاً إلى أن يكون معهم، فلما أمرت الملائكة بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام ظهر ما فيه من الخبث والإباء والاستكبار، فأبى واستكبر، فطرده الله عز وجل من رحمته، كما قال سبحانه وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34] .

قال: [ومن عبد وهو راض].

يعني: من عبد من دون الله عز وجل وهو راض بالعبادة، كما ذكرنا كأئمة الصوفية والخرافة الآن وأئمة الرافضة الذين يعبدون من دون الله عز وجل، وأئمة الباطنية والإسماعيلية، فهؤلاء الذين تصرف لهم أنواع العبادة من دون الله عز وجل هم طواغيت.

قال: [ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه].

وهذا كما ذكرنا أئمة الصوفية والخرافة والإسماعيلية والباطنية والرافضة يدعون الناس إلى عبادة أنفسهم بالحال والمقام، بالمقام يصرحون، أو بالحال يرضون، وأن تصرف لهم أنواع العبادة، فإن هذا نوع من الدعوة إلى عبادة أنفسهم ما دام أنهم لم ينكروا.

قال رحمه الله: [ومن ادعى شيئاً من علم الغيب].

معرفة الغيب المطلق هذا خاص بالله عز وجل: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65].

والغيب ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: غيب واقع، يعني الواقع هذا يكون نسبياً لأناس ومشاهداً أو معلوماً لأناس آخرين، فمثلاً ما وراء هذا الجدار وما يحدث فيه هذا بالنسبة لنا غيب، لكن بالنسبة لمن كان وراء الجدار هذا نقول بأنه معلوم وليس غيباً، هذا بالنسبة للواقع.

القسم الثاني: المستقبل، وينقسم إلى قسمين أيضاً:

القسم الأول: غيب مطلق، هذا خاص بالله عز وجل، لا يمكن أن يعرفه إلا الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65].

والقسم الثاني: غيب نسبي، يعني: ليس غيباً مطلقاً، وإنما هو غيب نسبي، يعني: ما سيقع في مستقبل الزمان، ما سيقع في هذه البلدة، ما سيقع في... إلى آخره، وهذا أيضاً نقول بأنه خاص بالله عز وجل إلا ما أطلع الله عز وجل عليه أحداً من الخلق، كما قال سبحانه وتعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:26-28].

قال: [ومن حكم بغير ما أنزل الله].

نقول: الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله حكم الله وحكم رسوله وأن ينكره، فمثلاً: ينكر قطع يد السارق، ينكر رجم الزاني، ينكر جلد الشارب... إلى آخره مما علم من الدين بالضرورة، فنقول: هذا كفر أكبر مخرج من الملة؛ لأنه تكذيب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

القسم الثاني: أنه لا يجحد ويقر، لكن يفضل حكم غير الله على حكم الله عز وجل، فهذا أيضاً نقول بأنه كفر مخرج من الملة؛ لأنه تكذيب للقرآن والسنة، الله عز وجل يقول: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، والنبي صلى الله عليه وسلم: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم).

القسم الثالث: أن يساوي حكم الله بحكم غيره، أيضاً هذا كفر مخرج من الملة، يعني يعتقد أن حكم الله مساوياً لحكم غير الله عز وجل، وهذا كفر مخرج من الملة، كما قال الله عز وجل: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74] ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65] ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] ، وكما تقدم قول الله عز وجل: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].

(أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم).

القسم الرابع: أن يعتقد أن حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم هو الأفضل والأصلح، وأن غيره لا يساويه، لكن لا يحكم بما جاء في القرآن والسنة وإنما يحكم بغيرهما بهوىً في نفسه، فهذا ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون في آحاد المسائل، هذا ليس كفراً بالاتفاق، يعني: في مسألة ما يعرف أن هذا هو حكم الله وحكم رسوله ثم يخالفه ظلماً وهوىً أو عصبيةً ونحو ذلك، ويحكم بغير ما جاء في القرآن والسنة، نقول: هذا ليس كفراً.

والقسم الثاني: أن يكون في عموم المسائل، كالذي يشرع قانوناً... إلى آخره، مع اعتقاده كما سلف أن حكم الله وحكم رسوله هو الأفضل، وهو الواجب، وهو الأصلح، لكن لهوى يشرع قانوناً يجعله مرجعاً في التحاكم، فهذا هو موضع الخلاف هل هو كفر أو ليس كفراً... إلى آخره، فقال بعض العلماء بأن هذا كفر؛ لأن الله عز وجل قال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].

وكما قال ابن عباس : وبه كفر.

وقول الله عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] ... إلى آخره.

وقال بعض العلماء بأنه ليس كفراً في قصة حديث الزبير لما حصل التخاصم مع الزبير والأنصاري في السقي، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم للزبير ، فقال الأنصاري: وإن كان ابن عمتك، ومع ذلك لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالكفر.

وأيضاً لما بعث علي رضي الله تعالى عنه بذهب، فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة، فقال رجل: اعدل يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم... إلى آخره، ومع ذلك لم يحكم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر.

قال رحمه الله: [والدليل قوله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256] ].

الغي: هو الضلال، والرشد: هو الصواب والهداية، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] ، والعروة الوثقى: هي لا إله إلا الله، وإنه لا بد فيها من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله وحده، إفراد العبادة لله سبحانه.

قال: [وفي الحديث: (رأس الأمر الإسلام)].

أراد المؤلف رحمه الله بهذا الحديث أن يستدل على أن لكل شيء رأساً، فرأس الأمر الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الإسلام.

لما تكلم عن الأصل الثالث وهو معرفة الإنسان نبيه، وتكلم عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وعن مبعثه، ومهاجره، وبماذا أرسل، وبماذا نبئ... إلى آخره، بين أن رأس الأمر الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الإسلام.

قال: [(وعموده الصلاة)].

لأن الإسلام كالبيت، والصلاة كالعمود له، وأنه ركن من أركانه، فإذا سقط هذا العمود سقط البيت، وهذا مما استدل به الإمام أحمد رحمه الله على أن ترك الصلاة كفر؛ لأنه إذا كانت الصلاة هي العمود فإنها إذا سقطت أدى ذلك إلى سقوط البيت.

قال: [(وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)].

(ذروة سنامه) يعني: أعلاه وأكمله الجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله هو قتال الكفار لتكون كلمة الله هي العليا.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.