برنامج يستفتونك - فقه الخلاف [1]


الحلقة مفرغة

المقدم: الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على رسوله وعبده، أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيا هلاً بكم إلى لقاء جديد من لقاءات برنامجكم الإفتائي المباشر يستفتونك، أرحب بكم، وأرحب بأسئلتكم الثروة الثرية، كما أشكر لكم بادئ هذه الحلقة وكل حلقة، تجشمكم البقاء معنا طيلة دقائقها وثوانيها.

أرحب أيضاً بالغ الترحيب باسمكم وباسم فريق العمل بضيف هذا اللقاء وضيف البرنامج، والذي سيتولى مشكوراً مأجوراً التوضيح والبيان لموضوع هذه الحلقة، ومن ثم التكرم بالإجابة على أسئلتكم واستفساراتكم.

أرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي ، أستاذ الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء، في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أهلاً بكم.

الشيخ: حياك الله يا شيخ ناصر ! وحيا الله المشاهدين والمشاهدات.

المقدم: حيا الله شيخنا الكريم، وحياكم الله أينما كنتم، وحيثما حللتم، حيثما يصلكم بث شاشتكم الرسالة، فها هو برنامجكم يطل عليكم الإطلالة الختامية هذا الأسبوع، وختامه مسك بإذن الله، لقاؤنا يتجدد بكم دوماً عبر هذا الأثير.

مشاهدينا الكرام! انتظمت حلقاتنا ولقاءاتنا مع شيخنا الكريم في موضوعات ثرية حول تعامله عليه الصلاة والسلام وهديه أيضاً في التعامل.

نرى بين الفينة والأخرى اختلافات في وجهات النظر هنا وهناك، في الأسرة الواحدة في البيت الواحد، في المجتمع الواحد.

ماذا يمكن أن يقال للمخالف؟ وماذا يمكن أن يبين من هديه عليه الصلاة والسلام ليهتدى به وهو الأسوة الحسنة عليه الصلاة والسلام؟

عدم الاستماع إلى أخطاء الناس من أجل الألفة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

لا شيء أبرد على القلب ولا شيء أسعد للنفس، ولا شيء أروح لاسترواح القلب من سلامة القلب، ولأجل هذا جاء عند أبي داود بسند لا بأس به، وإن كان بعض المتأخرين قد ضعفه، وقال أبو داود : ما سكت عنه فهو صالح. والحديث إلى الضعف أقرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تحدثوني عن أصحابي شيئاً؛ إني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم القلب )، وهذا يدل دلالة واضحة على أن الإنسان مهما بلغ من التقوى، ومهما بلغ من الديانة، فإن سماعه لأخطاء الآخرين سوف يوغل في قلبه، ويوجد وحشةً في قلبه؛ ولأجل هذا كنا بحاجة إلى أن ندرس ونتعلم ونتدارس هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع من يخالفه الرأي، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم مع من يخالفه في العقيدة، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم مع من يخالفه في الاختيار.

نحن بحاجة إلى رأب الصدع، واجتماع الكلمة، فإن اجتماع الكلمة من أهم قواعد الدين؛ ولأجل هذا حاول النبي عليه الصلاة والسلام في بداية دعوته أن يجعل المجتمع المدني جماعة واحدة، فمن ذا الذي يصدق أن الأوس والخزرج الذين كانوا يقتتلون لأجل لعاعة من الدنيا، أو لأجل فرس يفوز، أو لأجل شاة تيعر، ونحو ذلك يجتمعون لإعلاء كلمة الله، فتجتمع قلوبهم، وتتوحد نفوسهم وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]؛ ولأجل هذا كنا بحاجة إلى معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع من يخالفه، وتعامل النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الغضب، وتعامل النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الجهل عليه، فنحن بحاجة ماسة إلى أن نقتدي بالمصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة.

الحلم والأناة عند النبي صلى الله عليه وسلم مع المخالف

إن من أراد أن يهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فلابد أن يعرف شمائله، ولابد أن يعرف هديه، ولابد أن يعرف طريقته، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا تجاهل الجاهلون عليه زاد حلماً، ومن ذلك عندما جاء اليهودي فقال: ( أيكم محمد؟ فقالوا: قل: رسول الله، قال: والله لا أسميه إلا باسمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هاؤم أنا محمد، فلما أغلظ عليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحلم، قال: والله إني علمت أنك رسول الله، قال: وبم عرفت؟ قال: بالكتب التي نزلت على موسى بن عمران فإن فيها أنه يأتي من بعده نبي كلما جهلت عليه، كلما زاد حلماً )، فكان عليه الصلاة والسلام إذا زاد الجاهلون جهلاً عليه فيه زاد حلماً.

يذكرنا أنس بن مالك في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في قصته عليه الصلاة والسلام حينما كان يلبس بردة نجرانية غليظة الحاشية، وكان مع أنس بن مالك ، فجاء أعرابي من خلفه فجبذه جبذة شديدة قال أنس : ( حتى إني لأرى شدة جبذته من احمرار عنقه، فالتفت إليه عليه الصلاة والسلام وهو يبتسم ويقول: نعم، قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك )، وفي رواية: ( والله! ليس من كدك ولا كد أبيك، فإنكم يا بني عبد المطلب! قوم مطل، فغضب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكم على رسلكم ثم قال: أعطوه؛ فأعطوه، قال: هل رضيت؟ قال: لا، ثم قال: أعطوه، قال: هل رضيت؟ قال: نعم ) ثم يخرج الرجل ليكون نذيراً إلى قومه ومبشراً إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته وعقيدته، ويقول: (يا قوم! أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر).

هذه الحالة النبوية التي جعلت هذا الأعرابي الجلف الغليظ في التعامل ينقلب ظهراً على عقب؛ لشدة محبته للنبي صلى الله عليه وسلم وابتهاجه له، حينما التفت إليه النبي وهش له وبش، فتغيرت نفسيته وأسلم لتوه، حينما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم بحسن تعامله مع المخالف استطاع أن يغزو قلبه قبل أن يغزو عقله.

الابتسامة والوجه الطليق عند النبي صلى الله عليه وسلم مع المخالف

كثيرة هي الخلافات، وكثيرة هي التوجهات التي تحصل بين فريقين، أو تحصل بين قبيلتين أو تحصل بين اثنين متناحرين، وتجد أن أسبابها أننا لم نحسن أن نغزو قلب فلان، وأنت ترى أن الإنسان إذا جاء إليك وهو غضبان، فإذا قابلته بغضبه استشاط وزاد غضباً، لكنك إذا هششت له وبششت زال غضبه تماماً كما قال القائل:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان

فوجود الهشة والبشة في نفس الإنسان تجعل الناس راضين عنك، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه:

إنما المعروف شيء هين وجه طليق ولسان لين

ولهذا يقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم، فتبسمه عليه الصلاة والسلام كان في كل وقت، وفي كل حين، سواءً كان راضياً، أم غير راض، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.

حتى إنه عليه الصلاة والسلام لشدة حفاوته بأصحابه يظن الظان منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحب أحداً أكثر من محبته له، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد حينما جاء عمرو بن العاص حينما ولاه النبي صلى الله عليه وسلم غزوة ذات السلاسل، فلما جاء نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقربه وهش إليه وبش، فقال: ( يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ ) تصور عمرو بن العاص الذي هو حديث عهد بإسلام جعله النبي صلى الله عليه قائداً لجيش غزوة ذات السلاسل، ويقبل على النبي صلى الله عليه وسلم ويجد حفاوة من النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من حفاوة عمرو له، فيظن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب الناس إليه فيقول: ( يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: عائشة ، قال: لا، من الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من؟ قال: عمر )، فسكت عمرو بن العاص خشية أن يعد خلفاً كثيراً من أصحابه، ولا يعد عمرو بن العاص .

فلهذا كان الناس يقبلون على النبي صلى الله عليه وسلم بسبب حسن تعامله عليه الصلاة والسلام.

نموذج من تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المخالف

عندما أمسك النبي صلى الله وسلم بـثمامة بن أثال وكان كافراً، ربطه النبي صلى الله عليه وسلم في سارية من سواري المسجد، فدخل عليه فقال: ( ما عندك يا ثمامة؟ وكان سيد بني حنيفة، قال: عندي خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت نعطك، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد قال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير، إن تقتل تقتل ذا دم -يعني: إن قتلتني، فقد قتلت أحداً من أصحابك- وإن تنعم تنعم على شاكر -يعني: سوف أوفي شكر نعمك بأكثر من ذلك- وإن تريد المال فسل ما شئت نعطك، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول: أطعموا ثمامة، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا سراح ثمامة ) هذا الذي قتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل بالنبي وبأصحابه وبجيشه! وفعل وفعل! كل الحروب لم تؤثر في ثمامة، وكل المعاني لم تؤثر في ثمامة، ولكنه حينما رأى حسن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن بهجته، وحسن عدله وإنصافه ( قال: أطلقوا سراح ثمامة، فذهب ثمامة إلى حائط من حوائط الأنصار، فاغتسل ثم دخل على رسول الله، فقال: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، يا رسول الله! والله لقد كان دينك أبغض الأديان على وجه الأرض، ولقد أصبح دينك أحب الأديان على وجه الأرض )، والسبب في ذلك حسن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم.

فكم نحن بحاجة أحبتي.. كم نحن بحاجة أيها الأخ الفاضل!.. كم نحن بحاجة أيتها الأسرة الفاضلة!.. كم نحن بحاجة إلى اجتماع كلمة المسلمين؟ الأب إذا دخل بيته، وأقبل على أولاده بحسن بشاشة، وبحسن بهجة، وبحسن حفاوة، فإنهم سوف يقبلون على أبيهم، سوف تقبل المرأة على زوجها؛ ولهذا قيل لـعائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: ( بأي شيء يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ )، ماذا قالت؟ ( قالت: يبدأ بالسواك ) لماذا يبدأ بالسواك؟ لأنه سوف يقترب من أهله، ويعطيهم ما يعطيه الرجل لامرأته من الحنان العاطفي، فاستطاع النبي عليه الصلاة والسلام أن يغزو كل الخلق.

ولهذا استطاع عليه الصلاة والسلام بحسن تعامله أن يقلب الناس، وأن يوجد حضارة مع أناس أجلاف أعراب تركوا كل ذلك لمحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

واليوم نجد اختلافات في وجهات النظر، فلابد أن توافقني في كل شيء، إذا أنا أحببت الأرز فلابد أن تحب الأرز، وإذا أنا أحببت الأكل فلابد أن تحب الأكل، هذه الطريقة خاطئة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى الاختلافات الطبيعية، لكنه نظر إلى أن النفوس مجبولة على محبة القهر، ومحبة الغلبة.

الحذر من معالجة الخطأ حال الغضب

هناك نقطة مهمة في تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المخالف، وهي: ألا يعالج الخطأ إلا في وقت الرضا؛ لأن الإنسان في وقت الغضب إذا قلت له: أخطأت في المسألة الفلانية، تجد بطبيعة الحال كبرياء البشر فربما لا يقبل ويحاول أن يقول: قد قال به بعض أهل العلم، أو يكابر، هذه طبيعة النفس.

النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى شدة غضب عائشة لا يعالج خطأ عائشة وقت غضبها، فإذا رضيت واستروحت مع النبي صلى الله وسلم، واقتربت منه أراد أن يبين ذلك عليه الصلاة والسلام، كما جاء في الصحيحين ( حينما دخل عليها فاقتربت منه، واستروحت له، فقالت: يا رسول الله! ادع الله لي، فرفع يديه وقال: اللهم اغفر لـعائشة ، اللهم اغفر لـعائشة ، اللهم اغفر لـعائشة ، ثم التفت إلى عائشة ) -وأنا جمعت حديثين في حديث- ( فقال: يا عائشة ! أما إني أعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عني غضبة، قالت: بم يا رسول الله؟ كيف عرفت؟ قال: إذا كنت عني راضية، قلت: لا، ورب محمد! وإذا كنت عني غضبة، قلت: لا، ورب إبراهيم! قالت: نعم، يا رسول الله! والله لا أهجر إلا اسمك، ولن أهجره بعد اليوم )، استطاع عليه الصلاة والسلام أن يترك هذا العلاج وقت غضب عائشة .

ولهذا كثيرة هي المخالفات التي تحصل وتزداد شحناؤها، ويزداد غلواؤها بسبب أن الناس لم يحسنوا التعامل، وقد كان عليه الصلاة والسلام وقت غضب الناس يحب أن يسكت؛ لأن الزمن كفيل بحل كثير من المشكلات.

تأثير المداراة على حياة المخالف

جاء في الصحيحين من حديث عائشة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند عائشة فاستأذن أحد الناس )، الذين هم أغلاظ أجلاف وقيل: إنه كان منافقاً ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائذنوا له، فلبئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له النبي صلى الله عليه وسلم الكلام، وهش له وبش، فلما خرج أخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأت وبما سمعت، فقال: يا عائشة! إن من أشر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء شره )، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( بئس أخو العشيرة ) إنما يريد أن يحكي واقعاً هذا حاله، وأنه غليظ، لكنه عليه الصلاة والسلام عامله باللطف؛ ولأجل هذا أشار الإمام ابن بطال المالكي رحمه الله، في شرحه لهذا الحديث قال: المداراة من منهج أهل السنة والجماعة فالمداراة شيء، والمداهنة شيء آخر.

المداراة معناها: أنك تعلم أن هذا الرجل غليظ، وأن تتقي شره بأسلوب لطيف، فهذا لا بأس به، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بئس أخو العشيرة) يريد أن يبين لـعائشة رضي الله عنها حاله وصفته، فهذا لا حرج.

لكن فرق كبير بين كل ما سمعه عن شخص غليظ، وبين أن أذهب لأسبه في كل مجلس، فهذا لا يليق.

الرسول صلى الله عليه وسلم بين حاله، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين أن هذا الرجل فيه صفة بهذا الأمر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن فيك لخصلتين)، وقال: (ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله)، وقال قصصاً كثيرة ليبين واقع الحال، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (بئس أخو العشيرة)، ليست هذه غيبة، بل هذا إخبار عن حال الرجل، فأنت يا عائشة! يجب أن تعلمي أن هذا الرجل بحاجة إلى التلطف معه، فإذا قلت لي: جاء فلان، قلت لك: بئس أخو العشيرة..

فمرادي من ذلك أن أبين لك أن هذا الرجل بحاجة إلى التلطف معه، فإذا دخل تجدني أحسن التعامل معه، فتعلم هديي في طريقة هذا الأمر، ولأجل هذا صنع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

إذاً: أراد أن يبين لـعائشة أن هذا الرجل غليظ، وأنه يجب أن تتقي شره، فلما دخل ألان له النبي صلى الله وسلم الحديث، والإلانة وحسن الاستقبال مدعاة إلى أن الإنسان يتقي شر غيره؛ ولأجل هذا قال القائل:

أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمال

بل إن ابن تيمية رحمه الله أشار إلى أن بعض الناس إذا كان يهجو الآخرين فدفع له أحدهم شيئاً من المال لأجل ألا يهجوه فإنه مأجور على هذا المال، ويأثم الآخذ، ولأجل هذا كنا بحاجة إلى أن نحسن التعامل مع الثقلاء.

يقول ابن القيم رحمه الله: وقد كان أبو العباس يعني: ابن تيمية رحمه الله يأتي إليه كثير من الثقلاء، قال: فيصبر عليهم، ويهش إليهم، فمرة جلس مع أحد الثقلاء -والثقيل: الذي يسأل أسئلة متعبة، وفيه حمق، فيتحمل المفتي، ويتحمل العالم، ويتحمل الداعية الشيء الكثير- يقول ابن القيم : فالتفت إلي شيخ الإسلام ابن تيمية وقال لي: إن كثيراً من الثقلاء أشد من حمى الربع، يعني: الحمى التي تأتي في الصيف، يقول: ولكني عودت نفسي فتعودت، فهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما هش إلى الرجل كان هذا دليلاً على أننا بحاجة إلى أن نداري الآخرين، فالمداراة من منهج أهل السنة والجماعة، كما قال ابن بطال .

إذاً المداراة: هي أن تتلطف مع الآخرين بحيث لا تداهن في دين الله، فلا تكذب في دين الله، ولا تترك المنكر دون النهي عنه، ولا بأس أن تذكره بما ليس فيه، بمعنى: أن تقول: إن شاء الله سوف يكون كذا، كما أشار كثير من أهل العلم، لكن الذي ينبغي ألا تدخل عليه السرور وتمدحه بشيء وهو فيه، ثم تتكلم عليه وتسبه في مجلس آخر، قيل لـحذيفة رضي الله عنه: ما بالنا إذا جلسنا مع الولاة مدحناهم، وإذا جلسنا في غيرهم سببناهم؟ قال: ذاك هو النمام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الرجل الذي كان ينادي النبي صلى الله عليه وسلم بصوت عال فقد عامله النبي صلى الله عليه وسلم بالمثل فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بصوت عال مثله حتى يجاريه في أسلوبه، فالرجل عندما قال: (أين محمد؟ قال صلى الله عليه وسلم: هاؤم)، يريد أن يبين للعرب بأن هذه الطريقة ليست لائقة؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث بمعناه: ( وعامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به )، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين أن هذا التعامل ليس بلائق بمثلك أيها الرجل! فنسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن يرزقنا الاهتداء بهدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والحلم على السفهاء واللؤماء.

وينبغي أن نعرف أن هذا يحتاج إلى دربة؛ ولهذا قال الله تعالى: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا [العنكبوت:69]، يعني: جاهدوا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا في هدي القرآن.

( قيل لـعائشة ما خلق الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلقه القرآن )، قال الراوي وهو سعد بن هشام : فهممت أن أقوم ولا أسأل أحداً شيئاً؛ لأني سوف أقتدي بالقرآن.

ولأجل هذا كنا بحاجة أيها الإخوة! إلى أن نعود أنفسنا، يعني: الآن أنا سمعت الحديث وهششت وعرفت أن البسمة تؤثر، فأول ما يدخل زميلي أو أخي الذي بيني وبينه خلاف -أو زوجي أو زوجتي- أحاول أن أغير، فأقهر نفسي وأغلبها، وأبتسم له، لا أقول: إني أبتسم له ولا يؤثر فيه؛ لأن الابتسامة أحياناً تكون مستأجرة، ففرق بين الابتسامة التي تخرج من القلب وغيرها، وفرق بين الثكلى والنائحة.

فإذا أنا ابتسمت ابتسامة مشرقة، أشعرت الذي أمامي بأن بهجتي دليل على ما في قلبي، وهذا يؤثر طبيعياً، فالابتسامة سحر حقيقي، فبمجرد تبسمك للآخرين يتأثر الآخر، وذلك حتى في الفتوى، فإذا سألت شخصاً وهو يبتسم، يعطيك كل ما في نفسه فيرتاح.

وأحياناً يكون الإنسان مريضاً مثل الموسوسين، فيحتاج إلى أن تسمع له.

مرة من المرات اتصل بي بعض الإخوة فقال: أنا موسوس في الطلاق، فقلت: نعم، لا حول ولا قوة إلا بالله، فمشيت معه، حتى قلت له: الحمد لله، لا يقع طلاقك، فبكى؛ لأنه حس أن كل الذي في قلبه أخرجه، وهذا أمر واضح جداً، فالإنسان أحياناً بحاجة إلى أن يسمع الآخرين؛ ولهذا أكثر مشاكل الحياة الزوجية بسبب أن الزوج لا يسمع لزوجته، فإذا جاءت الزوجة تريد أن تبين له قال: والله! إن تكلمت فأنت طالق، فتقع ظلمة سوداء في قلبها، ولا يمكن أن تطفئها.

فلو أن المرأة جاءت إلى زوجها وقالت: أختك فعلت كذا، فبدلاً من أن تقول: أنتِ السبب، عاملها بأسلوب حتى تقبل منك، أما إذا أنا جابهت المخالف فإنه لن يقبل مهما كان؛ لأن النفس طبعت على الكبرياء، والله أعلم.

فأدعوكم جميعاً إلى أن نبتسم في وجوه بعضنا البعض دوماً، وفي الحديث: ( وتبسمك في وجه أخيك صدقة ). وكما قال الشاعر:

لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

لا شيء أبرد على القلب ولا شيء أسعد للنفس، ولا شيء أروح لاسترواح القلب من سلامة القلب، ولأجل هذا جاء عند أبي داود بسند لا بأس به، وإن كان بعض المتأخرين قد ضعفه، وقال أبو داود : ما سكت عنه فهو صالح. والحديث إلى الضعف أقرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تحدثوني عن أصحابي شيئاً؛ إني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم القلب )، وهذا يدل دلالة واضحة على أن الإنسان مهما بلغ من التقوى، ومهما بلغ من الديانة، فإن سماعه لأخطاء الآخرين سوف يوغل في قلبه، ويوجد وحشةً في قلبه؛ ولأجل هذا كنا بحاجة إلى أن ندرس ونتعلم ونتدارس هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع من يخالفه الرأي، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم مع من يخالفه في العقيدة، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم مع من يخالفه في الاختيار.

نحن بحاجة إلى رأب الصدع، واجتماع الكلمة، فإن اجتماع الكلمة من أهم قواعد الدين؛ ولأجل هذا حاول النبي عليه الصلاة والسلام في بداية دعوته أن يجعل المجتمع المدني جماعة واحدة، فمن ذا الذي يصدق أن الأوس والخزرج الذين كانوا يقتتلون لأجل لعاعة من الدنيا، أو لأجل فرس يفوز، أو لأجل شاة تيعر، ونحو ذلك يجتمعون لإعلاء كلمة الله، فتجتمع قلوبهم، وتتوحد نفوسهم وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]؛ ولأجل هذا كنا بحاجة إلى معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع من يخالفه، وتعامل النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الغضب، وتعامل النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الجهل عليه، فنحن بحاجة ماسة إلى أن نقتدي بالمصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
برنامج يستفتونك - فقه الخلاف [2] 2743 استماع
برنامج يستفتونك - الاستغفار [1] 2017 استماع
برنامج يستفتونك - وقفات مع الدعاء 1835 استماع
برنامج يستفتونك - الزكاة [3] 1803 استماع
برنامج يستفتونك - استغلال الإجازة 1749 استماع
برنامج يستفتونك - الزكاة [2] 1733 استماع
برنامج يستفتونك - الاستغفار [2] 1704 استماع
برنامج يستفتونك - الزكاة [1] 1652 استماع
برنامج يستفتونك - أحكام المسح على الجورب 1379 استماع
برنامج يستفتونك - الزكاة [4] 1083 استماع