أرشيف المقالات

تقويم الأعمال والنظر في العواقب

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
تقويم الأعمال والنظر في العواقب
 
الحمد لله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
تقويم الأعمال ومراجعة الحسابات نهج سديد لسنا بصدد الحديث عن جليل ثمراته وكبير فوائده الدنيوية، فإن ذلك مما يسلم به العقلاء، وهم أدرى بأمور دنياهم.
 
وإنما الذي نحن بصدد الحديث عنه العمل الذي يُجزى به العامل في دنياه وآخرته، والطريق الذي يمضي به الإنسان قدمًا للقاء ربه، فإن الكل بحاجة بل ضرورة إلى تقويمه ومراجعة حساباته؛ تنبيهًا من الغفلة وتذكيرًا بقرب النقلة والموت، يقول تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، فإن كلاًّ بحاجة إلى النظر فيما قدم من عمله، والطريق الذي يمضي به إلى ربه؛ ليغتبط بالصواب، ويصدق في المتاب، ويستعد ليوم الحساب.
 
وفي الكتاب والسنة والمأثور عن سلف الأمة حشدٌ من النصوص يوجه إلى هذا النهج السديد؛ لعظم فائدته وكريم عائدته، مثل: قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [سبأ: 46]، وقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وفيه قال: «ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه».
 
ولا شك أن العبد إذا خلا بنفسه طالبًا للهدى، ومتجردًا من الهوى، ومعرضًا عن مقاييس الدنيا ثم نظر فيما أسدى الله تعالى إليه من سابغ النعم وكثرة لطف الله به عند الشدائد والضيق والحرج، وهو لا يستغني عن ربه لحظة ثم هو يبارز ربه بالعصيان تهاونًا بشيء من الفرائض، وتركًا لبعض الواجبات، وارتكابًا لأمور من المحرمات، مع أنه لا بد ميت، وقادم على ربه، ومسؤول بين يديه عن عمله، فليعد للسؤال جوابًا، وليكن الجواب صوابًا، ولا شك أن العاقل المنصف إذا نظر هذا النظر، ستذرف عيناه الدمع؛ خجلاً من سوء معاملته مع ربه المنعم عليه، ورهبة من هيبة الوقوف بين يديه، وخوفًا من الفضيحة على رؤوس الأشهاد، والخزي بدخول النار وبئس المهاد.
 
والمرء في كل يوم من أيامه في نهاية عمر قد مضى فانهدم، وبداية عمر قد بقي ـ الله أعلم بقدره ـ، وربما لم يبق منه شيء يذكر، فحري بالعاقل الذي يدرك أن مضي الأيام يهدم العمر، ويبعد من الأمل، ويدني من الأجل، ووشك انقطاع العمل أن يحاسب نفسه ويقوم عمله لكي يداوم على العمل الصالح، ويتوب من القبائح، ويغتبط بالاهتداء، ويقلع عن الاعتداء، فذلك أنفع لنفسه في حاضره وأخف لحسابه في غده، وأرشد له في عاقبة أمره.
 
فالتفكر والنظر في العمل والاستعداد الصحيح للمستقبل ينفع العاقل في جميع مراحل عمره:
أ‌- فحري بمن قد أشمط شعره، وتقوس ظهره، وأتته أعراض الشيخوخة من كل جهة، وهو لا يزال مصرًا على التصابي، أن يفر إلى ربه، ويعود إلى رشده، بصالح العمل، والتوبة من التقصير في حق الله عز وجل، فإن الأعمال بالخواتيم.
 
ب‌- وحري بمن تدثروا بنعم الله تعالى عليهم، من قصر مشيد، ومركب فاره، وأثاث أنيق، ورصيد كبير، ومع ذلك فهم لم يشكروا الله على إنعامه، ولم يحذروا من الله شدة بطشه، ومفاجأة انتقامه؛ أن يتدارك أمره بشكر النعم واستعمالها في طاعة المنعم والإقلاع عن الإثم قبل فوات الأوان وتمنى ما ليس بالإمكان، قال تعالى: ﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».
 
ت‌- وحري بمن جمع أمواله كلها، أو جلها من حرام: من ربا، أو رشوة، أو غلول، واختلاس مستغلاًّ لوظيفته خائنًا لأمانته، وهكذا من كسب الأموال من قمار، أو غش في البيوع، أو الاتجار بسلع محرمة في الشرع، فجمع مالًا وعدده، يحسب أن ماله أخلده، أن يحذر شؤم ماله، فإنه إن أنفقه وهو من حرام لم يؤجر، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن دعا وهو في جوفه لم يستجب له، وإن تركه وراء ظهره كان زاده إلى النار، وإن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة، فعليه أن يصفي ماله، فإن تصفيته اليوم خير له وأنفع له من تصفيته يوم القيامة.
 
ث‌- وحري بمن تأمر على اثنين فأكثر، أن ينصح لهم، ويحسن إليهم، وأن يحذر من ظلمهم، قال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» متفق عليه، وفي رواية مسلم: «ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل الجنة معهم».
 
ج‌- وحري بمن ابتلي بقرناء السوء الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات أن يفارقهم، ويهجر مواطنهم قبل أن يعض على يديه قائلًا: ﴿ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 27 - 29].
 
وهكذا من فكر في أمره، فيما قدم من عمله، كان حريًا بسرعة التوبة، وقرب الأوبة، قبل أن يُطوى الكتاب، ويُغلق الباب، ومن نسي الله تعالى نسيه، ومن نسيه أهلكه، ولا يبالي به في أي وادٍ هلك.
 
اللهم عفوًا عفوًا، وغفرًا غفرًا.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢