الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
الاستغفار للمؤمنين والمؤمناتأمر الله نبيَّه محمدًا عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات؛ فقال سبحانه: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19].
قال المفسرون؛ أي: واطلب - يا محمد - من ربك أن يغفر ذنوبك قديمَها وحديثَها، وذنوب المؤمنين من أُمَّتِك من الرجال والنساء، فيستر ذنوبكم، ولا يُعاقبكم عليها.
يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 208)، و((تفسير مكي بن أبي طالب)) (11/ 6906)، و((تفسير القرطبي)) (16/ 242)، و((مجموع الفتاوى))؛ لابن تيمية (10/ 317).
ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 118]، والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات من سُنَن الأنبياء والمرسلين؛ قال تعالى حاكيًا دعاء نبيِّه نوح: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [نوح: 28]، وقال عز وجل حاكيًا دعاء نبيه إبراهيم: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41].
وأثنى الله على المؤمنين الذين يستغفرون لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان؛ فقال تبارك وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
أحاديث وآثار تتعلق بآية الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات:
1) عن معمر في قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]، عن الزُّهْري، قال: حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إني لأستغفر في اليوم، وأتوب سبعين مرة أو أكثر))؛ رواه عبدالرزاق في تفسيره (2882)، والترمذي (3259) وصحَّحه، وأصله في صحيح البخاري (6307) من غير ذكر الآية.
2) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: ((اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسرَرْتُ وما أعلنْتُ، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير))؛ رواه البخاري (6399)، ومسلم (2719)، واللفظ له.
3) عن عاصم بن سليمان، عن عبدالله بن سرجس رضي الله عنه، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأكلت معه خبزًا ولحمًا، أو قال: ثريدًا، قال: فقلت له: أستغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولك، ثم تلا هذه الآية: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾؛ رواه مسلم (2346).
4) عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم طيب نفس، قلت: يا رسول الله، ادع الله لي, فقال: ((اللهم اغفر لعائشة، ما تقدم من ذنبها وما تأخَّر، ما أسرَّتْ وما أعلنَتْ))، فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيسرُّك دعائي؟)) فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ((والله إنها لدعائي لأُمَّتي في كل صلاة))؛ رواه ابن حبان في صحيحه (7111)، وحسَّنه الأرناؤوط والألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2254).
5) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة يقول: ((اللهم اغفر لحيِّنا وميِّتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهمَّ مَنْ أحيَيْتَه منَّا فأحيه على الإسلام، ومَنْ تَوفَّيْتَه منَّا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده))؛ رواه الترمذي (1024)، وابن ماجه (1498)، وصحَّحه الألباني.
6) عن ابن جُريج قال: قلت لعطاء: أستغفرُ للمؤمنين والمؤمنات؟ قال: نعم، قد أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فإن ذلك الواجب على الناس، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾، قلت: أفتَدَعْ ذلك في المكتوبة أبدًا؟ قال: لا، قلت: فبمن تبدأ، بنفسك أم بالمؤمنين؟ قال: بل بنفسي كما قال الله: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾؛ رواه عبدالرزاق في مصنفه (3122)، وإسناده صحيح.
فوائد من كلام المفسرين والعلماء في مسألة الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات:
1) قال الواحدي: "هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة، حين أمر نبيَّهم صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم، وهو الشفيع المجاب فيهم"؛ الوسيط؛ للواحدي (4/ 125).
2) قال ابن عطية: "واجبٌ على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنها صدقة"؛ المحرر الوجيز؛ لابن عطية 5/ 116.
3) قال الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]: "في هذه الآية لطيفة؛ وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم له أحوال ثلاثة: حال مع الله، وحال مع نفسه، وحال مع غيره، فأما مع الله وحِّده، وأما مع نفسك فاستغفر لذنبك، واطلب العصمة من الله، وأما مع المؤمنين فاستغفر لهم، واطلب الغفران لهم من الله"؛ التفسير الكبير؛ للرازي (28/ 52).
4) قال السعدي: "الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات؛ لأنهم بسبب إيمانهم، لهم حق على كل مسلم ومسلمة، ومن جملة حقوقهم أن يدعو لهم، ويستغفر لذنوبهم، وإذا كان مأمورًا بالاستغفار لهم المتضمِّن لإزالة الذنوب وعقوباتها عنهم، فإن من لوازم ذلك النُّصْح لهم، وأن يحبَّ لهم من الخير ما يحب لنفسه، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه، ويأمرهم بما فيه الخير لهم، وينهاهم عمَّا فيه ضررهم، ويعفو عن مساويهم ومعايبهم، ويحرص على اجتماعهم اجتماعًا تتألَّف به قلوبهم، ويزول ما بينهم من الأحقاد المفضية للمُعاداة والشقاق، الذي به تكثُر ذنوبهم ومعاصيهم"؛ تفسير السعدي، ص: 787، 788.
من هداية الآيات الآمرة بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات:
1) الحث على الرحمة بعموم المسلمين، وقد جاء في ذلك آيات وأحاديث كثيرة؛ فالإسلام دين الرحمة.
2) الحرص على نفع المسلمين في دينهم ودُنْياهم وآخرتهم، ومحبة الخير لهم.
3) حسن الأخلاق في التعامُل مع المسلمين، من غير تكبُّرٍ عليهم، ولا احتقار لهم، والعفو عن ذنوبهم، وتحمُّل زلَّاتهم، والعدل في الحكم عليهم، وإنصافهم إذا أخطأوا، وعدم إنكار ما فيهم من الخير، ولو لم يكن معهم إلا الإسلام الصحيح فهو كافٍ لأن نستغفر لهم.
4) الحث على جمع كلمة المسلمين على الحق.
5) عدم تزكية النفس؛ فقد أمرنا الله بالاستغفار من ذنوبنا، وهو أعلم بها منا.
6) عدم احتقار الخلق، فقد أمرنا الله بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، ولا معصوم إلا الأنبياء.
7) الإنكار على من يغتاب المسلمين بذنوبهم بتذكيره بأن الواجب عليه أن يستغفر لهم لا أن يغتابهم ويفضحهم.
8) الرد على الذين يلعنون أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وبيان أن الواجب علينا تجاه ذنوب الصحابة وغيرهم من المؤمنين أن نستغفر لهم؛ لا أن نلعنهم ونسبَّهم.
9) بيان فضل الإسلام وبيان عظيم حق المسلمين، فمن كان مسلمًا لم يُبطِل إسلامه بكفر ولا نفاق ولا ردة، ولا ظلم نفسه بذنب عظيم يستحق به اللعنة؛ كقتل النفس التي حرَّمَ الله إلا بالحق، فله حق على جميع المسلمين أن يستغفروا الله له، والله أهل المغفرة.
فائدة حديثية: قال الحافظ الطبراني في مسند الشاميين (3/ 234) رقم (2155): حدثنا عمرو بن أبي الطاهر بن السرح، حدثنا عبدالغفار بن داود أبو صالح الحراني، حدثنا موسى بن أعين، عن بكر بن خنيس، عن عتبة بن حميد، عن عيسى بن سنان، عن يعلى بن شداد بن أوس، عن عبادة بن الصامت، قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من استغفر للمؤمنين والمؤمنات، كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)).
هذا الحديث ضعيف، ولم يُصِب من حسَّن إسناده، فقد تفرَّد بروايته الطبراني في مسند الشاميين، وليس في إسناده أحد من الحُفَّاظ المشهورين؛ بل فيه ثلاثة رواة ضعفاء متتالون؛ وهم: بكر بن خنيس، وعتبة بن حميد، وعيسى بن سنان؛ يُنظر: تراجم الرواة الثلاثة في كتاب ((ميزان الاعتدال في نقد الرجال))؛ للذهبي (1/ 344) و (3/ 28) و (3/ 312).
انتهى بحمد الله.