خطب ومحاضرات
فقه العبادات - الطهارة [13]
الحلقة مفرغة
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم أيها الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات!
السلام عليكم أيها الطلاب الذين معنا في هذا الفصل الافتراضي! كما يسميه الإخوة في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة التي تسعد معكم من يوم الجمعة إلى يوم الإثنين في ليال مباركات تشرح فيها مسائل من كتب أهل العلم الذي هو أصل من أصول أهل السنة والجماعة في الفقه والعقيدة والتوحيد وآداب طالب العلم، وغير ذلك مما هو مبثوث في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.
أيها الإخوة والأخوات! كنا قد شرحنا بعض الأبواب التي مرت في الطهارة، والآن نصل إلى باب الغسل من الجنابة.
والغسل من الجنابة هو من أهم مهمات الراغب لأداء العبادة؛ لأن الإنسان إذا أراد العبادة فلا بد أن يتطهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، وهذا يدل على أن كل مكلف ذكراً كان أو أنثى يجب أن يتفقه في أحكام موجبات الغسل وفروض الغسل، ولهذا سوف نشرح إن شاء الله في هذه الليلة المباركة -ليلة الإثنين الواحد والعشرين من شهر صفر لعام ثلاث وثلاثين وأربعمائة وألف- باب الغسل.
أولاً: يذكر الفقهاء رحمهم الله في هذا الباب فروض الغسل، وسنن الغسل، وموجبات الغسل، والأحكام المتعلقة بمن به حدث أكبر.
والفقهاء رحمهم الله يقولون: الغُسل بالضم، في حين أنه يجوز فيه الضم، ويجوز فيه الفتح، وإن كان الفتح أشهر عند علماء اللغة، بل بالغ بعضهم فقال: إن ضم الغين غلط، وهذا الكلام ذكره بعض علماء اللغة، وقد رد الإمام النووي على هذا القول وقال: إن الغَسل والغُسل لغتان معروفتان، وإن كان الأشهر هو الفتح، فما يقوله الفقهاء له أصل -وهو قولهم: الغسل بضم الغين-، وهذا قد قال به بعض علماء اللغة، ومن خطأ الفقهاء في ذلك فقد أخطأ.
وإذا ثبت هذا فإن الغسل من الجنابة دل على مشروعيته الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم: فمن الكتاب قول الله جل جلاله وتقدست أسماؤه: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6].
وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري : ( أن النبي صلى الله عليه وقف على باب رجل من الأنصار، فخرج ورأسه يقطر ماءً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أعجلنا الرجل، فقال: يا رسول الله! الرجل يعجل عن امرأته ولم ينزل؟ قال: إنما الماء من الماء )، والحديث سوف نتحدث عنه إن شاء الله في مسألة: (إنما الماء من الماء)، ومعناه: أن وجوب ماء الغسل إنما هو بسبب ماء المني إذا خرج، والله أعلم.
والجنابة: هي ما يوجب الطهارة الكبرى، وسميت الجنابة جنابة لأن الإنسان يبتعد عن أداء بعض العبادات التي لا يصح فعلها إلا بطهارة، فهو يبتعد عن قراءة القرآن على الراجح؛ لأنه لا بد فيه من طهارة كبرى، ويبتعد عن الطواف؛ لأنه لا بد فيه من طهارة كبرى، فالجنابة يعني الابتعاد.
وقال بعضهم: إنما سمي الجنب جنباً؛ لأن الماء الذي في الصلب ينتقل إلى مكان خروجه، فهذا الانتقال ابتعاد له عن موضعه، والله تبارك وتعالى أعلم.
ومع هذا الاشتقاق نقول: إن الجنب أصبح يعرف أنه كل من أوجب حدثاً أكبر يمنع من أداء العبادة التي أوجب الله سبحانه وتعالى فيها الغسل، والله أعلم.
إذا ثبت هذا: فإن الجنب يجوز فيه التثنية، ويجوز فيه الجمع، ويجوز فيه الإفراد، إلا أن الأفضل أن تبقيه على حاله، فهو اسم لا يتغير حال الإفراد، ولا يتغير حال الجمع، ولا يتغير حال التثنية، فتقول: رجل جنب، وامرأة جنب، ورجلان جنب، وامرأتان جنب، ورجال جنب، ونساء جنب، وهذا أفصح.
ويجوز أن تقول: رجل جنب، وامرأة جنب، ورجلان جنبان، وامرأتان جنبان وغير ذلك.
ولكن الأشهر هو أن يبقى (الجنب) مفرداً، والله أعلم.
الشيخ: طيب باب الغسل من الجنابة يذكر فيه موجبات الغسل، وفروض الغسل، وسنن الغسل، والأحكام المتعلقة بمن به حدث أكبر.
وسنتكلم أولاً عن موجبات الغسل.
ونعني بموجبات الغسل: الأشياء التي توجب على المرء أن يغتسل لأجلها.
وهذه الأشياء منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، وسوف نذكرها إن شاء الله، فبعض العلماء قال: إنها ستة موجبات، وبعضهم يجعلها خمساً على الخلاف في هذا الأمر، وبعضهم يجعلها سبعاً.
فبعضهم يجعلها خمساً -وهذا هو الراجح- وبعضهم يجعلها ستاً لدخول غسل الذي أسلم، وبعضهم يجعلها سبعاً؛ لأنه يرى أن انتقال المني من الصلب ولو لم يخرج نوع من الجنابة يجب فيه الغسل، وسوف نتحدث عنه إن شاء الله عند حديثنا عن الموجبات.
من موجبات الغسل خروج المني
والمني هو ماء أبيض غليظ يخرج عند اشتداد الشهوة، وهذا في حق الذكر.
وفي حق المرأة هو ماء أصفر رقيق، ولا تكاد المرأة في الغالب أن تعرف هذا الماء، بخلاف الرجل فإنه يعرف ذلك؛ لأن خروج منيه إنما يكون بدفق، أما المرأة فربما لا ترى شيئاً، فيشكل عليها هل هذا الخارج منها مذي أم مني؛ لأن غالب ما يخرج من المرأة يكون من داخل، ولهذا تظن بعض النساء أن أول ما يخرج منها حال وجود الشهوة مني، والصحيح أن هذا ليس بمني، وإنما هو مذي، تتوضأ منه وتغسل فرجها كما ذكرنا في باب إزالة النجاسة، ولا ينبغي للمرأة أن توسوس في مثل هذا، حتى إن كثيراً من الوساوس دخلت في النساء من هذا الباب، وهذا من قلة الفقه، وعدم الخوف من الله سبحانه وتعالى؛ لأن طاعة الشيطان تكون في مثل هذا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( يكون في آخر الزمان قوم يعتدون في الطهور والدعاء )، وهذا من الاعتداء في الطهور، والله المستعان.
خروج المني حال اليقظة وشروط الاغتسال منه
الشرط الأول: أن يخرج بلذة وشهوة، وعلى هذا فلو خرج مني الرجل من غير شهوة ولا لذة فلا يجب فيه الغسل؛ لأنه يكون قد خرج بغير شرطه، والشرط هو اللذة، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ
الشرط الثاني: أن يخرج المني بدفق، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في رواية أبي يعلى : ( إنما الغسل لمن دفق ).
وعلى هذا فلو أن إنساناً أصيب بصلبه -وهذا يحدث أحياناً عند الذين يقع لهم حادث فتنكسر أصلابهم- فإنه يخرج منه هذا الماء على هيئة ماء الرجل، ولكنه لا يجب فيه الغسل؛ لأنه يخرج من غير شهوة، وعلى هذا فلا يجب عليه أن يغتسل، ولكن يجب عليه الوضوء؛ لأننا قلنا: إن من نواقض الوضوء الخارج من السبيلين، وقد نقلنا إجماع أهل العلم على أن الخارج من السبيلين على وجه معتاد يجب فيه الوضوء، وأما إذا كان على غير وجه معتاد فإننا ذكرنا أنه قول عامة أهل العلم خلافاً لـمالك، كما لو خرج منه شعر أو حصى.
مداخلة: لو تكرمتم، قلتم: يشترط أن يخرج المني بلذة من الرجل، فهل المرأة لا تشعر بلذة عند خروج المني؟
الشيخ: المرأة والرجل سواء، لكن نحن حينما نقول: (من الرجل) فإنما نذكر ذلك على سبيل الغالب، وإلا فالمرأة والرجل سواء، لكن المرأة لا يخرج منيها بدفق، وإلا فإن اللذة حاصلة للرجل والمرأة، وأما الدفق فإنما هو خاص بالرجل.
إذاً هذان الشرطان لوجوب الغسل من خروج المني حال اليقظة، فلو خرج من غير شهوة، أو من غير تدفق في وقت اليقظة فإننا لا نعول عليه ولا يجب فيه الغسل، وعلى هذا فلو أنه اغتسل من الجنابة، ثم بعد اغتساله أو أثناء اغتساله خرج منه ماء الرجل، فهذا الخروج لا يوجب غسلاً؛ لأمرين:
أولاً: لأن الجنابة لا توجب غسلين.
الثاني: ولأن خروجه هنا لم يكن بدفق.
وعلى هذا فلا يجب فيه الاغتسال، ولكننا نقول: يجب فيه الوضوء والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الاغتسال حال انتقال المني من الصلب دون خروجه
يعني: بعض الناس ربما يحس بانتقال المني ولكنه يمسكه فلا يخرج، فهل يجب عليه الغسل أم لا؟
الجواب: اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: ذهب الحنابلة رحمهم الله إلى أنه يجب عليه أن يغتسل، قالوا: لأن الجنابة اسم لما يبتعد فيه الماء من صلبه إلى خارج الصلب، قالوا: وقد حصل انتقال، وانتقاله أشبه الخروج، وما قارب الشيء يأخذ حكمه، فهو قارب خروجه فأخذ حكمه، وهذا مذهب الحنابلة.
القول الثاني: ذهب جماهير أهل العلم إلى أن العبرة إنما هو بالخروج الظاهر، ولا عبرة بالانتقال، وتسمية اللغة العربية شيء، وتسمية الحقيقة اللغوية الشرعية شيء آخر، فإذا وافقت الحقيقة اللغوية الحقيقة الشرعية أخذنا بها، وأما إذا خالفت الحقيقة اللغوية الحقيقة الشرعية فالمعول على الحقيقة الشرعية، قالوا: والحقيقة الشرعية هي قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى مسلم في صحيحه بلفظ-: ( إنما الماء من الماء )، وفي الصحيحين: ( إذا قحطت أو أعجلت فعليك الوضوء )، ورواية: (إنما الماء من الماء) تفرد بها مسلم في صحيحه.
وعلى هذا فنقول: إن من أحس بانتقال المني في صلبه دون خروج فإنه لا يجب عليه الغسل؛ لأن العبرة بخروج المني؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الماء من الماء ) يعني: إنما ماء الغسل من ماء الجنابة، وهو مني الرجل، والله تبارك وتعالى أعلم.
لكن ومع ترجيحنا أن من أحس بانتقاله لا يجب عليه الغسل، لكنه لو خرج بعد ذلك ولو لم يكن بدفق، فإنه يجب عليه أن يغتسل؛ لأنه قد خرج ولكنه حبسه فصار باقياً في الذكر، ولهذا قال العلماء: فإن خرج بعد أن أحس بانتقاله مع وجود هذه اللذة فالغالب وجود الدفق لكنه حبسه، وهذا أظهر، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
هذا القسم الأول: خروج المني حال اليقظة.
الاغتسال من خروج المني حال النوم
فلو خرج ماء الرجل أو ماء المرأة حال النوم فإنه يجب فيه الاغتسال، وهذا أمر مجمع عليه عند أهل العلم، واستدل العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ( إنما الماء من الماء )، فهو عام سواء حال اليقظة: أو حال النوم.
وقد ذهب ابن عباس إلى أن حديث: ( إنما الماء من الماء ) خاص بحال الاحتلام، والصحيح أن الحديث يتكلم عن حال اليقظة من غير إتيان الرجل أهله، وعن حال النوم، وأما إذا أتى الرجل أهله ولم ينزل فإنه يجب عليه الاغتسال لحديث آخر.
وعلى هذا فإذا استيقظ الرجل من النوم فوجد بللاً يعرف أنه ماؤه، أو تعرف المرأة أن هذا هو ماؤها الذي يأتيها وقت اشتداد الشهوة فإننا نقول: يجب الغسل في هذه الحال، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( جاءت
الجواب: لا يجب عليه اغتسال قولاً واحداً، بل حكى بعضهم الإجماع، وإن كان في المسألة خلاف، كما هو قول لبعض فقهاء الشافعية والحنابلة، والصحيح أنه إذا رأى في المنام أنه يأتي أهله، ثم استيقظ فلم يجد بللاً فلا يجب عليه الغسل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( نعم، إذا هي رأت الماء )، ومفهومه: أنها إذا لم تر الماء فلا يجب عليها الغسل.
وفي الحديث أن عائشة قالت: ( فضحت النساء يا
وعلى هذا يجب أن تعلم النساء أن هذا أمر مختلف بحال النساء، ولهذا ( قالت
إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فإننا نقول: إننا أجمعنا على أن الإنسان إذا استيقظ من النوم فوجد بللاً، وعرف أنه مني فيجب عليه أن يغتسل، سواء رأى في النوم أنه يأتي أهله أو لم ير، فهذه الحال الأولى.
الحال الثانية: إذا رأى أنه أتى أهله ثم استيقظ من النوم ولم يجد شيئاً، فالراجح وهو قول عامة أهل العلم، وقد حكي إجماعاً على أنه لا يجب عليه أن يغتسل.
الحال الثالثة: إذا قام من النوم فوجد بللاً ولا يعرف حاله، أي: لا يدري هل هو مذي أو هو مني، فنقول والله أعلم: إن كان قد تذكر في المنام أنه أتى أهله فالغالب أنه مني، وإن لم يتذكر شيئاً فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه لا يجب عليه أن يغتسل إذا لم يتيقن أنه مني؛ لأن الأصل هو براءة الذمة، قالوا: فلا يجب عليه الغسل؛ لأن الغسل لا يثبت إلا بيقين، ولا يقين هنا.
والقول الثاني في المسألة: مذهب أبي حنيفة و مالك ورواية عند الإمام أحمد قالوا: يجب عليه أن يغتسل؛ لأن الصلاة تجب بالطهارة، والطهارة لا تثبت إلا بيقين -انظر الفقه! هؤلاء أتوا بيقين وهؤلاء أتوا بيقين- ولا يقين هنا، فنبقى على أنه يجب عليه أن يغتسل.
ولو أردنا جمع الأقوال في هذا فنقول: إنه إذا وجد ماءً ولم يتذكر احتلاماً فلا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يذكر أنه قبل أن ينام كان يتفكر أنه يأتي أهله، أي: حصل منه شيء من رغبة في الجماع، فحينئذ نقول: إن هذا يعد مذياً، فيغسل ما أصاب الثوب ويتوضأ ولا يجب أن يغتسل.
الحال الثانية: إذا لم يتذكر أنه كان يتفكر قبل أن ينام ثم وجد بللاً فالأحوط والله أعلم أن يغتسل كما هو مذهب أبي حنيفة و مالك ورواية عن الإمام أحمد ، فإن لم يغتسل فالأصل أنه لا يجب عليه؛ لأن الإنسان لا يلزمه إلا ما أوجب الشارع عليه، وهذا لا يعرف ما هو، فالأصل أن ما خرج منه ليس بمني؛ لأن المني خروج عن الأصل، والأصل هو الطهارة، هذه هي القاعدة في هذا، ولكن الأحوط وهو قول ابن المنذر: أنه يغتسل، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الشيخ: وأول موجب للغسل: خروج المني.
والمني هو ماء أبيض غليظ يخرج عند اشتداد الشهوة، وهذا في حق الذكر.
وفي حق المرأة هو ماء أصفر رقيق، ولا تكاد المرأة في الغالب أن تعرف هذا الماء، بخلاف الرجل فإنه يعرف ذلك؛ لأن خروج منيه إنما يكون بدفق، أما المرأة فربما لا ترى شيئاً، فيشكل عليها هل هذا الخارج منها مذي أم مني؛ لأن غالب ما يخرج من المرأة يكون من داخل، ولهذا تظن بعض النساء أن أول ما يخرج منها حال وجود الشهوة مني، والصحيح أن هذا ليس بمني، وإنما هو مذي، تتوضأ منه وتغسل فرجها كما ذكرنا في باب إزالة النجاسة، ولا ينبغي للمرأة أن توسوس في مثل هذا، حتى إن كثيراً من الوساوس دخلت في النساء من هذا الباب، وهذا من قلة الفقه، وعدم الخوف من الله سبحانه وتعالى؛ لأن طاعة الشيطان تكون في مثل هذا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( يكون في آخر الزمان قوم يعتدون في الطهور والدعاء )، وهذا من الاعتداء في الطهور، والله المستعان.
الشيخ: إذا ثبت هذا فإن خروج المني إما أن يكون حال اليقظة، وإما أن يكون حال النوم، فإن كان حال اليقظة -وهو القسم الأول- فلا بد فيه من شرطين:
الشرط الأول: أن يخرج بلذة وشهوة، وعلى هذا فلو خرج مني الرجل من غير شهوة ولا لذة فلا يجب فيه الغسل؛ لأنه يكون قد خرج بغير شرطه، والشرط هو اللذة، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ
الشرط الثاني: أن يخرج المني بدفق، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في رواية أبي يعلى : ( إنما الغسل لمن دفق ).
وعلى هذا فلو أن إنساناً أصيب بصلبه -وهذا يحدث أحياناً عند الذين يقع لهم حادث فتنكسر أصلابهم- فإنه يخرج منه هذا الماء على هيئة ماء الرجل، ولكنه لا يجب فيه الغسل؛ لأنه يخرج من غير شهوة، وعلى هذا فلا يجب عليه أن يغتسل، ولكن يجب عليه الوضوء؛ لأننا قلنا: إن من نواقض الوضوء الخارج من السبيلين، وقد نقلنا إجماع أهل العلم على أن الخارج من السبيلين على وجه معتاد يجب فيه الوضوء، وأما إذا كان على غير وجه معتاد فإننا ذكرنا أنه قول عامة أهل العلم خلافاً لـمالك، كما لو خرج منه شعر أو حصى.
مداخلة: لو تكرمتم، قلتم: يشترط أن يخرج المني بلذة من الرجل، فهل المرأة لا تشعر بلذة عند خروج المني؟
الشيخ: المرأة والرجل سواء، لكن نحن حينما نقول: (من الرجل) فإنما نذكر ذلك على سبيل الغالب، وإلا فالمرأة والرجل سواء، لكن المرأة لا يخرج منيها بدفق، وإلا فإن اللذة حاصلة للرجل والمرأة، وأما الدفق فإنما هو خاص بالرجل.
إذاً هذان الشرطان لوجوب الغسل من خروج المني حال اليقظة، فلو خرج من غير شهوة، أو من غير تدفق في وقت اليقظة فإننا لا نعول عليه ولا يجب فيه الغسل، وعلى هذا فلو أنه اغتسل من الجنابة، ثم بعد اغتساله أو أثناء اغتساله خرج منه ماء الرجل، فهذا الخروج لا يوجب غسلاً؛ لأمرين:
أولاً: لأن الجنابة لا توجب غسلين.
الثاني: ولأن خروجه هنا لم يكن بدفق.
وعلى هذا فلا يجب فيه الاغتسال، ولكننا نقول: يجب فيه الوضوء والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الشيخ: وهنا مسألة: لو أنه أحس بانتقال المني من صلبه دون خروج فهل يوجب غسلاً؟
يعني: بعض الناس ربما يحس بانتقال المني ولكنه يمسكه فلا يخرج، فهل يجب عليه الغسل أم لا؟
الجواب: اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: ذهب الحنابلة رحمهم الله إلى أنه يجب عليه أن يغتسل، قالوا: لأن الجنابة اسم لما يبتعد فيه الماء من صلبه إلى خارج الصلب، قالوا: وقد حصل انتقال، وانتقاله أشبه الخروج، وما قارب الشيء يأخذ حكمه، فهو قارب خروجه فأخذ حكمه، وهذا مذهب الحنابلة.
القول الثاني: ذهب جماهير أهل العلم إلى أن العبرة إنما هو بالخروج الظاهر، ولا عبرة بالانتقال، وتسمية اللغة العربية شيء، وتسمية الحقيقة اللغوية الشرعية شيء آخر، فإذا وافقت الحقيقة اللغوية الحقيقة الشرعية أخذنا بها، وأما إذا خالفت الحقيقة اللغوية الحقيقة الشرعية فالمعول على الحقيقة الشرعية، قالوا: والحقيقة الشرعية هي قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى مسلم في صحيحه بلفظ-: ( إنما الماء من الماء )، وفي الصحيحين: ( إذا قحطت أو أعجلت فعليك الوضوء )، ورواية: (إنما الماء من الماء) تفرد بها مسلم في صحيحه.
وعلى هذا فنقول: إن من أحس بانتقال المني في صلبه دون خروج فإنه لا يجب عليه الغسل؛ لأن العبرة بخروج المني؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الماء من الماء ) يعني: إنما ماء الغسل من ماء الجنابة، وهو مني الرجل، والله تبارك وتعالى أعلم.
لكن ومع ترجيحنا أن من أحس بانتقاله لا يجب عليه الغسل، لكنه لو خرج بعد ذلك ولو لم يكن بدفق، فإنه يجب عليه أن يغتسل؛ لأنه قد خرج ولكنه حبسه فصار باقياً في الذكر، ولهذا قال العلماء: فإن خرج بعد أن أحس بانتقاله مع وجود هذه اللذة فالغالب وجود الدفق لكنه حبسه، وهذا أظهر، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
هذا القسم الأول: خروج المني حال اليقظة.
الشيخ: القسم الثاني: خروج المني حال النوم.
فلو خرج ماء الرجل أو ماء المرأة حال النوم فإنه يجب فيه الاغتسال، وهذا أمر مجمع عليه عند أهل العلم، واستدل العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ( إنما الماء من الماء )، فهو عام سواء حال اليقظة: أو حال النوم.
وقد ذهب ابن عباس إلى أن حديث: ( إنما الماء من الماء ) خاص بحال الاحتلام، والصحيح أن الحديث يتكلم عن حال اليقظة من غير إتيان الرجل أهله، وعن حال النوم، وأما إذا أتى الرجل أهله ولم ينزل فإنه يجب عليه الاغتسال لحديث آخر.
وعلى هذا فإذا استيقظ الرجل من النوم فوجد بللاً يعرف أنه ماؤه، أو تعرف المرأة أن هذا هو ماؤها الذي يأتيها وقت اشتداد الشهوة فإننا نقول: يجب الغسل في هذه الحال، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( جاءت
الجواب: لا يجب عليه اغتسال قولاً واحداً، بل حكى بعضهم الإجماع، وإن كان في المسألة خلاف، كما هو قول لبعض فقهاء الشافعية والحنابلة، والصحيح أنه إذا رأى في المنام أنه يأتي أهله، ثم استيقظ فلم يجد بللاً فلا يجب عليه الغسل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( نعم، إذا هي رأت الماء )، ومفهومه: أنها إذا لم تر الماء فلا يجب عليها الغسل.
وفي الحديث أن عائشة قالت: ( فضحت النساء يا
وعلى هذا يجب أن تعلم النساء أن هذا أمر مختلف بحال النساء، ولهذا ( قالت
إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فإننا نقول: إننا أجمعنا على أن الإنسان إذا استيقظ من النوم فوجد بللاً، وعرف أنه مني فيجب عليه أن يغتسل، سواء رأى في النوم أنه يأتي أهله أو لم ير، فهذه الحال الأولى.
الحال الثانية: إذا رأى أنه أتى أهله ثم استيقظ من النوم ولم يجد شيئاً، فالراجح وهو قول عامة أهل العلم، وقد حكي إجماعاً على أنه لا يجب عليه أن يغتسل.
الحال الثالثة: إذا قام من النوم فوجد بللاً ولا يعرف حاله، أي: لا يدري هل هو مذي أو هو مني، فنقول والله أعلم: إن كان قد تذكر في المنام أنه أتى أهله فالغالب أنه مني، وإن لم يتذكر شيئاً فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه لا يجب عليه أن يغتسل إذا لم يتيقن أنه مني؛ لأن الأصل هو براءة الذمة، قالوا: فلا يجب عليه الغسل؛ لأن الغسل لا يثبت إلا بيقين، ولا يقين هنا.
والقول الثاني في المسألة: مذهب أبي حنيفة و مالك ورواية عند الإمام أحمد قالوا: يجب عليه أن يغتسل؛ لأن الصلاة تجب بالطهارة، والطهارة لا تثبت إلا بيقين -انظر الفقه! هؤلاء أتوا بيقين وهؤلاء أتوا بيقين- ولا يقين هنا، فنبقى على أنه يجب عليه أن يغتسل.
ولو أردنا جمع الأقوال في هذا فنقول: إنه إذا وجد ماءً ولم يتذكر احتلاماً فلا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يذكر أنه قبل أن ينام كان يتفكر أنه يأتي أهله، أي: حصل منه شيء من رغبة في الجماع، فحينئذ نقول: إن هذا يعد مذياً، فيغسل ما أصاب الثوب ويتوضأ ولا يجب أن يغتسل.
الحال الثانية: إذا لم يتذكر أنه كان يتفكر قبل أن ينام ثم وجد بللاً فالأحوط والله أعلم أن يغتسل كما هو مذهب أبي حنيفة و مالك ورواية عن الإمام أحمد ، فإن لم يغتسل فالأصل أنه لا يجب عليه؛ لأن الإنسان لا يلزمه إلا ما أوجب الشارع عليه، وهذا لا يعرف ما هو، فالأصل أن ما خرج منه ليس بمني؛ لأن المني خروج عن الأصل، والأصل هو الطهارة، هذه هي القاعدة في هذا، ولكن الأحوط وهو قول ابن المنذر: أنه يغتسل، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الشيخ: الموجب الثاني من موجبات الغسل: تغييب الحشفة: ويعبرون عنه من باب الأدب بالتقاء الختانين، وهذا إنما هو على سبيل المجاز، وليس على سبيل الظاهر، كما سوف يأتي بيانه.
وتغييب الحشفة هو أنه إذا أتى الرجل أهله فإنه يغيب حشفة الذكر، فإذا غابت فإنه يجب عليه أن يغتسل.
ومما يدل على أن العبرة بتغييب الحشفة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل )، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وفي سنده بعض الكلام، لكنه جاء على سبيل التفسير، والله أعلم.
وعلى هذا فالعبرة بتغييب الحشفة، والحشفة هي رأس ذكر الإنسان، أو قدرها لمن كان قد جب ذكره، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فلو أن ذكره مس قبل المرأة من غير إيلاج فإنه لا يجب عليه الغسل، وهذا -كما قلت- هو قول عامة أهل العلم، بل حكى بعضهم الإجماع على ذلك، ويستدل العلماء على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها، فقد وجب الغسل وإن لم ينزل )، وهذا الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة، واللفظ لفظ مسلم، فزيادة (وإن لم ينزل)، رواها مسلم .
وحديث عائشة في الصحيحين: ( إذا التقى الختانان، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل )، وهذا معناه ليس على ظاهره، ولكن المقصود به أن يغيب الحشفة في قبل المرأة، والله تبارك وتعالى أعلم.
وقولنا: (تغييب الحشفة) يعني: وإن لم ينزل، وأنا أقول هذا الكلام أيها الإخوة! كما قالت أم سليم : ( إن الله لا يستحيي من الحق )، فكثير من الإخوة والأخوات في رمضان يأتوني ويسألون -وقد يكون بعضهم قد تخرج من قسم الدراسات الإسلامية- يقول: ما كنت أظن أن الإنسان وقت رمضان إذا أتى أهله إذا لم ينزل أن عليه كفارة؟! فلابد من تبيين هذا الأمر.
فتغييب الحشفة يوجب الغسل، ويوجب الفطر لمن كان في نهار رمضان، وعلى هذا فيجب على الإخوة والأخوات أن يتفقهوا في دينهم، وألا يأخذهم الخجل لا أقول: الحياء، بل الخجل؛ لأن الحياء تغير وانكسار يعتري المسلم يحمله على ترك فعل القبيح، وأما بأن يترك المشروع فهذا يسمى خجلاً ولا يسمى حياءً، والله تبارك وتعالى أعلم.
إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فإننا نقول: إنه كان في أول الإسلام إذا غيب الإنسان الحشفة في قبل امرأته فإنه لا يجب عليه الغسل حتى ينزل، ولكن هذا نسخ، وبقي حديث: ( إنما الماء من الماء ) ومما يدل على ذلك هو ما جاء عند الإمام أحمد و أبي داود من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: ( إن الفتيا الذين كانوا يفتون بأن الماء من الماء فهي رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد ).
فهذا القول هو قول عامة أهل العلم، وقد وجد خلاف عند الصحابة، ولكن استقر الأمر بعد ذلك على أن الإنسان إذا أتى أهله فإنه يجب عليه أن يغتسل وإن لم ينزل، فإذا قرأ الإخوة والأخوات بعض الأحاديث التي تخالف هذا فليعلموا أنها في أول الإسلام، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على باب
وكذلك في حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما يكفيك أن تغسل ما أصابك من أذى وتتوضأ )، وهذا في أول الإسلام.
ومما يدل على هذا أنه قد جاء في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: ( اختلف في ذلك المهاجرون والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل ).
انظر الأدب! هؤلاء يتحدثون عن مسائل فيكنون، ونحن حينما نصرح ببعض هذا فإنما ذلك لأجل التعليم، لكن إذا كان أحدكم يعلم فإن الإنسان يكني، وهذا من الأدب النبوي، أما مع أهله فهذا شأن آخر، لكن مع الآخرين ينبغي أن يكني، ولهذا جاء أن (الله سبحانه وتعالى حيي كريم)، فإذا أراد أن يذكر إتيان المرأة قال: (أو لمستم النساء)، وفي قراءة: أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ [النساء:43]، وهذا كله من باب الأدب.
وانظر إلى الصحابة حينما قال المهاجرون: ( بل إذا خالط فقد وجب الغسل )، إنما هو من باب الأدب منهم رضي الله عنهم أجمعين.
ففي الحديث: ( فقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، فقال
فهذه إجابة من عائشة رضي الله عنها بدليل من نبينا صلى الله عليه وسلم، فشفاهم أبو موسى حينما ذهب، وعلم المهاجرون والأنصار أنه يجب الغسل من مخالطة الرجل أهله، يعني: بإتيان الرجل أهله، ولكن إذا لم يخالط فلا يجب إلا حال الإنزال، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الشيخ: الموجب الثالث والرابع من موجبات الغسل: خروج الحيض والنفاس، أي: خروج دم الحيض وخروج دم النفاس.
وقد أجمع أهل العلم على أن خروج الحيض وخروج النفاس موجب من موجبات الغسل، وذلك بعد انقطاعه، وقد قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، ومعنى (يطهرن) يعني: ينقطع منهن الدم، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222] يعني: اغتسلن، فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ [البقرة:222]. فدل ذلك على وجوب الاغتسال من الحيض.
ومما يدل على ذلك أنه جاء في الصحيحين من حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وهي حائض في وقت الحج: ( افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وهذا الحديث متفق عليه، وفي رواية لـمسلم : ( حتى تغتسلي ).
وفي الصحيحين من حديث عائشة : ( أن
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
فقه العبادات - الطهارة [4] | 2584 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [17] | 2562 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [5] | 2440 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [15] | 2390 استماع |
فقه العبادات - الصلاة [9] | 2349 استماع |
فقه العبادات - الصلاة [11] | 2239 استماع |
فقه العبادات - الصلاة [16] | 2237 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [7] | 2186 استماع |
فقه العبادات - الصلاة [14] | 2113 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [14] | 2093 استماع |