عمدة الفقه - كتاب الجهاد [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو نضل، أو نزل أو نزل، أو أن نظلم أو نظلم، أو أن نجهل أو يجهل علينا، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كتاب الجهاد.

وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين. ويتعين على من حضر الصف أو حصر العدو بلده. ولا يجب إلا على ذكر حر بالغ عاقل مستطيع.

والجهاد أفضل التطوع لقول أبي هريرة رضي الله عنه: ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله، قال: ثم أي قال: الجهاد في سبيل الله ثم حج مبرور )، وعن أبي سعيد قال: ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه ). وغزو البحر أفضل من غزو البر، ويغزى مع كل بر وفاجر، ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو، وتمام الرباط أربعون يوماً، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه )، وقال: ( رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً أجري له أجره إلى يوم القيامة ووقي الفُتان ) ولا يجاهد من أحد أبويه حي مسلم إلا بإذنه إلا أن يتعين عليه، ولا يدخل من النساء أرض الحرب إلا امرأةً طاعنةً في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى، ولا يُستعان بمشرك إلا عند الحاجة إليه].

حكم الجهاد

بسم الله الرحمن الرحيم.

قول المؤلف رحمه الله: (كتاب الجهاد)، الجهاد باب قد غفل عنه خلق كثير؛ والسبب في ذلك أنه لا يكاد يوجد جهاد لإعلاء كلمة الله إلا في أصقاع بعيدة عن بلاد العرب، فهو يوجد في فلسطين أو الشيشان أو العراق أو أفغانستان ممن أوذي أهلها ودخل المحتل بلادهم ووجب على أهل البلد مقاومة العدو كما هو معلوم عند أهل الإسلام.

قول المؤلف: (وهو فرض كفاية)، هذا هو قول عامة أهل العلم، أن الجهاد في الأصل هو فرض كفاية، وقال بعضهم: هو فرض عين وهذا أظنه ضعيفاً؛ لأن المسلم لو تأمل ذلك لعلم ضعفه؛ وذلك لأن معناه: أن يلزم كل الناس أن يجاهدوا، ومن المعلوم أن أمة الإسلام بحاجة إلى ولايات أخرى غير الجهاد، فالتطبيب والصناعات والتجارات التي يتقوى بها أهل الإسلام وهكذا التعليم وتربية النشء كل ذلك من فروض الكفايات؛ فلو لم يهتم بها الأمم والشعوب لهلكت الأمة، فسواعد الجد هم الشباب فيجب تربيتهم وتعليمهم وتطبيبهم وذلك لا يتأتى إذا قلنا إن الجهاد فرض عين؛ لأنه إن كان كذلك فمن لتعليم الناس العلم الشرعي، ومن لمداواة المرضى، ومن للصناعات الحربية والتجارات التي نعلم علماً يقينياً أن القوة الآن إنما تكون فيها خاصة الاقتصاد.

ومعنى فرض كفاية: إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، والكفاية نوعان: كفاية بدن، وكفاية مال، وأرى -والله أعلم- في هذا الزمان أن الكفاية في البدن حاصلة لكن الإشكال في كفاية المال، مثاله: لو أن الكفار دخلوا بلاد المسلمين أو بلداً من بلاد المسلمين واحتلوه في الجملة، دخلوا على الحكم وعلى القضاء وعلى الجيش واستولوا على ذلك كله، فهنا يجب مقاومتهم؛ لأنه لا يجوز أن يتولى الكفار بلاد المسلمين، ولكن المقاومة هنا لا يسوغ أن تكون مقاومة المسلمين للكفار الذين يغلبونهم في العتاد مواجهة بحيث يكونوا صفين؛ لأنه حينئذٍ ستكون حروب عصابات؛ وحروب العصابات لا يسوغ كثرة العدد فيها؛ لأن كثرة العدد تكشف أسرار المسلم، وعلى هذا فتكون القوة هنا بالمال.

وبهذا تعرف خطأ كثير من الشباب -هداهم الله- خاصة الصغار حينما يريد أحدهم أن يذهب للجهاد في بعض البلاد يريد أن يسوغ لنفسه ذلك يقول: الجهاد فرض عين، قاله: فلان وقاله فلان، ولو تأمله لعلم أن الذهاب في بعض الأحيان إلى بعض البلاد ضرر على المسلمين الذين هناك؛ لأنه أحياناً يأتي وليس عنده تدريب وليس عنده خبرة فيكشف أحياناً أسرار بعض المسلمين هناك ويحدث فجوة، ولا يكون قد سد الثغرة، وهذه تحتاج دراستها إلى تأنٍ وتروٍ وبعد عن الهوى؛ لأن بعض الناس أحياناً لا يستطيع أن يتحمل أوضاع أمته أو بلده بحجة أنها منكرات ولا يستطيع أن يصبر، فيقول: أريد أن أذهب إلى البلد الفلاني حتى أقتل وأكون شهيداً.

أنا أقول: ينبغي أن يبحث الإنسان عن نيته؛ لأن هذا قد يكون أحياناً نوعاً من التسخط على المجتمع، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( كم من قتيل بين صفين الله أعلم بنيته )، فمن كانت نيته كذلك فهو على خطأ كبير جداً جداً، ينبغي أن يُناقش ويتأمل فيه، وأحياناً بعضهم يذهب أن ليعمل عملية كما يقولون.. استشهادية، فهو يريد أن يموت بغض النظر هل في موته مصلحة للأمة أو لا، وهل أذن فيها قائد المسلمين أو قائد الجيش أو لا، وهل.. وهل..، كلها أمور تحتاج حين معالجتها إلى تروٍ وتبصر، وأحياناً يكون بعض الشباب لم يجد من يستطيع أن يناقشه وأن يُبين له بعض هذه المسائل، فهو مجرد ذكر لبعض الإشكالات ربما يواجه بانتقاد حاد فتنبت فيه هذه الفكرة ثم تنبت ثم تنبت فلا يستطيع مقاومتها، وأنا أقول: إنه لا يسوغ أن يقال: فرض عين إلا في حالات كما ذكرها المؤلف هنا.

وعلى هذا نقول: إن الجهاد فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، نعم قد نقول: إن جهاد الأعداء فرض عين، ولكن ليس المراد بالجهاد مقارعة الأعداء بالسيف والسلاح فقط، بل من الجهاد إعداد العدة والدعوة والحجة وغير ذلك من الأشياء التي ربما لا يحسب الناس حسابها في القوة، أين من يقيم الحجة على الكفار، ويُبين دين الإسلام كما أنزل محمد صلى الله عليه وسلم؟ أين من يزيل عن الناس الشُبه التي نسمعها تترى في وسائل الإعلام كتلك التي تتهم المسلمين أو الإسلام بأنه سفاك دماء؟ هل أقيمت الحجة؟ لم نسمع إقامة حجة واضحة جلية عامة، نعم سمعناها هنا أو هناك لكننا مازلنا بحاجة إلى مثل ذلك، ولكنك أحياناً تسمع أن الجهاد فقط في مقارعة الأعداء بالسلاح، وأرى أن من الجهاد تعليم الخلق، ولهذا تجد بعض الكتابات أحياناً يستثيرون همم بعض الناس على سبيل الخطأ، يقول أحدهم: أمة الإسلام تُقصف وهم يعلمون الناس أبواب الحيض وأبواب الطهارة، عجباً! وهل أبواب الحيض وأبواب الطهارة ليست من الدين، أو ليست علماً؟! هل المرأة إذا ذهبت تسأل نقول لها: إذا كنتِ حائضاً صل أو لا تصل لا شأن لنا بكِ حتى تقارعي الأعداء، مثل هذه المسائل لماذا نجعلها أُحادية الجانب؟ قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ).

وهذه المسائل بحاجة إلى تروٍ وصدق مع الله سبحانه وتعالى، نعم يوجد كثير من الناس يقاوم هذا الانحراف، أعني انحراف الإيغال في مسألة الجهاد وأنه فرض عين وغير ذلك، لكن بانحراف آخر ومبالغة في ذلك حتى ربما يتهم بعض البلاد التي فيها جهاد حقيقي كفلسطين أو الشيشان أو أفغانستان بأن ينفي الجهاد فيها مطلقاً، وكلا الطرفين ذميم، ولكن لا يعني وجوب الجهاد في فلسطين أنه يجب على الأمة الإسلامية كلها أن تجاهد جهاد مقارعة مثلما يجاهد الفلسطينيون، ولكن من الجهاد دعمهم اجتماعياً ومالياً واقتصادياً وسياسياً، كل هذه القضايا لماذا لا تُناقش؟ لماذا تكون المناقشة فقط في قضية واحدة، ربما لو قيل بها لا تتم أصلاً، ولهذا ينبغي عدم تضييق مفهوم الجهاد عن المفهوم الشرعي، يقول تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] ، ( اذهب إلى والديك ففيهما فجاهد )، هذه مصطلحات شرعية من محمد صلى الله عليه وسلم.

ودليل فرض الوجوب قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً [النساء:95] ، وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين، والقاعدون هنا ليسوا هم القاعدين وقت إلتحام الصفين.

وقت تعين فرضية الجهاد

قول المؤلف رحمه الله: (ويتعين)، يعني: يكون الجهاد فرض عين، (على من حضر الصف) يعني: شخص حضر الصف بين المسلمين وبين الكفار فيجب عليه أن يُقاتل؛ لأن رجوعه إخذال للمسلمين وإضعاف لقوتهم، ولو علم الأعداء لاستغلوا ذلك إعلامياً وقالوا: إن كثيراً من المسلمين هربوا فتصبح ثغور الإسلام منفتحة للأعداء، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في بعض المسائل: ( الفرار من الزحف )، فالفرار من الزحف محرم ولا يجوز، وهو كبيرة من كبائر الذنوب.

قول المؤلف رحمه الله: (أو حصر العدو بلده)، قوله: بلده، كان ذلك حينما كان المسلمون كلهم شرقاً وغرباً تحت إمرة إمام واحد، قال العلماء: بلده، البلد الفلاني لا يلزمه، لكن يجب عليه أن يُمده بالعون بالتأييد، فإن كان البلد الأول لا يكفي يجب على الذي بجانبه؛ لأن الضرر عليه قبل البلد الأبعد فيجب عليه أن يقاوم معه، والمقاومة -كما قلنا- لا يلزم أن تكون بالبدن، بل ربما تكون أحياناً بالمال أعظم من البدن؛ لأن المقصود من الجهاد كسر شوكة العدو وإزالة شره من بلد المسلمين، وهذا إن تأتى في أي جهة وجبت، ومن المعلوم -كما قلنا- أن المال هو عصب الحياة والحرب الآن ليست كما كانت بالمبارزة، بل إن الأمر اختلف.

شروط وجوب الجهاد

قول المؤلف رحمه الله: (ولا يجب إلا على ذكر حر بالغ عاقل مستطيع).

يجب الجهاد عندما يكون فرض كفاية يكون على من تتوفر فيهم خمسة شروط، هي:

الشرط الأول: أن يكون ذكراً؛ لأن النساء ليس عليهن جهاد، قالت عائشة رضي الله عنها كما رواه ابن ماجه : ( يا رسول الله! نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لكن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة )، وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: ( حينما رأى امرأة مقتولة بين الصفين قال: ما كانت هذه تقاتل )، وقال كما في الصحيحين من حديث أنس : ( أن أم سليم حملت خنجراً، فقال أبو طلحة : يا رسول الله! انظر إلى أم سليم ! قال: ما معك يا أم سليم ؟ قال: خنجر، إذا دنا مني أحد من العدو بقرت به بطنه، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا أم سليم إن الله قد كفى وأغنى )، يعني: لسنا بحاجة النساء.

الشرط الثاني: الحرية، فلا يجب الجهاد على العبد لما روى النسائي في الكبرى من حديث جابر بسند جيد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد )، أما إذا حصر العدو بلده فيجب على المسلمين أن يقاتلوا أحراراً كانوا أم عبيدا.

الشرط الثالث: البلوغ، فلا يجب على الصبي؛ لأن الصبي ضعيف البنية، وقد قال ابن عمر كما في الحديث المتفق عليه: ( عُرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يُجزني )، وفي رواية قال: ( فلم يُجزني في المقاتلة، وعُرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني )، وقال عمر بن عبد العزيز : يصلح أن يكون هذا، وأرى والله أعلم أنه لا ينبغي أن نقول: البلوغ هنا؛ لأن الإنسان يبلغ أحياناً وعمره إحدى عشرة سنة وهو لا يستطيع أن يقاوم، ولكن لو قلنا بأن الشرط الثالث يصلح لمثله مقارعة العدو، فهذا أولى، ويصلح لمثله مقارعة العدو إنما يتأتى بابن خمس عشرة، ست عشرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز بعض الصحابة في القتال وهو صغير. فأجازهم وهم أبناء خمسة عشر وستة عشر، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على أحدهم وسيفه يخط في الأرض عمير بن أوس ، وكان هو ابن أربع عشرة سنة، لكنه قوي البنية.

الشرط الرابع: العقل، فلا يجب على مجنون؛ لأنه ربما يقصد نفع المسلمين فيضرهم.

رام نفعاً فأضر من غير قصد فمن البر ما يكون عقوقا

الشرط الخامس: أن يكون مستطيعاً؛ والاستطاعة هنا أن يكون صحيح البدن، قادراً على النفقة إن لم يكن بيت المال يعطيه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا كعب ! ) -يعني: كعب بن مالك الذي تخلف- قال له حينما جاءه: ( يا كعب ! ما منعك أن تخرج معنا أوليس عندك ناضح، أو قال: ناقة، قال: يا رسول الله! ما أنا اليوم بأكثر حاجة مني قبل ذلك، فوالله ما تركت ذلك إلا تهاوناً وكسلاً، قال: أما هذا فصدق )، أو كلمة نحو ذلك؛ ولهذا قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:91]، وقال: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التوبة:92]، يعني: هؤلاء ليس عليهم سبيل، وليس عليهم حرج.

المفاضلة بين الجهاد وغيره من الطاعات

قول المؤلف رحمه الله: (هذه خمسة شروط، والجهاد أفضل التطوع).

اختلف العلماء ما هو أفضل التطوع؟

فذهب بعضهم إلى أن أفضل التطوع الجهاد، استدلالاً بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور )، والحديث أخرجه البخاري ، وجاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي الناس أفضل؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه ).

وذهب بعض أهل العلم إلى أن أفضل التطوعات الصلاة، قال عليه الصلاة والسلام: ( عليك بالصلاة فإن الصلاة خير موضوع )، ومعنى موضوع أي خير ما وضع في الأرض.

والأقرب والله أعلم أن يقال: إن التطوعات بحسب أحوال العباد وبحسب أشخاصهم وبحسب الأوقات، فبعض الأوقات يكون الجهاد فيها أعظم، وبعض الأوقات تكون العبادة فيها أعظم، وبعض الأشخاص يكون العلم في حقه أعظم، وبعضهم يكون الجهاد في حقه أعظم، فنقول: الراجح أن ذلك يختلف على حسب الأحوال والأشخاص والأزمنة، ومما يدل على ذلك أمور:

الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً كان يسأل: أي الأعمال أفضل؟ فيقول: الجهاد، ويسأل أحياناً أي الأعمال أفضل؟ فيقول: الصلاة في أول وقتها، وغير ذلك، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أجاب السائل بما يصلح له.

الأمر الثاني: قولنا بأن الجهاد لا يلزم أن يكون أفضل في كل حالة يدل عليه ما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من أيام العمل فيهن خير وأحب إلى الله من هذه العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء )، وقوله: ( خرج بنفسه وماله )؛ لأنه جمع بين عبادة متعدية وعبادة لازمة، المتعدية هي المال واللازمة هي البدن.

الأمر الثالث: قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل ) وهذا في وقت الجهاد الذي يحتاجه المسلمون.

الأمر الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لرجل حينما قال له: ( يا رسول الله! جئتك لأجاهد معك وقد تركت أبوي يبكيان، قال: اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما )، وقال: ( ففيهما فجاهد )، فترك الجهاد وقد يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الجهاد؛ لأن الجهاد معارض بواجب وهو بر الوالدين، والجهاد في حقه تطوع، لكن الأقرب كما قلنا، والعلم عند الله.

حكم الذهاب إلى بلد فيه جهاد

أما مسألة الذهاب إلى بلد فيه جهاد فإنها تحتاج إلى مدارسة مع البلد المحتل أي في تكييف بعض القضايا، فلا يستطيع الإنسان وهو بعيد كل البعد فإنها ثم يتحدث عن تلك القضايا إلا إذا قصد أن يكون له قول في هذه المسألة، لكن أنا أقول دائماً: مثل هذه القضايا لا يسوغ لواحد أن يتبناها، قضايا الأمة منوطة بالأمة، عمر بن الخطاب جاءت إليه قضية هي أقل من هذه فيجمع لها أهل بدر، فمجرد دخول عمر بلداً فيها طاعون أو عدم دخوله، قضية لا تتصور أنها كبيرة الشأن، ومع ذلك يجمع لها أهل بدر فيعطونه الرأي، فيقول: اخرجوا، ثم يدخل بعد ذلك المهاجرون فيعطونه رأياً، فيقول: اخرجوا، ثم يدخل بعد ذلك الأنصار فيقول: اخرجوا، ثم يدخل بعد ذلك مشيخة قريش الكبار فيقول: اخرجوا، ثم يتخذ رأيه رضي الله عنه، وقضايا أحياناً بسيطة جداً جداً وقد لا يُبالي الإنسان أن يتخذها، سواء كان من طلاب العلم أو من صغار محبي الجهاد.

فالقضايا هذه قضايا كبيرة جداً، لا يمكن لأحد أن يتبناها برأي واحد يسمونه رأي فقير، وأبتسم حينما أرى بعض الإخوة يسألون: ما رأيكم في مسألة مس الذكر؟ فيقول: والله يا أخي ما لنا فيها علم، اسألوا المشايخ، ما هو رأيكم؟ من سمع الشيخ الفلاني يقول في كذا، فتجدهم يتورعون في مثل هذا، ثم يسأل: ما حكم زكاة الحلي؟ فيقول: والله يا أخي ما ندري، ينبغي أن نتأنى فيها، فإذا سئلوا في مسائل كبيرة مثل مسألة هل يجب نصرة هؤلاء أو لا؟ وهل يأثم القاعدون؟ تجد أن هذا الذي كان يتورع عن مثل تلك المسائل يقول: هم آثمون وإن أفتاك الناس وأفتوك، فلماذا هذه المسألة أقل ورعاً من تلك المسألة؟! دائماً قضايا الأشخاص -القضايا المتعلقة بالشخص- أقل من القضايا المتعلقة بالأمة، قضايا الأمة أعظم.

أذكر لكم أبسط مسألة في قضايا المعاملات المالية، أحياناً بعض من لا يكون عنده إلمام ببعض القضايا تجده يفتي ببعض المسائل والله إنك لتتعجب كيف هذه الفتوى! وكيف صدرت هذه الفتوى من طالب علم؟ لأنه ليس عنده تصور واضح لمثل هذه المسائل، كذلك يقال في قضايا الأمة المصيرية لا ينبغي للإنسان أن يُفتي مهما بلغ من العلم ويقول: هذا الذي أداه اجتهادي، أو هذا الذي أدين الله به.

شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله كان إذا سئل في مثل هذه القضايا أو قضايا فيها إشكال يقول: نناقش فيها، اكتب لنا جزاك الله خيراً، وتذكرون القضية التي حصلت في مسألة الإيمان هل الأعمال جزء من أركان الإيمان أو شرط أو غير ذلك؟ مثلما حصل قديماً، كان الشيخ في درس المغرب الأحد، فجاء أحد فسأله، فأجابه الشيخ عبد العزيز على مذهب أهل السنة والجماعة وقال: إن الإيمان قول وعمل وأنه جزء من أركان الإيمان، قال: يا شيخ! الآن بعض العلماء يقول: كذا، وهو يقصد لو كتبت يا شيخ جزاك الله خيراً في هذا الأمر، الشيخ ما قال كتبنا أو ما كتبنا، قال: ننظر في الأمر، اكتب لنا جزاك الله خيراً نتدارسه نحن والمشايخ، ما معنى نتدارس؟ لماذا؟ لأنه كان رحمه الله يعي مثل هذه القضايا، ولهذا عندما فقد الناس المرجعية في مثل هذه القضايا حصلت البلبلة وحصل الهرج وغير ذلك، وقد حصلت أمور عظيمة في وقته رحمه الله واستطاع بحنكته وعلمه الثاقب رضي الله عنه ورحمه أن يتصدى لمثل هذه القضايا ويتئد فيها فنفع الله به خلقاً عظيماً.

المفاضلة بين غزو البحر وغزو البر

قول المؤلف رحمه الله: (وغزو البحر أفضل من غزو البر)، غزو البحر فيه من المشقة ما ليست في البر؛ ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه دخل على أم حرام فنام عندها ثم قام وهو يضحك، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: أناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر )، ومعنى (ثبج) وسطه ومعظمه، ( يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، قالت: ادعو الله أن أكون معهم؟ قال: أنتِ معهم، قالت: ثم نام، ثم قام، فقال: أناس من أمتي يركبون ثبج هذا البحر ملوك على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، قالت: ادعو الله أن أكون منهم؟ قال: أنتِ من الأولين، وفي عهد معاوية رضي الله عنه دخلت أم حرام فنزلت سفينة فوقعت فماتت )، فهذا يدل على أن المجاهد يكون مجاهداً ولو لم يمت في المعركة، لكن عدم تغسيله وغيره إنما يكون لشهيد المعركة في التحام الصفين ولو جُرح ثم خُرج به إلى المستشفى ومات فإنه يُصلى عليه ويُغسل.

ومن الأدلة على ذلك أيضاً ما رواه أبو داود عن أم حرام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، والفرق له أجر شهيدين )، وهذا الحديث جيد، وأكثر الأحاديث في هذا الباب ضعيفة.

ونكتفي بهذا، وصلى الله على نبينا محمد.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
عمدة الفقه - كتاب الحج [3] 2652 استماع
عمدة الفقه - كتاب البيع [1] 2536 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [1] 2451 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [17] 2398 استماع
عمدة الفقه - كتاب النكاح [4] 2317 استماع
عمدة الفقه - كتاب النكاح [16] 2171 استماع
عمدة الفقه - كتاب النكاح [5] 2168 استماع
عمدة الفقه - كتاب البيع [4] 2130 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [2] 2112 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [21] 2109 استماع