شرح الأصول الثلاثة [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تابع النوع الرابع: التوكل

قال رحمه الله: [ودليل التوكل: قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]].

التوكل في اللغة: الاعتماد.

وأما في الاصطلاح: فهو الاعتماد على الله عز وجل بجلب النفع ودفع الضر مع فعل الأسباب، والتوكل من العبادات القلبية.

واستدل المؤلف رحمه الله على أنه عبادة بقوله سبحانه وتعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] فـ (إن) هذه شرطية، فجعل الله عز وجل التوكل على الله شرطاً في الإيمان، فدل ذلك على أنه عبادة.

وأيضاً [قوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]] أي: كافيه، فإذا صدق العبد في توكله على الله عز وجل فإن الله يكفيه ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة، وهذا الجزاء إنما يكون على عبادة.

أقسام التوكل

واعلم أن التوكل ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: التوكل على الله عز وجل، وذلك بأن يفوض أمره إلى الله عز وجل، ويعتمد عليه، ويعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى، مع فعل الأسباب، فنقول بأن هذا عبادة من أجل العبادات، وهو عبادة واجبة، ولا يتم الإيمان إلا بذلك؛ لأنه كما تقدم لنا أن الله عز وجل جعل التوكل شرطاً للإيمان.

القسم الثاني: توكل العبادة، وهو الاعتماد المطلق على المتوكل عليه، بحيث يعتقد أن المتوكل عليه بيده جلب النفع ودفع الضر، وهذا حكمه صرفه لغير الله شرك أكبر، إنما هو خاص لله عز وجل.

القسم الثالث: التوكل على الميت والقبور والأصنام بجلب النفع ودفع الضر، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأنه لم يتوكل على صاحب هذا القبر أو الولي ونحو ذلك إلا وهو يعتقد أن له تصرفاً خفياً في الكون، وإلا كيف يعتمد عليه؟! إما أن يكون جاهلاً أو أنه يعتقد أنه يستطيع أن يتصرف؛ لأنه فقد الأسباب الحسية المباشرة، فنقول بأنه شرك أكبر مخرج من الملة.

القسم الرابع: التوكل على المخلوق في ما لا يقدر عليه إلا الخالق، فإذا توكل على المخلوق بأن يعطيه الولد، أو ليدخله الجنة، أو ليغفر له ذنوبه... ونحو ذلك، أو يجري السحاب... إلى آخره فهذا نقول بأنه شرك أكبر مخرج من الملة.

القسم الخامس: التوكل على المخلوق في ما يقدر عليه المخلوق، مثل أن يتوكل على من أقدره الله عز وجل على رزقه... إلى آخره، أو يتوكل على قضية الشفاء ونحو ذلك، نقول: هذا شرك أصغر.

القسم الخامس قلنا: أن يتوكل على المخلوق فيما يقدر عليه المخلوق، مثل أن يتوكل على صاحب المعاش في الرزق في معاشه، يتوكل على الطبيب في الشفاء ونحو ذلك... إلى آخره.

ونقول بأن هذا شرك أصغر؛ لقوة تعلق القلب به والاعتماد عليه، فتجد أن قلبه تعلقه يقتضيه ويعتمد عليه ويلتفت إليه... إلى آخره. فنقول: كونه يتوكل على هذا السبب -ولو كان سبباً صحيحاً- فهذا من الشرك الأصغر، أما إذا لم يتوكل عليه وإنما يعتقد أنه مجرد سبب، وأن الذي بيده النفع والضر هو الله عز وجل، وعلق قلبه بالله عز وجل... إلى آخره، فنقول بأن هذا لا بأس به.

هناك قسم يجعله بعض العلماء من هذه الأقسام. هذا القسم هو الوكالة، وهو أن ينيب شخصاً في ما يدخله النيابة، فهذا جائز ولا بأس به, كأن توكل شخص أن يبيع سيارتك، أو أن يبيع بيتك... ونحو ذلك فنقول بأن هذا جائز ولا بأس به.

ويدل لذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام وكل عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية، ووكل علي بن أبي طالب أن يذبح بقية هديه.

النوع الخامس: الرغبة

قال: [ودليل الرغبة].

الرغبة قيل في تفسيرها: أنها السؤال والطلب والابتهال والتضرع. وقيل في تفسيرها: محبة الوصول إلى الشيء المحبوب.

والرغبة هذه من العبادات.

واستدل المؤلف رحمه الله على ذلك بقوله: [ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]]. فأثنى الله عز وجل عليهم أنهم يدعون ويسألون برغبة وطمع وابتهال وتضرع... إلى آخره. فهذه عبادة لكونها سؤال مقرون بالتضرع والطمع والابتهال... إلى آخره، وهذا دل على أنها عبادة من العبادات.

والرغبة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما يكون شركاً، وذلك إذا كانت بكمال ذل وتعظيم لا يكون إلا لله عز وجل، فهذا من الشرك.

والقسم الثاني: ما ليس شركاً، وذلك إذا كانت مجرد رغبة لا يلحقها التضرع والذل... إلى آخره.

النوع السادس: الرهبة

قال: [والرهبة].

الرهبة: هي الخوف المقرون بالعمل، يعني: خوف مثمر، فهي خوف مقرون بالعمل، فيخاف من الله عز وجل, ويسارع في امتثال الأوامر واجتناب النواهي.

فنقول بأن هذه الرهبة نوع من أنواع العبادة؛ لما تقدم في قول الله عز وجل: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]. فقال: (رهباً). أثنى الله عز وجل عليهم بأنهم يرهبون الله عز وجل، يدعون الله عز وجل مع الخوف المقرون بالعمل، فهذا يدل على أنها عبادة؛ لأن الله عز وجل أثنى عليهم بذلك.

والرهبة تقدم لنا أنها نوع من أنواع الخوف، وتقدم لنا أن ذكرنا أقسام الخوف، وأن الخوف ينقسم إلى سبعة أقسام.

النوع السابع: الخشوع

قال: [والخشوع].

الخشوع هو: الذل والاستسلام لعظمة الله عز وجل، بحيث يستسلم لقضائه الكوني والقدري.

وفرق العلماء رحمهم الله بين الخضوع والخشوع، فقالوا: بأن الخضوع يكون في البدن، وأما الخشوع فإنه يكون في القلب والبصر والصوت.

والخشوع عبادة من العبادات؛ لأن الله عز وجل أثنى على هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90]، هؤلاء الأنبياء الذين ذكرهم الله عز وجل فيما قبل ذلك من الآيات فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].

فأثنى الله عز وجل عليهم بالخشوع لله عز وجل، وهذا هو الذل لله سبحانه وتعالى، ونوع من أنواع العبادة.

والخشوع ينقسم إلى قسمين: منه ما هو شرك، ومنه ما ليس شركاً.

فنقول: إذا كان بتعظيم وتذلل لا يكون إلا لله عز وجل فهذا شرك، وإذا لم يكن فيه شيء من ذلك فإنه ليس شركاً.

النوع الثامن: الخشية

قال: [ودليل الخشية قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [البقرة:150]].

أيضاً الخشية عبادة من العبادات، ودليل ذلك: أن الله عز وجل أمر بأن تكون الخشية له وحده دون من سواه.

والخشية: هي الخوف المقرون بالعلم من المخشي -يعني: الخوف المقرون بالعلم- فأصبح عندنا خوف، وعندنا رهبة، وعندنا خشية، فالخشية: الخوف المقرون بالعلم من المخشي؛ ولهذا أثنى الله عز وجل على العلماء بقوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] .

فالعلماء العالمون بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى هم الذين يخشونه، فالخشية: الخوف المقرون بالعلم، يعني: يخاف من الله عز وجل وهو يعلم عظمة الله، ويعلم أسماءه وصفاته وحقوقه.. إلى آخره.

والرهبة: هي الخوف المقرون بالعمل، والخشية والرهبة نوعان من أنواع الخوف، وعلى هذا ما تقدم من الأقسام السابقة في الخوف تأتي هنا.

النوع التاسع: الإنابة

قال: [ودليل الإنابة: قوله تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54] ].

والإنابة في اللغة: الرجوع.

وأما في الاصطلاح: فهي الرجوع إلى الله عز وجل بالقيام بطاعته واجتناب معصيته.

وهي معنىً من معاني التوبة، فالتوبة هي الرجوع إلى الله عز وجل بفعل الأوامر وترك النواهي، لكن الفرق بين الإنابة والتوبة: أن الإنابة أرق من التوبة؛ لما تشعر به من الاعتماد على الله عز وجل واللجوء إليه، فهو يتوب إلى الله عز وجل وينيب إليه مع وجود الذل والانكسار والرقة، هذا هو الفرق.

فالإنابة نوع من أنواع التوبة إلا أنها مصحوبة بنوع من الذل والرقة والانتشار وغير ذلك.

والإنابة -كما ذكر الشيخ رحمه الله- نوع من أنواع العبادة؛ لأن الله عز وجل قال: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54]، فأمر بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.

وعلى هذا نقول بأن الإنابة تنقسم إلى قسمين: منها ما هو شرك، ومنها ما ليس بشرك:

فالإنابة التي تكون عبادة صرفها لغير الله عز وجل شرك يعني: الرجوع عن المعاصي وفعل الأوامر إذا كان لغير الله عز وجل فهذا شرك.

ومنها ما ليس شركاً إذا لم يكن عبادةً، يعني: الإنابة التي تكون عبادة وهي القيام بطاعة الله عز وجل, وفعل أوامره واجتناب نواهيه... إلى آخره، هذه صرفها لغير الله عز وجل شرك، وما عدا ذلك نقول بأنه ليس شركاً.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الأصول الثلاثة [7] 2816 استماع
شرح الأصول الثلاثة [13] 2171 استماع
شرح الأصول الثلاثة [14] 2065 استماع
شرح الأصول الثلاثة [4] 2010 استماع
شرح الأصول الثلاثة [12] 1943 استماع
شرح الأصول الثلاثة [2] 1881 استماع
شرح الأصول الثلاثة [10] 1858 استماع
شرح الأصول الثلاثة [5] 1848 استماع
شرح الأصول الثلاثة [3] 1704 استماع
شرح الأصول الثلاثة [8] 1649 استماع