شرح الأربعين النووية [9]


الحلقة مفرغة

يقول الإمام النووي رحمه الله: [ عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)، رواه البخاري و مسلم ].

هذا الحديث هو الحديث الثالث من الأربعين التي اختارها الإمام النووي وأودعها في كتابه (الأربعين)، وقد أتى به بعد حديث جبريل الذي فيه سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، وقد أجاب عليه الصلاة والسلام جبريل بقوله: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً).

والخمس الموجودة في حديث: (بني الإسلام على خمس)، هي نفس الخمس التي جاءت في حديث جبريل، وإيراد الإمام النووي رحمه الله لهذا الحديث لا يعتبر من قبيل التكرار، وذلك لأن في حديث عبد الله بن عمر معنى زائداً على ما جاء في حديث جبريل؛ لأن حديث جبريل فيه تفسير الإسلام بذكر هذه الأمور الخمسة، وأما حديث ابن عمر ففيه بيان أهمية هذه الأمور الخمسة وعظيم شأنها، وأن الإسلام بني عليها.

ففيه معنى زائد على ما جاء في حديث جبريل، فلا يقال إنه تكرار. وإنما فيه معنى زائد على ما جاء فيه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) فيه بيان عظيم شأن هذه الأركان الخمسة في الإسلام، وأنها هي الأمور التي تعتبر الأصل والأساس، وغيرها وإن كان مطلوباً فإنه تابع لها، فذكر هذه الأسس الخمسة التي ينبني عليها دين الإسلام، وغيرها يكون تابعاً لها.

وهذا فيه تشبيه الأمور المعنوية بالأمور الحسية؛ لأن ذلك أقرب إلى الأذهان، فإن الإنسان يتصور أهمية هذا المعنى كما يشاهد البنيان الذي يقوم على أعمدة، وإذا سقطت أعمدته أو اختلت أعمدته فإنه يسقط ويقع، فهذه الأمور الخمسة هي بمثابة الأركان وبمثابة العمد التي يقوم عليها البنيان.

فهذا تنبيه على أن هذا الإسلام مبني على هذه الخمسة، وأنها شبيهة بالأعمدة التي يقوم عليها البيت، والتي يقوم عليها البناء، فإن ذلك يدل على أهميتها وعلى عظيم شأنها.

ثم إن ذكر الخمس في أول الحديث وذكر العدد فيه فائدة، وهي التنبه للمعدود، وذلك أنه عندما يأتي ذكر العدد في الأول يتهيأ السامع ويستعد لمعرفة المعدود، فلو سقط شيء أو نسي العاد شيئاً فمعنى ذلك أنه حصل عنده نقص، فيحتاج إلى البحث عنه لتحصيله وتداركه، بخلاف ما إذا أتي بالشيء من غير ذكر العدد، فإن ذلك لا يكون مثل ما مما إذا ذكر العدد.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي بمعدودات ويشير إلى عددها قبل أن يأتي ذكرها، ومن ذلك ما يكون اثنين، ومنه ما يكون ثلاثة، ومنه ما يكون أربعة، ومنه ما يكون خمسة، ومنه ما يكون ستة، ومنه ما يكون سبعة، فيأتي بذكر العدد في الأول ثم يأتي بالمعدودات، وهذا فيه -كما قلت- تنبيه للسامع إلى أن يعي ويستوعب المعدودات التي ذكر له عددها.

فهذه من الفوائد التي فيها تحفيز السامع على استيعاب المعدود ومطالبة نفسه بتحصيله، وأنه إذا فاته منه شيء فمعناه أنه حصل عنده نقص.

وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة فيما يتعلق بمعدودين، كما جاء في آخر حديث في صحيح البخاري ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) يعني أنهما هاتان الكلمتان.

فقد ذكر العدد أولاً، ثم ذكر المعدود آخراً، وكذلك جاء ذكر الثلاث في قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان...) الحديث، فذكر العدد ثلاثة، ثم ذكر المعدود بعد ذلك، وكذلك جاء ذكر أربع في قوله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً...) الحديث، وجاء: (حق المسلم على المسلم خمس ...) الحديث، وكذلك جاء ذكر غيرها من الأعداد.

وهذا من المنهج والطريقة التي كان يسلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعليم أصحابه، وفائدة ذلك -كما أشرت- هي تحفيز السامع إلى أن يستوعب الشيء الذي يلقى عليه، وأن يطالب نفسه بالعدد، فإذا فاته شيء منه فمعناه أنه نقص عليه العدد، وأنه لم يستوعب، ويحتاج إلى أن يبحث عما يكمل به العدد.

ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس)، ثم بدأها بالشهادتين، والشهادتان ركن واحد، وهما اثنان، ولكنهما متلازمان، فهاتان الشهادتان متلازمتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى، ومن شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة فإن ذلك لا ينفعه، بل لابد من شهادة أن لا إله إلا الله ولابد من شهادة أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وهذا لازم لجميع الجن والإنس من حين بعثته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى قيام الساعة، فلابد من الجمع بين الشهادتين، ولو شهد المرء أنه لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله فإن ذلك لا ينفعه عند الله، بل لابد من الشهادتين؛ لأنهما متلازمتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى، فالمتعين علىٍ كل من الإنس والجن من حين بعثته إلى قيام الساعة أن يأتوا بهاتين الشهادتين، ولو أتى أحد بشهادة أن لا إله إلا الله ولم يأت بشهادة أن محمد رسول الله فإن ذلك لا ينفعه، ولو قال: إنه تابع للأنبياء السابقين، كاليهود الذين يزعمون أنهم أتباع موسى، والنصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى، فإذا لم يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام بعد بعثته فإن إيمانهم الذي يزعمونه لا يعتبر، ولا يعتد به، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار) أخرجه مسلم في صحيحه، وهذا الحديث يدل على أن اليهود والنصارى يعتبرون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام أمة الدعوة، أي أن الدعوة موجهة إليهم، بل هي موجهة إلى كل أنسي وجني من حين بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة.

فإذاً: الشهادتان متلازمتان، لا تنفك إحداهما عن الأخرى، ولابد من الجمع بينهما، ولا يكفي الإنسان أن يشهد أن لا إله إلا الله دون أن يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام أو بين أن الإسلام مبني على هذه الأسس، وفسره في حديث جبريل بهذه الأسس الخمسة، ويدخل في ذلك كل ما هو مطلوب من الإنسان، سواء ما يتعلق بالقلب، أو ما يتعلق بالجوارح، وذلك لأن هذه الأمور التي ذكرت -وهي الأمور الخمسة- هي أمور ظاهرة، ولكن الأمور الباطنة هي داخلة تحت شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقتضى الشهادة أن يصدق في كل خبر، وأن يطاع في كل أمر، وأن ينتهى عن كل ما نهي عنه، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.

فإذاً: دخل الدين كله من أوله إلى آخره في شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما يتعلق بالإيمان من الأمور الاعتقادية ومن الأمور القلبية فإنه داخل تحت شهادة أن محمد رسول الله؛ لأنه لابد من التصديق بكل خبر، فيدخل تحت هذه الشهادة كل ما يتعلق بالقلوب ويتعلق بالجوارح.

فعلى هذا يكون الحديث شاملاً للأمور الاعتقادية والأمور العملية التي تظهر على الجوارح، فكل ما يقوم بالقلوب وما يقوم بالجوارح داخل تحت هذه الخمس، بل داخل تحت شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شهادة أن لا إله إلا الله معناها: لا معبود بحق إلا الله. وهي تشتمل على ركنين: نفي، وإثبات، نفي في أولها، وإثبات خاص في آخرها، وهذا النفي هو نفي العبادة عن كل ما سوى الله، وهذا هو النفي العام، والإثبات الخاص إثباتها لله وحده لا شريك له.

والمقصود من هذه الشهادة أو من هذه الكلمة: توحيد الإله الذي هو حق، وأما الآلهة التي غير حق فهي كثيرة، وهي موجودة، ولكن الذي ينفى بهذه الشهادة وبهذه الكلمة عن هذه الألهة الباطلة إنما هي الإلهية الحقة، وأما الإلهية الباطلة المدعاة فهي موجودة وكثيرة.

ولهذا فإن الكفار الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم لما طلب منهم أن يفردوا الله بالعبادة قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، ومعنى ذلك أنهم يعتقدون أن هناك آلهة، وإنما الذي أنكروه هو كون الإله واحداً.

وعلى هذا فإن الشهادة أو النفي الذي في كلمة الإخلاص وكلمة التوحيد هو نفي الإلهية الحقة، فهذه هي المنفية عن كل ما سوى الله.

وأما الإلهية الباطلة فإنها موجودة، ولكن إذا أتي بـ(لا إله إلا الله) -ومعناها: لا معبود حق إلا الله- فمعنى ذلك أن الذي نفي هو الإلهية الحقة، وليس النفي لوجود الآلهة، بل الآلهة موجودة، ولكنها آلهة باطلة.

فمقتضى شهادة أن لا إله إلا الله أن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، ومقتضى شهادة أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدق بكل ما جاء به، ويمتثل كل ما جاء به من الأوامر، وينتهى عن كل ما نهى عنه من النواهي، وأن لا يعبد الله إلا طبقاً لشريعته، وطبقاً لما جاء به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

وهذا هو مقتضى الشهادتين؛ لأن مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله أن لا يعبد إلا الله، ومقتضى شهادة أن محمد رسول الله أن لا يعبد الله إلا طبقاً لما شرع رسول الله عليه الصلاة والسلام، ووفقاً لما جاء به الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فلابد من تجريد الإخلاص لله وحده، فلا يعبد مع الله غيره، ولابد من تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فتكون المتابعة والاتباع والعمل فعلاً وتركاً طبقاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].

والعمل الصالح هو ما كان خالصاً لله ومطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو اختل الركنان أو الشرطان أو اختل أحدهما فإن العمل يكون مردوداً على صاحبه، فلو أتي بالإخلاص دون المتابعة فإن العمل مردود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، ومن أتى بالعبادة مطابقة للسنة ولكن أشرك مع الله تعالى فيها غيره فإنها تكون مردودة على صاحبها؛ لعدم الإخلاص، والله تعالى يقول: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وفي الحديث القدسي: (يقول الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).

إذاً: الركن الأول مؤلف من أمرين: الشهادة لله بالوحدانية والإلهية، والشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فلابد منهما، وكل عمل لابد من أن يكون مستنداً إليهما.

فالشهادتان هما أساس في ذاتيهما، وهما أساس لبقية الأركان ولكل عمل يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا لم يكن العمل مبنياً على الشهادتين فإنه يكون مردوداً على صاحبه وغير مقبول، ولا ينفع صاحبه عند الله عز وجل.

فهما أس الأسس، وهما اللتان يبنى عليهما غيرهما من بقية الأركان، وكل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى.

وقد بدأ بهما في هذه الخمس لأنهما الأساس لغيرهما، كما أنه بدأ بالإيمان بالله في أركان الإيمان لأن الإيمان بالله هو الأساس، وكل شيء وراءه تابع له، وكذلك هنا بدأ بالشهادتين لأن كل شيء وراءهما تابع لهما.

الصلاة هي أهم الأركان بعد الشهادتين، وهي التي يتميز بها في فترة وجيزة من يكون مطيعاً ومن يكون عاصياً، فإن الإنسان إذا رافق إنساناً أو عامل إنساناً أو خالط إنساناً يستطيع أن يكتشفه في خلال أربع وعشرين ساعة بأنه على الحق أو على الضلال، فإن رآه محافظاً على الصلاة وحريصاً على الصلاة فهي علامة خير، وإن رآه مضيعاً للصلاة فهي علامة شر، ويتبين ذلك في فترة وجيزة، بخلاف بقية الأركان، فإن بعضها لا يأتي في السنة إلا مرة واحدة، وبعضها لا يأتي في العمر إلا مرة واحدة.

أما الصلاة فإنها تأتي في اليوم والليلة خمس مرات، ولهذا فإنها صلة وثيقة بين العبد وربه، وبها يكون الإنسان على صلة وثيقة بالله عز وجل.

ولأهميتها جاء ذكرها بعد الشهادتين، فهي أهم الأركان بعد الشهادتين، وقد جاءت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تدل على عظيم شأن الصلاة، فقد جاء أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وجاء أن أهل النار أول ما يسألون عن الذي أوصلهم إلى سقر لجيبون بأنهم كانوا لا يصلون، وجاء أنها فرضت ورسول صلى الله عليه وسلم في السماء ليلة المعراج، ولم تفرض عليه وهو في الأرض، وجاء أنها آخر ما يفقد من الدين في هذه الحياة، وجاء أنها أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وجاء أنها الحد الفاصل بين المسلم والكافر، وجاء أنها من آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، فإنه كان أوصى بالصلاة، وما ملكت الإيمان.

فلأهميتها ولعظيم شأنها ولكونها مستمرة ولكون الإنسان بها يكون على صلة وثيقة بالله دائماً وأبداً قدمت على غيرها، وصار لها هذه الميزات وهذه الأمور التي جاءت في هذه الأحاديث التي أشرت إليها.

ثم بعد ذلك يأتي ذكر الزكاة، والزكاة هي عبادة مالية تأتي في السنة مرة واحدة عند حولان الحول أو عند خروج الثمار ونضوجها، ولا تتكرر الزكاة، وإنما تجب في السنة مرة واحدة، ونفعها متعدٍ، ولهذا قدمت على الصيام، وجاءت بعد الصلاة.

ويأتي كثيراً القرن بين الزكاة والصلاة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وقال سبحانه: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، وقال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، وقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].

فيقرن الله عز وجل بين الصلاة والزكاة في آيات كثيرة من كتابه، وهذا يدلنا على أن شأنها عظيم، وأنها تلي الصلاة، وأنها متقدمة على بقية الأركان، وذلك لأن نفعها متعدٍ، حيث ينتفع صاحبها وينتفع غيره، فصاحبها ينتفع بالأجر والثواب، وغيره ينتفع بالمال الذي هو محتاج إليه لفقره ولعوزه ولقلة ذات يده، فيكون نفعها متعدياً إلى الآخرين، مع أنه يحصل للإنسان الثواب على ذلك.

ويلي الزكاة الصيام؛ لأنه نفع قاصر وعبادة بدنية ليست متعدية، والصيام يجب في السنة شهراً، ولهذا جاء الترتيب بتقديمه على الحج في الحديث على غير هذه الرواية التي أوردها المصنف، وهذه الرواية التي قدم فيها الحج على الصوم هي رواية البخاري ، لكن الرواية التي جاءت في صحيح مسلم فيها بيان أن الصوم مقدم على الحج، وأن ابن عمر رضي الله عنه نفسه لما أعاد الذي أسمعه الكلام وقدم الحج على الصوم قال: (لا، الصوم والحج، هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وعلى هذا فتكون هذه الرواية التي أوردها المصنف هنا والتي تابع فيها البخاري -وقد أوردها البخاري في أول صحيحه- من تقديم الحج من قبيل الرواية بالمعنى، ومن قبيل تصرف بعض الرواة، وإلا فإن اللفظ الذي سمعه ابن عمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن الصوم مقدم على الحج.

والصوم أهم وأعظم من الحج من جهة أن الصوم يتكرر ويأتي كل سنة، ويكون شهراً كاملاً، وأما الحج فإنه لا يأتي في العمر إلا مرة واحدة، ولهذا جاء تقديمه على الحج كما جاء في حديث جبريل، وكما جاء حديث ابن عمر في الرواية الأخرى التي أخبر ابن عمر بأنه سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم الصوم على الحج، كما جاء في حديث جبريل.

وبذلك تكون هذه الأمور متتابعة على حسب أهميتها، أي: تقدم الشهادتان، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج.

والإمام البخاري رحمه الله أورد حديث ابن عمر هذا في أول كتاب الإيمان من صحيحه، فأول حديث عنده في كتاب الإيمان هو حديث ابن عمر ، وأورده بهذه الرواية التي فيها تقديم الحج على الصوم، وبنى عليها البخاري رحمه الله ترتيب كتابه، فإنه قدم كتاب الحج على كتاب الصوم، بناءً على هذا الحديث الذي أورده في أول كتاب الإيمان.

ولكن الرواية الأخرى بينت أن ابن عمر قال: (هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وذلك لما أعاد عليه الرجل الحديث الذي سمعه منه فذكر الحج وقدمه على الصيام، فقال: (لا، الصوم والحج، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وعلى هذا يكون الترتيب مطابقاً للترتيب الذي جاء في حديث جبريل، وأن كل واحد أهم من الذي يليه وأعظم شأناً من الذي يليه، وإن كانت كلها أمور لازمة وواجبة.

وقد جاء في صحيح مسلم أن ابن عمر رضي الله عنه حدث بالحديث لمناسبة، وهي أنه سئل فقيل له: ألا تغزو؟ فروى الحديث وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس ...) ليبين أن أركان الإسلام هي هذه الخمسة، وأن الجهاد ليس من الأركان.

ومعلوم أن غير الأركان الخمسة تابع لها، وأن الإسلام ليس منحصراً فيها، ولكن ذكرت لأهميتها، ولتقدمها على غيرها، وأن غيرها تابع لها، والجهاد هو من أعظم وأفضل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، ولكنه ليس من الأركان، وذلك لأن هذه الأمور لازمة لكل مكلف، وأما الجهاد فإنه فرض كفاية، ويكون في أوقات دون أوقات، بخلاف هذه الأمور، فإنها لازمة ومستقرة وثابتة في حق كل مكلف، ولهذا بين ابن عمر رضي الله عنه أن الجهاد ليس من الأركان، وحدث بهذا الحديث الذي قال فيه النبي الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان).

عرفنا أن حديث ابن عمر ليس متعارضاً مع حديث جبريل، وعرفنا أن الترتيب الذي جاء في الحديث -لا سيما على الوجه الذي ذكره ابن عمر أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم- يدل على أنها مرتبة على حسب أهميتها، وفيه دليل على أنه يبدأ بالأهم فالأهم، كما جاء في هذا الحديث ترتيبها، وكما جاء -أيضاً- في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل ، فإنه لما أراد أن يبعثه إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، فذكر هذه الأمور الثلاثة، ورتبها بادئاً بالأهم فالذي يليه في الأهمية.

وهكذا جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه ترتيبها على النحو الذي ذكر ابن عمر : أنه سمعه من رسول الله عليه الصلاة والسلام عليه، وهكذا جاء ترتيبها في حديث جبريل: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت).