خطب ومحاضرات
فقه العبادات - الصلاة [15]
الحلقة مفرغة
صفة النزول من القيام إلى السجود في الصلاة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخوتي المشاهدين والمشاهدات!
أسعد الله مساءكم بكل خير وخيرات، ومسرة وبركات، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن تحفهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم ربي فيمن عنده في الملأ الأعلى.
أيها الإخوة والأخوات! كنا قد وصلنا في شرحنا لصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما بعد السجدة الثانية، وكنا ذكرنا بعض المسائل وقلنا: نرجئها إن شاء الله إلى حلقة قادمة، ولعلنا نذكرها في هذه الحلقة.
فمن المسائل أيها الإخوة! مسألة الخرور من القيام إلى السجود، هل يقدم ركبتيه أم يقدم يديه؟
وهذه المسألة اختلف أهل العلم فيها، والكلام فيها معلوم معروف عند الأئمة رحمهم الله، وبادئ ذي بدء فلا بد من البيان أن الأئمة رحمهم الله اتفقوا على أن الإنسان سواء قدم يديه أو قدم ركبتيه فكل ذلك جائز، وإنما الخلاف في الأفضلية، كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله.
إذا ثبت هذا فإن جماهير أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة قالوا: إن الأفضل في حق المصلي أن يقدم ركبتيه قبل يديه، فإن قدم يديه قبل ركبتيه فجائز، لكن الأفضل أن يقدم ركبتيه قبل يديه.
وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن الأفضل أن يقدم يديه قبل ركبتيه.
وبالمناسبة فإن كل الأحاديث الواردة في تقديم الركبتين على اليدين، أو الواردة في تقديم اليدين على الركبتين أحاديث لم تصح مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما أحاديث تقديم الركبتين على اليدين فمنها ما رواه شريك القاضي ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه، عن علقمة بن وائل بن حجر ، عن أبيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خر قدم ركبتيه قبل يديه )، وهذا الحديث صححه بعض المتأخرين، والراجح أن الحديث ضعيف؛ وذلك لأن شريك بن عبد الله القاضي اختلط حينما تولى القضاء، وتفرد بهذا الحديث، كما ذكر ذلك الإمام البخاري و الدارقطني و أبو داود وغيرهم، وعلى هذا فالحديث لا يصح مرفوعاً.
وجاء له شاهد من حديث أنس بن مالك ، وفي سنده ضعف، فإن الحديث جاء من طريق رجل يقال له: إسماعيل المكي ، وحديثه ضعيف.
أما أحاديث تقديم اليدين على الركبتين فمنها ما جاء عند أبي داود وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه ).
وهذا الحديث يرويه عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن الهاشمي ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، وهذا الحديث صححه بعض المتأخرين، وأكثر أهل الحديث على تضعيفه، فإن البخاري رحمه الله ذكره في التاريخ الكبير، وقال: تفرد به عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن ، ولا يصح سماع عبد العزيز عن محمد ، ولا محمد عن أبي الزناد ، فـالبخاري ضعفه من ثلاثة وجوه:
الأول: تفرد عبد العزيز بن محمد الدراوردي .
الثاني: أنه لا يعرف سماع عبد العزيز من محمد .
الثالث: لا يعرف سماع محمد بن عبد الله بن الحسن ، من أبي الزناد .
فدل ذلك على أن الحديث منقطع.
ثم إن ابن القيم رحمه الله أشار إلى أن الحديث مقلوب على الرواة، والصحيح في بروك البعير أنه يقدم يديه؛ لأن ركبة البعير في يديه، فقال: ( لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير، وليضع ركبتيه قبل يديه )؛ لأن ركبة البعير كانت في اليدين في مقدم جسمه، فقال ابن القيم : إن الحديث مقلوب، والصحيح: ( لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير، وليضع ركبتيه قبل يديه ).
وأنت ترى أن هذه الأحاديث كلها ضعيفة، لكن أهل العلم قالوا: إن الأقرب تقديم الركبتين؛ لأنه قد صح ذلك عن عمر ، كما روى الطحاوي ، عن إبراهيم النخعي ، عن أصحاب عبد الله بن مسعود : علقمة و الأسود أنهما قالا: حفظنا عن عمر -يعني: ابن الخطاب - أنه كان إذا خر ساجداً قدم ركبتيه قبل يديه، كما يخر البعير، وهذا ثابت عن عمر .
وأما مالك بن أنس فإنما استدل بفعل ابن عمر ، فقد روى عبد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه، أنه ( كان يقدم يديه قبل ركبتيه )، والذي يظهر والله أعلم أن عبد الله بن عمر روي عنه من وجهين: روي عنه تقديم الركبتين قبل اليدين، وروي عنه تقديم اليدين قبل الركبتين، وإن كان تقديم اليدين قبل الركبتين أصح عنه.
والذي يظهر أن ابن عمر إنما صنع ذلك؛ لأنه كان قد كبر سنه، و عبد الله بن عبد الله بن عمر لم يرو عن والده إلا بعدما أسن، وعلى هذا فالراجح والله أعلم أن الأقرب تقديم الركبتين قبل اليدين لفعل عمر رضي الله عنه؛ ولأن هذا هو الأظهر وهو الأقرب من حال المصلي، فإن المصلي لو أراد أن يقدم يديه قبل ركبتيه لكانت حالته على غير الحالة الطبيعية، هذه مسألة.
من الأذكار المشروعة في الركوع والسجود
جلسة الاستراحة
ومعنى جلسة الاستراحة: أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فإنه يجلس كأنه في التشهد الأول، أو كأنه بين السجدتين، فيفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى، فهل هذا وارد أم لا؟
خلاف بين أهل العلم:
فذهب الشافعي إلى استحباب ذلك.
وذهب جمهور الفقهاء إلى عدم استحبابه، وهو مذهب الحنفية والحنابلة والمالكية، فذهبوا إلى عدم استحباب جلسة الاستراحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعله لأجل أنه كبر سنه؛ لأن مالك بن الحويرث إنما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره.
والحديث الوارد في ذلك ما ثبت في صحيح البخاري من حديث مالك بن الحويرث أنه قال: ( حتى إذا كان في وتر من صلاته جلس صلى الله عليه وسلم جلسةً يسيرة ثم قام )، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذه الفعلة، وقد جلس مالك بن الحويرث أكثر من عشرة أيام، وقال لهم صلى الله عليه وسلم حينما كان مالك بن الحويرث يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك قال: ( لعلكم اشتقتم إلى أهليكم، فقلنا: نعم، قال: اذهبوا إلى أهليكم فعلموهم، وإذا حضرت الصلاة فصلوا كما رأيتموني أصلي، وليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً )، وفي رواية: ( وليؤمكم أكبركم )، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يفعلوا مثل فعله، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا هذه الجلسة لأنني كبير؛ ولهذا فالذي يظهر والله أعلم هو ما اختاره بعض أهل الحديث؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه أنه كان لا يجلس، وروي عنه أنه كان يجلس.
فالسنة هي أن يفعل ذلك أحياناً وهذا أحياناً، فإن فعلها دائماً فقد خالف السنة التي لم يكن يفعلها، يعني: لم يكن يجلس، وإن داوم على عدم الجلوس فإنه خالف سنة أنه كان يجلس، ولهذا كان الأفضل أن يفعل هذا تارة وهذا تارة.
أما المأموم فإذا كان إمامه لم يجلس جلسة الاستراحة؛ فإن الذي يظهر والله أعلم ألا يجلس المأموم لأجل ألا يخالفه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه )، ولعل هذا من الاختلاف.
فإن الاختلاف ينقسم إلى قسمين: اختلاف في الأفعال الواجبة، واختلاف في الأفعال المستحبة، وكلاهما مقصود، فمن الأفضل ألا يتأخر المأموم عن إمامه، فإن فعل الإمام فلا حرج أن يفعل المأموم ذلك، وإن ترك فلا حرج أن يترك ذلك؛ لأن ذلك إنما هي متابعة في السنة، ومتابعة المأموم إمامه في السنة أفضل إذا كان ذلك موطناً لذلك.
صفة القيام إلى الركعة الثانية
اختلف العلماء في ذلك، والذي يظهر والله أعلم أنه إنما يعتمد على الأرض إذا جلس جلسة الاستراحة؛ لأن في حديث مالك بن الحويرث : ( ووضع يده على الأرض )، فهذا يدل على أنه يضع يده على الأرض إن كان قد جلس جلسة الاستراحة.
وإن لم يكن قد جلس جلسة الاستراحة فإن الأفضل في حقه أن يعتمد على صدور قدميه كما صح ذلك عن ابن مسعود ، وروي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث وائل بن حجر ، ولكنه لا يفرح به، فهو حديث ضعيف، أعني: حديث وائل بن حجر : ( أنه كان إذا نهض إلى الصلاة نهض على صدور قدميه )، فهذا حديث ضعيف، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وعلى هذا فإذا أراد أن يقوم فإننا نقول: إن كان قد جلس جلسة الاستراحة فيعتمد على يديه، ثم يعتمد بعد ذلك على صدور قدميه وركبتيه، وإن لم يكن جلس فإنما يعتمد على ركبتيه وصدور قدميه كما صح ذلك عن ابن مسعود ، وبذلك تأتلف وتجتمع الأحاديث والآثار، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ما تخالف فيه الركعة الثانية الركعة الأولى
الشيء الأول: تكبيرة الإحرام، فإن تكبيرة الإحرام إنما تفعل مرة واحدة، وبالتالي فلا يشرع للمأموم أو الإمام أن يكبر تكبيرةً إذا استتم قائماً؛ لأن تكبيرة الانتقال من سجوده إلى قيامه كافية في ذلك، وإن فعل فإنما ذكر لفظاً مشروعاً في غير محله، وهذا غير مشروع.
الشيء الأمر الثاني: ألا يستفتح، فإن استفتاح الصلاة إنما هو مشروع في الركعة الأولى، وعلى هذا فلا يشرع للمصلي سواء كان إماماً أو منفرداً أو مأموماً أن يستفتح الصلاة.
الشيء الثالث: ذهب الحنابلة والحنفية إلى أنه لا يتعوذ، وقالوا: إن التعوذ إنما هو في الركعة الأولى؛ لأن الصلاة تسبيح وتحميد وتكبير، فلم يكن ثمة انقطاع، مثل: لو قرأ الإنسان القرآن ثم ذكر الله ودعا وسبح وهلل إذا مر بآية تسبيح؛ فإنه لا يشرع له أن يقول مرةً ثانية: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فكذلك إذا كبر أو ركع أو سجد؛ لأن ذلك عبادة وهو نوع من التسبيح.
وذهب الشافعي و ابن حزم وهو اختيار أبي العباس إلى أنه يشرع للإنسان أن يتعوذ في كل ركعة، بل بالغ ابن حزم فقال: واجب عليه أن يتعوذ عند قراءة كل ركعة، ومن المعلوم أن الإنسان يقرأ القرآن في الركعة الثانية والثالثة والرابعة.
ولكن الراجح هو استحباب أن يتعوذ؛ لقوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، وقال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36]، فدل ذلك على أن الإنسان يستحب له أن يتعوذ بالله إذا قرأ القرآن، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
مواضع رفع اليدين في الصلاة
الموضع الأول: عند تكبيرة الإحرام.
الموضع الثاني: عند الركوع.
الموضع الثالث: عند الرفع من الركوع.
ولكن جاء عنه: ( وكان يفعل ذلك إذا قام من الثنتين بعد الجلوس )، وهذا يدل على أن ابن عمر إنما لم يذكر ذلك عند البخاري ؛ لأنه ذكره مختصراً، وعلى هذا فالراجح والله أعلم أنه يرفع في أربعة مواطن.
وهل يرفع يديه إذا أراد أن يسجد؟ يعني: إذا جلس وهو قائم قال: الله أكبر ثم سجد، فإذا أراد أن يرفع من السجود قال: الله أكبر، فهل يرفع يديه؟
ذكر بعض أهل العلم أنه يستحب له أن يرفع؛ استدلالاً بحديث: ( أنه كان يرفع يديه في كل خفض ورفع )، من حديث ابن مسعود ، ولكن الحديث ضعيف، والصواب أن الحديث: ( أنه كان يكبر في كل خفض ورفع )، فخلط ذلك الراوي، فبدلاً من أن يقول: (كان يكبر)، قال: (كان يرفع)، ولكن ابن الزبير كان يصنع ذلك، كما روى البيهقي وغيره.
والراجح والله أعلم أنه لا يستحب فعل ذلك.
فإن قال قائل: ابن عمر لم يذكر ذلك، و عبد الله بن الزبير فعل ذلك، ألا يقال: بأن المثبت مقدم على النافي؟ فـابن عمر ناف، وغيره مثبت؟
فالجواب على ذلك أن يقال: ليس كل مثبت مقدماً على النافي على الإطلاق، فإن النافي إن كان قد نفى عن علم فإنه نفيه عن علم يكون بمثابة الإثبات، كما حكى ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله، ولهذا كان يقول ابن عمر : ( ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود )، فهو دليل على أن ابن عمر إنما نفى فعل النبي صلى الله عليه وسلم عن علم، وعلى هذا فالسنة ألا يرفع يديه في سجوده، ولا عند الرفع من السجود، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
موضع التورك وخلاف العلماء فيه
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يتورك كما هو مذهب مالك .
وذهب الشافعي إلى أنه لا يتورك إلا إذا كان في تشهد يعقبه سلام، فـالشافعي لا يرى التورك إلا في تشهد يعقبه سلام، فيتورك عند الشافعي في التشهد الأول في صلاة الفجر، أو في التطوعات التي هي ركعتان.
أما أبو حنيفة فلا يرى التورك أصلاً، فإنه يرى أن يجلس على اليسرى وينصب اليمنى.
أما الحنابلة فإنهم قالوا: لا يتورك إلا إذا كان في الصلاة تشهدان، فيتورك في التشهد الثاني، وأما إذا كان في الصلاة تشهد واحد فإن السنة أن يجلس على اليسرى وينصب اليمنى؛ لقول عائشة رضي الله عنها: ( في كل ركعتين التحية، وكان يجلس على رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى )، ولعل مذهب الحنابلة أصح من مذهب مالك ، وأقوى من مذهب الشافعي ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخوتي المشاهدين والمشاهدات!
أسعد الله مساءكم بكل خير وخيرات، ومسرة وبركات، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن تحفهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم ربي فيمن عنده في الملأ الأعلى.
أيها الإخوة والأخوات! كنا قد وصلنا في شرحنا لصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما بعد السجدة الثانية، وكنا ذكرنا بعض المسائل وقلنا: نرجئها إن شاء الله إلى حلقة قادمة، ولعلنا نذكرها في هذه الحلقة.
فمن المسائل أيها الإخوة! مسألة الخرور من القيام إلى السجود، هل يقدم ركبتيه أم يقدم يديه؟
وهذه المسألة اختلف أهل العلم فيها، والكلام فيها معلوم معروف عند الأئمة رحمهم الله، وبادئ ذي بدء فلا بد من البيان أن الأئمة رحمهم الله اتفقوا على أن الإنسان سواء قدم يديه أو قدم ركبتيه فكل ذلك جائز، وإنما الخلاف في الأفضلية، كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله.
إذا ثبت هذا فإن جماهير أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة قالوا: إن الأفضل في حق المصلي أن يقدم ركبتيه قبل يديه، فإن قدم يديه قبل ركبتيه فجائز، لكن الأفضل أن يقدم ركبتيه قبل يديه.
وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن الأفضل أن يقدم يديه قبل ركبتيه.
وبالمناسبة فإن كل الأحاديث الواردة في تقديم الركبتين على اليدين، أو الواردة في تقديم اليدين على الركبتين أحاديث لم تصح مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما أحاديث تقديم الركبتين على اليدين فمنها ما رواه شريك القاضي ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه، عن علقمة بن وائل بن حجر ، عن أبيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خر قدم ركبتيه قبل يديه )، وهذا الحديث صححه بعض المتأخرين، والراجح أن الحديث ضعيف؛ وذلك لأن شريك بن عبد الله القاضي اختلط حينما تولى القضاء، وتفرد بهذا الحديث، كما ذكر ذلك الإمام البخاري و الدارقطني و أبو داود وغيرهم، وعلى هذا فالحديث لا يصح مرفوعاً.
وجاء له شاهد من حديث أنس بن مالك ، وفي سنده ضعف، فإن الحديث جاء من طريق رجل يقال له: إسماعيل المكي ، وحديثه ضعيف.
أما أحاديث تقديم اليدين على الركبتين فمنها ما جاء عند أبي داود وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه ).
وهذا الحديث يرويه عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن الهاشمي ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، وهذا الحديث صححه بعض المتأخرين، وأكثر أهل الحديث على تضعيفه، فإن البخاري رحمه الله ذكره في التاريخ الكبير، وقال: تفرد به عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن ، ولا يصح سماع عبد العزيز عن محمد ، ولا محمد عن أبي الزناد ، فـالبخاري ضعفه من ثلاثة وجوه:
الأول: تفرد عبد العزيز بن محمد الدراوردي .
الثاني: أنه لا يعرف سماع عبد العزيز من محمد .
الثالث: لا يعرف سماع محمد بن عبد الله بن الحسن ، من أبي الزناد .
فدل ذلك على أن الحديث منقطع.
ثم إن ابن القيم رحمه الله أشار إلى أن الحديث مقلوب على الرواة، والصحيح في بروك البعير أنه يقدم يديه؛ لأن ركبة البعير في يديه، فقال: ( لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير، وليضع ركبتيه قبل يديه )؛ لأن ركبة البعير كانت في اليدين في مقدم جسمه، فقال ابن القيم : إن الحديث مقلوب، والصحيح: ( لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير، وليضع ركبتيه قبل يديه ).
وأنت ترى أن هذه الأحاديث كلها ضعيفة، لكن أهل العلم قالوا: إن الأقرب تقديم الركبتين؛ لأنه قد صح ذلك عن عمر ، كما روى الطحاوي ، عن إبراهيم النخعي ، عن أصحاب عبد الله بن مسعود : علقمة و الأسود أنهما قالا: حفظنا عن عمر -يعني: ابن الخطاب - أنه كان إذا خر ساجداً قدم ركبتيه قبل يديه، كما يخر البعير، وهذا ثابت عن عمر .
وأما مالك بن أنس فإنما استدل بفعل ابن عمر ، فقد روى عبد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه، أنه ( كان يقدم يديه قبل ركبتيه )، والذي يظهر والله أعلم أن عبد الله بن عمر روي عنه من وجهين: روي عنه تقديم الركبتين قبل اليدين، وروي عنه تقديم اليدين قبل الركبتين، وإن كان تقديم اليدين قبل الركبتين أصح عنه.
والذي يظهر أن ابن عمر إنما صنع ذلك؛ لأنه كان قد كبر سنه، و عبد الله بن عبد الله بن عمر لم يرو عن والده إلا بعدما أسن، وعلى هذا فالراجح والله أعلم أن الأقرب تقديم الركبتين قبل اليدين لفعل عمر رضي الله عنه؛ ولأن هذا هو الأظهر وهو الأقرب من حال المصلي، فإن المصلي لو أراد أن يقدم يديه قبل ركبتيه لكانت حالته على غير الحالة الطبيعية، هذه مسألة.
الشيخ: المسألة الأخرى: سبق أن ذكرت لكم أن الإنسان يقول في ركوعه: ( اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعصبي )، وقلت: إن هذا الحديث وارد، ويحتاج إلى التأكد من إسناده، وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك إذا ركع، وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين )، وهذا يدل على أن هذا الذكر مشروع في الركوع والسجود.
الشيخ: إذا ثبت هذا أيها الإخوة والأخوات! فإن من المسائل أيضاً أنه إذا أراد أن يقوم من السجدة الثانية إلى الركعة الثانية هل يجلس جلسة الاستراحة أم لا يجلس؟
ومعنى جلسة الاستراحة: أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فإنه يجلس كأنه في التشهد الأول، أو كأنه بين السجدتين، فيفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى، فهل هذا وارد أم لا؟
خلاف بين أهل العلم:
فذهب الشافعي إلى استحباب ذلك.
وذهب جمهور الفقهاء إلى عدم استحبابه، وهو مذهب الحنفية والحنابلة والمالكية، فذهبوا إلى عدم استحباب جلسة الاستراحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعله لأجل أنه كبر سنه؛ لأن مالك بن الحويرث إنما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره.
والحديث الوارد في ذلك ما ثبت في صحيح البخاري من حديث مالك بن الحويرث أنه قال: ( حتى إذا كان في وتر من صلاته جلس صلى الله عليه وسلم جلسةً يسيرة ثم قام )، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذه الفعلة، وقد جلس مالك بن الحويرث أكثر من عشرة أيام، وقال لهم صلى الله عليه وسلم حينما كان مالك بن الحويرث يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك قال: ( لعلكم اشتقتم إلى أهليكم، فقلنا: نعم، قال: اذهبوا إلى أهليكم فعلموهم، وإذا حضرت الصلاة فصلوا كما رأيتموني أصلي، وليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً )، وفي رواية: ( وليؤمكم أكبركم )، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يفعلوا مثل فعله، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا هذه الجلسة لأنني كبير؛ ولهذا فالذي يظهر والله أعلم هو ما اختاره بعض أهل الحديث؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه أنه كان لا يجلس، وروي عنه أنه كان يجلس.
فالسنة هي أن يفعل ذلك أحياناً وهذا أحياناً، فإن فعلها دائماً فقد خالف السنة التي لم يكن يفعلها، يعني: لم يكن يجلس، وإن داوم على عدم الجلوس فإنه خالف سنة أنه كان يجلس، ولهذا كان الأفضل أن يفعل هذا تارة وهذا تارة.
أما المأموم فإذا كان إمامه لم يجلس جلسة الاستراحة؛ فإن الذي يظهر والله أعلم ألا يجلس المأموم لأجل ألا يخالفه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه )، ولعل هذا من الاختلاف.
فإن الاختلاف ينقسم إلى قسمين: اختلاف في الأفعال الواجبة، واختلاف في الأفعال المستحبة، وكلاهما مقصود، فمن الأفضل ألا يتأخر المأموم عن إمامه، فإن فعل الإمام فلا حرج أن يفعل المأموم ذلك، وإن ترك فلا حرج أن يترك ذلك؛ لأن ذلك إنما هي متابعة في السنة، ومتابعة المأموم إمامه في السنة أفضل إذا كان ذلك موطناً لذلك.
الشيخ: ثم إن ثمة مسألة: إذا قام هل يعتمد على الأرض أم يعتمد على صدور قدميه؟
اختلف العلماء في ذلك، والذي يظهر والله أعلم أنه إنما يعتمد على الأرض إذا جلس جلسة الاستراحة؛ لأن في حديث مالك بن الحويرث : ( ووضع يده على الأرض )، فهذا يدل على أنه يضع يده على الأرض إن كان قد جلس جلسة الاستراحة.
وإن لم يكن قد جلس جلسة الاستراحة فإن الأفضل في حقه أن يعتمد على صدور قدميه كما صح ذلك عن ابن مسعود ، وروي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث وائل بن حجر ، ولكنه لا يفرح به، فهو حديث ضعيف، أعني: حديث وائل بن حجر : ( أنه كان إذا نهض إلى الصلاة نهض على صدور قدميه )، فهذا حديث ضعيف، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وعلى هذا فإذا أراد أن يقوم فإننا نقول: إن كان قد جلس جلسة الاستراحة فيعتمد على يديه، ثم يعتمد بعد ذلك على صدور قدميه وركبتيه، وإن لم يكن جلس فإنما يعتمد على ركبتيه وصدور قدميه كما صح ذلك عن ابن مسعود ، وبذلك تأتلف وتجتمع الأحاديث والآثار، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الشيخ: ومن المسائل أيها الإخوة! أيضاً: ما قال العلماء رحمهم الله: أنه إذا قام إلى الثانية فإنه يصنع مثل ما صنع في الأولى إلا في ثلاثة أشياء، يعني: إذا قام المصلي إلى الركعة الثانية فإنه يصنع مثل ما كان قد صنع في الركعة الأولى إلا في ثلاثة أشياء:
الشيء الأول: تكبيرة الإحرام، فإن تكبيرة الإحرام إنما تفعل مرة واحدة، وبالتالي فلا يشرع للمأموم أو الإمام أن يكبر تكبيرةً إذا استتم قائماً؛ لأن تكبيرة الانتقال من سجوده إلى قيامه كافية في ذلك، وإن فعل فإنما ذكر لفظاً مشروعاً في غير محله، وهذا غير مشروع.
الشيء الأمر الثاني: ألا يستفتح، فإن استفتاح الصلاة إنما هو مشروع في الركعة الأولى، وعلى هذا فلا يشرع للمصلي سواء كان إماماً أو منفرداً أو مأموماً أن يستفتح الصلاة.
الشيء الثالث: ذهب الحنابلة والحنفية إلى أنه لا يتعوذ، وقالوا: إن التعوذ إنما هو في الركعة الأولى؛ لأن الصلاة تسبيح وتحميد وتكبير، فلم يكن ثمة انقطاع، مثل: لو قرأ الإنسان القرآن ثم ذكر الله ودعا وسبح وهلل إذا مر بآية تسبيح؛ فإنه لا يشرع له أن يقول مرةً ثانية: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فكذلك إذا كبر أو ركع أو سجد؛ لأن ذلك عبادة وهو نوع من التسبيح.
وذهب الشافعي و ابن حزم وهو اختيار أبي العباس إلى أنه يشرع للإنسان أن يتعوذ في كل ركعة، بل بالغ ابن حزم فقال: واجب عليه أن يتعوذ عند قراءة كل ركعة، ومن المعلوم أن الإنسان يقرأ القرآن في الركعة الثانية والثالثة والرابعة.
ولكن الراجح هو استحباب أن يتعوذ؛ لقوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، وقال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36]، فدل ذلك على أن الإنسان يستحب له أن يتعوذ بالله إذا قرأ القرآن، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الشيخ: ومن المسائل أيها الإخوة: أنه إذا جلس في التشهد الأول وأراد أن ينهض إلى الثالثة فإنه يستحب له أن يرفع يديه، إما إلى حذو منكبيه، وإما إلى فروع أذنيه، ولم يستحب ذلك الحنابلة؛ لأنه جاء عند البخاري من حديث ابن عمر أنه ذكر ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: عند تكبيرة الإحرام.
الموضع الثاني: عند الركوع.
الموضع الثالث: عند الرفع من الركوع.
ولكن جاء عنه: ( وكان يفعل ذلك إذا قام من الثنتين بعد الجلوس )، وهذا يدل على أن ابن عمر إنما لم يذكر ذلك عند البخاري ؛ لأنه ذكره مختصراً، وعلى هذا فالراجح والله أعلم أنه يرفع في أربعة مواطن.
وهل يرفع يديه إذا أراد أن يسجد؟ يعني: إذا جلس وهو قائم قال: الله أكبر ثم سجد، فإذا أراد أن يرفع من السجود قال: الله أكبر، فهل يرفع يديه؟
ذكر بعض أهل العلم أنه يستحب له أن يرفع؛ استدلالاً بحديث: ( أنه كان يرفع يديه في كل خفض ورفع )، من حديث ابن مسعود ، ولكن الحديث ضعيف، والصواب أن الحديث: ( أنه كان يكبر في كل خفض ورفع )، فخلط ذلك الراوي، فبدلاً من أن يقول: (كان يكبر)، قال: (كان يرفع)، ولكن ابن الزبير كان يصنع ذلك، كما روى البيهقي وغيره.
والراجح والله أعلم أنه لا يستحب فعل ذلك.
فإن قال قائل: ابن عمر لم يذكر ذلك، و عبد الله بن الزبير فعل ذلك، ألا يقال: بأن المثبت مقدم على النافي؟ فـابن عمر ناف، وغيره مثبت؟
فالجواب على ذلك أن يقال: ليس كل مثبت مقدماً على النافي على الإطلاق، فإن النافي إن كان قد نفى عن علم فإنه نفيه عن علم يكون بمثابة الإثبات، كما حكى ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله، ولهذا كان يقول ابن عمر : ( ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود )، فهو دليل على أن ابن عمر إنما نفى فعل النبي صلى الله عليه وسلم عن علم، وعلى هذا فالسنة ألا يرفع يديه في سجوده، ولا عند الرفع من السجود، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الشيخ: إذا ثبت هذا فإنه إذا جلس في التشهد الأول مثل: صلاة الفجر، أو صلاة المغرب، أو صلاة العصر، أو العشاء، أو الظهر فإن الراجح في هذه السنة أن يجلس على اليسرى، وينصب اليمنى؛ لقول أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: ( فلما جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى )، وفي حديث عائشة : ( وكان إذا جلس نصب رجله اليمنى، وفرش رجله اليسرى، وجلس عليها )، والحديث رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، هذه هي السنة.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يتورك كما هو مذهب مالك .
وذهب الشافعي إلى أنه لا يتورك إلا إذا كان في تشهد يعقبه سلام، فـالشافعي لا يرى التورك إلا في تشهد يعقبه سلام، فيتورك عند الشافعي في التشهد الأول في صلاة الفجر، أو في التطوعات التي هي ركعتان.
أما أبو حنيفة فلا يرى التورك أصلاً، فإنه يرى أن يجلس على اليسرى وينصب اليمنى.
أما الحنابلة فإنهم قالوا: لا يتورك إلا إذا كان في الصلاة تشهدان، فيتورك في التشهد الثاني، وأما إذا كان في الصلاة تشهد واحد فإن السنة أن يجلس على اليسرى وينصب اليمنى؛ لقول عائشة رضي الله عنها: ( في كل ركعتين التحية، وكان يجلس على رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى )، ولعل مذهب الحنابلة أصح من مذهب مالك ، وأقوى من مذهب الشافعي ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
صفة وضع اليدين في جلوس التشهد
وأما اليد اليمنى في التشهد فإن السنة فيها أمران: إما أن يقبض أصابعه ويشير بالسبابة؛ لما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الزبير : ( فقبض يده اليمنى وأشار بإصبعه )، هذه صورة.
الصورة الثانية: أن يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق بين إبهامه والوسطى، ويشير بإصبعه، ويضع يده على فخذه.
والإشارة بالإصبع لا يشترط أن يحركها؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أنه يحركها، أو أنه لا يحركها.
فأما رواية (أنه يحركها) فهي رواية ضعيفة، تفرد بها رجل يقال له: زائدة بن قدامة ، عن عاصم بن كليب من حديث وائل بن حجر .
وأما رواية: (لا يحركها)، فقد تفرد بها زهير بن معاوية أبو خيثمة ، عن عاصم ، وأكثر الرواة كـسفيان و أبي عوانة ، وأكثر من اثني عشر راوياً لم يذكروا لفظة: (يحركها) أو (لا يحركها)، فدل ذلك على أن ما جاء في صحيح مسلم : ( يشير بها )، أن الإشارة هي عدم التحريك، فأنت إذا أشرت إلى شخص تقول: هذا هو، من غير تحريك.
وعلى هذا فالسنة ألا يرفع إصبعه إلا إذا كان موطن دعاء؛ لقول ابن عمر كما عند مسلم : ( ويشير بإصبعه يدعو بها ).
فالدعاء في التحيات أن يقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك، فيبدأ في الرفع ويستمر في الرفع؛ لأنه موطن دعاء، فيستمر في الرفع حتى إذا أراد أن يسلم فإنه ينزل إصبعه، وبالتالي يكون أشار بإصبعه.
والإشارة من باب التقرب إلى الله، وليس ذلك من باب التعنت، فإن فعل الإنسان فلا حرج، ولكننا لا نفعل من باب التقيد بالسنة، ولهذا قال أهل العلم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، ولم يأمرهم بذلك خشية أن يظن بعض الناس أن ذلك واجب، فيقع على المسلمين حرج وعنت، ولكنه قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، فمنهم من يلاحظ سنةً، ومنهم من لا يلاحظ.
ونحن في هذا من باب الفائدة والاستزادة للعلم نقول: يشير بإصبعه ويحنيها شيئاً؛ لما روى عصام بن قدامة عن مالك النميري عن أبيه، كما عند النسائي بسند جيد أنه قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة رفع إصبعه وقد حناها شيئاً )، يعني: شيئاً بسيطاً، فلا ينصبها نصباً، ولا يحنيها انحناءً كبيراً، ولكن حناها شيئاً بسيطاً.
ويستقبل بها القبلة، كما روى ذلك ابن خزيمة من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عن الجميع.
واعلم أن رفع الإصبع في الصلاة فيه فضيلة، ولهذا ( لما رأى صلى الله عليه وسلم
التشهد المشروع وأفضل الصيغ الواردة فيه
حديث ابن مسعود وهو: ( التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله )، والحديث في الصحيحين.
والحديث الآخر يرويه أهل السنن من حديث عمر بن الخطاب : ( التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله ) ثم يذكر مثل حديث ابن مسعود ، وهذا سنة.
الحديث الثالث: حديث ابن عباس : (التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله).
فهي ثلاث سنن، وقد جاء في حديث عائشة وحديث أبي موسى مثلها، ولكنها لا تختلف عن هذه، فذكر أبو حنيفة و أحمد أن أفضل الأذكار في التشهد حديث ابن مسعود ، وهو ( التحيات لله، الصلوات لله ) وهذا القول الأول.
القول الثاني: قول الشافعي فإنه استحب رواية ابن عباس : ( التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله ).
القول الثالث: مذهب مالك استحب رواية عمر ؛ لأنه قاله على ملأ من الصحابة.
والراجح كما مر معنا أن العبادات الواردة على وجوه متنوعة فالسنة أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وقال مرة على رواية ابن مسعود : ( التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك )، وقال مرةً على رواية عمر : ( التحيات لله، الزاكيات لله، الصلوات الطيبات، السلام عليك )، وقال مرة على رواية ابن عباس : ( التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله ).
وهذا يدل على أن هذه تفعل مرة، وهذه مرة؛ لأن ذلك أدعى لموافقة السنة؛ ولأن ذلك أدعى للخشوع، فإن الإنسان إذا عود لسانه على ذكر معين فلربما قاله من غير تعقل، ومن غير استحضار، ولا شك أن العبادة والصلاة التي يستحضرها الإنسان منذ دخوله إلى خروجه يغفر له بها ذنبه، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث بهما نفسه، غفر الله له ذنوبه )، وهذا يدل على أفضلية الخشوع، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وقد مر معك أن رفع الإصبع بين السجدتين لا يشرع، وأن الرواية الواردة في هذا يرويها عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عاصم بن كليب ، وقد تفرد بها عبد الرزاق عن سائر الرواة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول
الجواب: ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الأفضل أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول والثاني، وهذا رواية عند الإمام أحمد ، قالوا: فإن الصحابة قالوا: ( يا رسول الله! أمرنا الله أن نسلم عليك في صلاتنا، فكيف نصلي عليك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.. ) الحديث.
فاستحب الشافعي أن تقال الصلاة على النبي في التشهد الأول، وتقال في التشهد الثاني، وهي رواية عن الإمام أحمد .
والقول الثاني: المستحب أن تقرأ التحيات فقط دون الصلاة، إلا إذا أطال الإمام فالمشروع في حق المأموم أن يصلي ولا يسكت؛ لأنه ليس في الصلاة سكوت مطلق، ولعل هذا القول أظهر.
ومما يقوي أن الإنسان يقتصر على التحيات فقط ما رواه النسائي من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن عبد الله بن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في التشهد كأنما هو على الرضف )، ومعنى الرضف: الحجارة الحارة، أو الحجارة المحماة، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر ويقلل من الجلوس في التشهد الأول، وهذا الحديث تكلم فيه أهل العلم وقالوا: إن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، ولهذا قالوا: إنه منقطع، والصحيح ما قاله علي بن المديني ، و يعقوب بن سفيان ، و ابن رجب ، و أبو العباس بن تيمية رحمه الله: أن كل رواية يرويها أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه، فإنما رواها عن أصحاب عبد الله بن مسعود الكبار، وهذا يدل على أنه إذا علم الواسطة بين الراوي وبين شيخه، ولو كان لم يسمع منه، فإنه يصحح بذلك الحديث، ومن المعلوم أن أصحاب عبد الله بن مسعود كلهم ثقات أفذاذ، كـعلقمة ، و الأسود ، و أبي وائل ، وغيرهم كثيرون من أصحاب ابن مسعود الكبار الحفاظ، وهذا يدل على أن رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود رواية صحيحة.
ومما يدل على أنه يقرأ التحيات فقط ما رواه ابن خزيمة ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: ( أنه كان إذا جلس في التشهد قال: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم قام )، وهذا تفسير لرواية ابن مسعود ؛ أن الأفضل أن يقرأ التحيات فقط دون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول.
ومما يدل على ذلك ما رواه البيهقي ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (أنه كان إذا جلس في التشهد الأول كأنما هو على الرضف)، كما جاء في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن هذه سنة الخلفاء الراشدين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور ).
وهذا يدل على أن الأفضل أن الإنسان يقرأ في التشهد الأول التحيات فقط دون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
أما إذا كان مأموماً وتأخر إمامه فلا يسكت، بل إن الأفضل في حقه أن يقول: اللهم صل على محمد؛ لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من أن يدعو لنفسه.
فإن دعا لنفسه فلا حرج؛ لما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا قعد أحدكم للتشهد فليقل: التحيات لله، الصلوات والطيبات، وفي آخر قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليدع بما شاء )، وفي رواية البخاري : ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه )، وهذا يدل على أنه لو دعا فهو جائز، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير
والقول الثاني هو رواية عند الحنابلة وأحد قولي الشافعي : أن ذلك واجب.
والقول الثالث: أن ذلك ركن، كما هو اختيار الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى على الجميع.
ولعل الأظهر أنها سنة؛ لأنه لم يدل على الوجوب حديث صحيح، وإنما الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه في غير الصلاة.
وأما حديث: ( فكيف نصلي عليك في صلاتنا؟ )، فهي رواية رواها البخاري و مسلم من غير هذه الزيادة، ورواها ابن خزيمة بزيادة (في صلاتنا)، فالمقصود في دعائنا، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ومما يدل على عدم الوجوب أن القائلين بالوجوب قالوا: لو قال: اللهم صل على محمد واكتفى صحت صلاته، قلنا: إذا كان هذا يكفي فيلزمكم أن تقولوا: بأن الصلاة الإبراهيمية هي الواجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد )، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الدعاء المشروع بعد التشهد الأخير
فذهب عامة أهل العلم إلى استحباب ذلك، وبالغ ابن حزم وهو رواية عن الإمام أحمد ، فقال بوجوب ذلك، بل كان طاوس يأمر ابنه أن يعيد الصلاة إذا لم يقرأها كما روى ذلك مسلم في صحيحه.
والصحيح هو مذهب عامة أهل العلم أن ذلك على سبيل الاستحباب، ومما يدل على ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قعد أحدكم للتشهد فليقل: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، ثم يسلم )، وهذا لفظ البخاري ، وهذا يدل على أنه لو لم يتعوذ، أو لم يصل على النبي عليه الصلاة والسلام في التشهد، فإن ذلك لا يؤثر على صلاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثم ليتخير من الدعاء ما شاء ) كما في رواية مسلم ، ورواية البخاري : ( أعجبه إليه، ثم يسلم )، فدل ذلك على عدم وجوب التعوذ، وعلى عدم وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
فقه العبادات - الطهارة [4] | 2581 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [17] | 2561 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [5] | 2438 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [15] | 2389 استماع |
فقه العبادات - الصلاة [9] | 2348 استماع |
فقه العبادات - الصلاة [11] | 2238 استماع |
فقه العبادات - الصلاة [16] | 2235 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [7] | 2185 استماع |
فقه العبادات - الصلاة [14] | 2112 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [14] | 2091 استماع |