تفسير سورة النور (14)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:53-55].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هيا نتدارس هذه الآيات.

قال ربنا جل ذكره: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ [النور:53]. هذا خبر، يخبر فيه تعالى بأن المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل في هذه المدينة النبوية هؤلاء المنافقون الذين أظهروا الإسلام في ألسنتهم، وأخفوا الكفر في قلوبهم ونافقوا؛ حتى يأمنوا على أرواحهم وأموالهم بين المسلمين، وأما الكفر فهو مستقر في نفوسهم، وتتجلى حقائقه من سلوكهم، وهي تدل على كفرهم وعلى نفاقهم. فاسمعوا الله تعالى يقول عنهم: وَأَقْسَمُوا [النور:53]، أي: حلفوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [النور:53]. وبالغوا في الأيمان، فهم يقولون: والله .. وعزة الله .. وجلال الله .. وكمال الله، وأقسموا بالغوا في الإقسام، وحلفوا وبالغوا في الحلف، وحلفوا وبالغوا في أيمانهم على أنك لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ [النور:53] يا محمد! ويا رسول الله! أن يخرجوا إلى الجهاد وبالجهاد لَيَخْرُجُنَّ [النور:53]. وهذا لما يتخلفون عن الغزوة ولا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فقد كانوا يعتذرون ببعض الأعذار، ويقولون: والله إن خرجتم يوم آخر لكنا معكم، كما قال تعالى هنا: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ [النور:53] يا رسول الله! بالخروج إلى الجهاد مرة ثانية بعدما وقفوا وحبسوا أنفسهم ولم يخرجوا لَيَخْرُجُنَّ [النور:53]، أي: معكم للقتال.

ثم قال تعالى لرسوله: قل لهم يا رسولنا! لا تُقْسِمُوا [النور:53]، أي: لا تحلفوا، فأقسم يقسم كحلف يحلف. فقال لهم: لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53] إن أنتم أطعتم طاعة للرسول وإلى ما يدعوكم إليه فيكفي ذلك من الكلام والقول، وإن رفضتم الطاعة فأمركم مكشوف أيضاً.

ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [النور:53]. فهددهم وتوعدهم وكشف الستار عنهم؛ حتى يتوبوا توبة صادقة، وأما هذه الألاعيب وهذا الكلام وهذا الحلف فهذا كله لا معنى له، ولا قيمة له، بل اصدقوا الله ورسوله، واصدقوا في إيمانكم، واخرجوا مع رسولكم، وقاتلوا المشركين والكافرين.

قال تعالى لرسوله: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:54]، أي: قل لهم. وقد عرفنا أن طاعة الله وطاعة الرسول هي العبادة التي تعبدنا الله بها، فمن رفض طاعة الله أو طاعة الرسول كفر، وليس هو بمؤمن، ولا عبد الله عز وجل. والله تعالى يطاع في أوامره، وفيما افترض على عباده من العقائد والأقوال، والأفعال والصفات، وفيما يأمر به ويبين للناس من الهدى والسنن. فقل لهم: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ [النور:54] تتولوا، والتاء محذوفة للتخفيف، أي: فإن تتولوا عن تلك الطاعة فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ [النور:54]، أي: على رسولنا ما حمله الله من تبعة الدعوة، وبيان الطريق للناس. وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ [النور:54] مما وجب عليكم من الإيمان، وطاعة الله وطاعة الرسول.

وقوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوا [النور:54]، أي: قل لهم يا رسولنا! وبلغهم عنا: أن أطيعوا الله وأطيعوا الرسول بفعل الأمر وترك النهي. فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ [النور:54]، أي: على الرسول مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ [النور:54] أنتم أيها المنافقون! مَا حُمِّلْتُمْ [النور:54].

والرسول حمله الله أن يبلغ ويصبر، وقد يؤذى .. يسب .. يشتم، وقد يضرب وقد يقتل، ولكن يجب أن يبلغ دعوة الله، فهذه هي رسالته، وعليه ما حمل. وأنتم عليكم ما حملتم من واجب الإيمان، وطاعة الله وطاعة الرسول. هذا بيانه تعالى.

الهداية في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

قال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]. وهذه بشرى، أي: إن تطيعوا رسولنا تهتدوا إلى طريق السعادة والنجاة، والسلامة والكمال في الدنيا والآخرة، ووالله إنها لكذلك؛ لأنه يأمرهم بما فيه خيرهم وصلاحهم، وينهاهم عما فيه شرهم وأذاهم، فإن أطاعوه اهتدوا إلى طريق سعادتهم وكمالهم، كما قال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]. وهذا الوعد إلى يوم القيامة، فمن أطاع الله ورسوله اهتدى، ومن أطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شئون حياته اهتدى إلى طريق السعادة والكمال. فهذا وعد باقٍ إلى يوم القيامة. وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54] إلى ما تريدونه من سعادة الدنيا والآخرة.

ليس على الرسول إلا البلاغ

قال تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]. فهذه مهمة رسول الله التي حمله الله إياها، وهي البلاغ، أي: ليبين للناس كيف يعبدون الله، وكيف يطيعونه، وكيف يجزيهم بالجزاء الحسن يوم القيامة وفي الدنيا إن أطاعوا، وكيف يعاقبهم في الدنيا والآخرة إن هم أصروا على عصيان الله وعدم طاعته. هذا الذي على الرسول، البلاغ فقط، وهو البلاغ البين الواضح المبين، فيصرح ويبين الحقيقة، ولو غضب من غضب، أو رضي من رضي، أو سخط من سخط. وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]. وليس عليه أن يهدي الناس، ويدخل الإيمان في قلوبهم، أو يسخر أعضاءهم لتعبد الله كما يحب، فهو لا يملك هذا، وليس هذا من شأنه، بل ليس من شأنه إلا البيان فقط في جد وإخلاص، كما قال تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54].

قال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]. وهذه بشرى، أي: إن تطيعوا رسولنا تهتدوا إلى طريق السعادة والنجاة، والسلامة والكمال في الدنيا والآخرة، ووالله إنها لكذلك؛ لأنه يأمرهم بما فيه خيرهم وصلاحهم، وينهاهم عما فيه شرهم وأذاهم، فإن أطاعوه اهتدوا إلى طريق سعادتهم وكمالهم، كما قال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]. وهذا الوعد إلى يوم القيامة، فمن أطاع الله ورسوله اهتدى، ومن أطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شئون حياته اهتدى إلى طريق السعادة والكمال. فهذا وعد باقٍ إلى يوم القيامة. وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54] إلى ما تريدونه من سعادة الدنيا والآخرة.

قال تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]. فهذه مهمة رسول الله التي حمله الله إياها، وهي البلاغ، أي: ليبين للناس كيف يعبدون الله، وكيف يطيعونه، وكيف يجزيهم بالجزاء الحسن يوم القيامة وفي الدنيا إن أطاعوا، وكيف يعاقبهم في الدنيا والآخرة إن هم أصروا على عصيان الله وعدم طاعته. هذا الذي على الرسول، البلاغ فقط، وهو البلاغ البين الواضح المبين، فيصرح ويبين الحقيقة، ولو غضب من غضب، أو رضي من رضي، أو سخط من سخط. وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]. وليس عليه أن يهدي الناس، ويدخل الإيمان في قلوبهم، أو يسخر أعضاءهم لتعبد الله كما يحب، فهو لا يملك هذا، وليس هذا من شأنه، بل ليس من شأنه إلا البيان فقط في جد وإخلاص، كما قال تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54].

قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55] يا أيها المؤمنون! وهذا وعد الله الصادق الذي لا يخلف أبداً، والله لا يخلف وعده. وقد وعد هنا المؤمنين الصادقين في إيمانهم، وهم الذين آمنوا إيماناً حقاً، وآمنوا بالله ورسوله، وآمنوا بالله وكتابه، وآمنوا بالله ولقائه، وآمنوا بالله وقضائه وقدره، وآمنوا حق الإيمان، فقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور:55] أولاً وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55] ثانياً، أي: آمنوا إيماناً حقيقياً، وعملوا بعده عملاً صالحاً، والمراد من العمل الصالح عبادة الله التي شرعها من الصلاة إلى الزكاة .. إلى الحج .. إلى الرباط في سبيل الله، فكل ما أمر الله به من العبادات يطاع فيه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور:55] أولاً؛ إذ الإيمان أولاً، والعمل الصالح ثانياً؛ وهذا لأن من المستحيل أن تعمل الصالحات وأنت كافر؛ لأنك ميت قبل الإيمان، فإذا آمنت حييت، والحي يستطيع أن يقول ويفعل ويترك، وأما قبل الإيمان فلا حياة لك، ولا تؤمر بصلاة ولا زكاة. فلابد من الإيمان أولاً؛ لأنه بمثابة الروح للإنسان، ثم بعد ذلك يصدق إيمانك وأنك حقاً مؤمن في قلبك يصدقه عملك الصالح، فإن رفضت العبادة فإيمانك باطل، ولست والله بالمؤمن، والذي لا يعبد الله والله ما هو بمؤمن، ولو آمن بالله ربه وإلهه وأنه خلقه ورزقه لعبادته، وأن مصيره إليه في الدنيا والآخرة لم يستطع أن يعصيه، ويفسق عن أمره ويخرج. وهذا ليس معقولاً أبداً. ولهذا ضعاف الإيمان أعمالهم الصالحة قليلة، وأقوياء الإيمان أعمالهم الصالحة كثيرة؛ لأنهم قادرون على العمل، وأما فاقدو الإيمان فلا عمل صالح لهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا خيراً.

وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55] وعدهم لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]. وهذا وعد عظيم. وقد تجلى هذا أولاً: في الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، إذ استخلفوا بعد رسول الله واحداً بعد واحد، وكانت مدة خلافتهم ثلاثين سنة. وقد أخبر الرسول بهذا قبل وفاته، فقال: ( الخلافة ثلاثون سنة، ثم ملك عضوض ). والثلاثون سنة كانت مدة الخلفاء الراشدين، فـأبو بكر استخلف سنتين، وعمر عشر سنوات، وعثمان اثنتي عشر سنة، وعلي ست سنوات. فمجموعها ثلاثون سنة، ثم انتقلت إلى ملك وملوك.

إذاً: هذه البشرى تناولت أولاً الخلفاء الراشدين، ثم هي بعد ذلك عامة إلى يوم الدين، فهي إلى الآن، وإلى ما بعد الآن، فمتى وجد من آمنوا حق الإيمان وعملوا الصالحات إلا استخلفهم الله في الأرض، وسادوا وحكموا.

وأضرب لكم مثلاً حياً: لما هبطت أمة الإسلام من علياء سمائها إلى الأرض بسبب كيد اليهود والنصارى والمجوس، واستعمرهم الشرق والغرب، وأيسوا أن يعود لهم دولة أو شأن في المستقبل، وهبطوا إلى الحضيض، قام عبد العزيز مع جماعة من رجاله، وعبدوا الله وآمنوا به، ووحدوا الله في عبادته، وأقبلوا على الله في صدق، فاستخلفهم الله، وملكهم هذه المملكة والله العظيم، وهذا وعد الله، فقد قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ [النور:55]يحكمون ويسودون، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:55]. وهم بنو إسرائيل، ودولتهم في فلسطين كانت أعظم دولة، وقد استخلفهم بعد ما كانوا مشردين تائهين، فكانت دولة سليمان دولة عالمية بعد التشريد والهبوط؛ لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات، فعادت إليهم دولتهم.

وقوله: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:55] هذا أولاً. وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55]. ويصبحون يعبدون الله بالدين الحق الذي هو الإسلام. وتم هذا والله، فما هي إلا خمس وعشرون سنة - أي: ربع قرن- إلا والإسلام في فارس وعاصمتها وفي بلاد الروم، وحدث هذا في خمس وعشرين سنة، وتم وعد الله في قوله: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ [النور:55] الذي كان يحارب من كل إنسان، ويكفر به كل إنسان، فقد تمكن، وأصبح سائداً، وأصبح الناس يعبدون الله به في الشرق والغرب، والشمال والجنوب. وهذا وعد الله في قوله: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55]. والدين الذي ارتضاه الله لعباده هو الإسلام، لا اليهودية ولا النصرانية، ولا المجوسية ولا البلشفية، فليس هناك دين ارتضاه الله لعباده إلا الإسلام فقط، الذي هو إسلام القلوب للرب، والوجوه له تعالى. فمن أسلم قلبه لله فأصبح قلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وأسلم وجهه لله، ولم يقبل بوجهه على صنم ولا حجر، ولا إنسان ولا غير ذلك، وجعل أمله ورجاءه ورحمته وخوفه كله في الله، فذلكم هو المسلم الذي أسلم الشيء أعطاه، فهو من أسلم يسلم، إذا أعطى الشيء، وأسلمت أنت وجهك وقلبك لله بمعنى: دخلت في الإسلام.

هذا معنى قوله تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55]. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين ما بلغت الشمس، وسيدخل كل بيت مدر أو وبر. فهذا الوعد قائم إلى الآن. ووالله أن أي دولة إسلامية تدخل في الإسلام بحق وصدق وتطبقه فوالله ليملكها الله الأرض بهذا الوعد، وقد أنجزه، فقد وعد قائلاً: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ [النور:55]. يخلفون غيرهم، فيسودون ويحكمون، ويعبدون الله ويدعون إلى عبادته، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55]. ألا وهو الإسلام. وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]. وقد كانوا في المدينة عندما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم في العام الأول والثاني لا يمشي أحدهم إلا بسيفه، ولا يذهب للتغوط إلا بسيفه، ولا ينام إلا وسيفه بين يديه وعند رأسه، فقد كان المشركون واليهود وكل الناس ضدهم، ومع هذا استجاب الله، وبدل الخوف أمناً، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( والله ليتمن هذا الدين حتى يخرج الرجل من صنعاء اليمن إلى حضرموت ) في الجنوب ( لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ). وتحقق هذا أيام عبد العزيز ، فقد كان والله يمشي الرجل في المملكة من المدينة إلى نجد .. إلى حائل .. إلى كذا لا يخاف إلا الله والذئب، ولا يسلب منه شيء. وهذا وعد الله عز وجل، فقد قال: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، أي: يعبدونني وحدي، ويطيعونني في أمري ونهيي، وعلى لسان رسولي في أمري ونهيي، ولا يشركون بي شيئاً من الشرك أو الشركاء، لا ولي ولا نبي، ولا ملك مقرب ولا غير ذلك أبداً، بل لا يعبدون إلا الله.

ثم قال تعالى -واسمعوا هذا، فهو وعيد وليس وعداً-: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]. وهذا الذي أصاب المؤمنين بعدما كفروا عبادة الله وتركوها، وأضاعوها وأهملوها، وفسقوا عن أمر الله، فقد أذلهم الله وفرقهم ومزقهم، وأصبح الخوف ينتابهم في كل مكان. فافهموا هذا الكلام الإلهي.