بلوغ المرام - كتاب الطهارة [19]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

وبعد:

فهذه الأحاديث مليئة بعلل الأحاديث، وطريقة تداولها وتناولها عند الأئمة، والمسائل الفقهية فيها قليلة جداً، ولا ضير في ذلك فإن القصد من شرح بلوغ المرام أمران: دراية حديثية، ودراية فقهية أصولية.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه بلوغ المرام: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( استنزهوا من البول, فإن عامة عذاب القبر منه ) رواه الدارقطني.

وللحاكم : ( أكثر عذاب القبر من البول ) وهو صحيح الإسناد ].

تخريج حديث: (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه) ودرجته

هذا الحديث بهذا الإسناد تكلم العلماء فيه، وذلك لأن الحديث يرويه الدارقطني من حديث محمد بن الصباح أو الصباح السمان ، قال: أنبأنا أزهر بن سعد السمان عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا الحديث يقول فيه الدارقطني بعدما ذكره: الصواب أنه مرسل؛ وذلك لأن محمد بن الصباح السمان لا يعرف حاله، وكذلك لا يعرف سماع له عن أزهر ، ولهذا قال الدارقطني : مرسل. والقاعدة في المرسل: هو الانقطاع، سواء كان الانقطاع بين التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان بين الراوي وشيخه، فإنهم يسمونه مرسلاً، كما هي طريقة الأئمة، كما كان أحمد و أبو حاتم وغيرهم يقولون ذلك.

وهذه فائدة لطالب العلم: أنه لا ينبغي له أن يحاكم الناس بمصطلح لم يتعودوا عليه، أو أن يحاكم الناس بمصطلح مفهوم عندهم، مثل: كلمة مرسل، فإن الإرسال عند المتقدمين يختلف عن الإرسال عند المتأخرين، وبالتالي فلا يسوغ للمتأخرين أن يحاكموا المتقدمين بمصطلحهم هم، وقل مثل ذلك في بعض المصطلحات العصرية في زماننا التي لها مدلول ومفهوم، فلا يسوغ لنا أن نأتي نحن بمصطلح ونقول: لا بأس به، وهذا المصطلح له مدلول ومفهوم عند غيرهم، كالديمقراطية: فالديمقراطية مصطلح معروف مفهوم عند الغرب، وهو أن الشعب هو الذي يقرر بموجب الاقتراحات والانتخابات وغير ذلك، والبرلمانات هي التي تقرر التجويز أو عدمه، وليست الديمقراطية هي الاقتراع والانتخابات، فإن هذا من آلياته، ولكن الديمقراطية أساسها أنه لا سلطان على الشعب في اتخاذ أحكامه.

وأما في الإسلام: فإن الديمقراطية تخالف الإسلام في مقصدها لا في آلياتها، فإن مقصد الديمقراطية: أن الشعب لو أراد شيئاً له أن يتخذه، وهذا لا يسوغ عندنا شرعاً، أما آليات الديمقراطية فإن الشارع لا يمنع من ذلك، مثل الانتخابات والاقتراعات وغير ذلك فهذا سائغ، وهذا سائغ، كما كان عبد الرحمن بن عوف حينما أراد أن يولي عثمان بن عفان أو علي بن أبي طالب فذهب إلى الناس جميعاً فرأى أن أكثرهم يختار عثمان ، وإن كان بعضهم يخالف في طريقة الاستدلال في هذا، لكن فرق بين آليات الشيء وبين مقصده، وبالتالي لا يسوغ أن تقول: الديمقراطية الإسلامية، كما كنا في السابق عندما انتشرت الاشتراكية حاول بعضهم أن يوجد لها أصلاً في الشرع، فقال: اشتراكية أبي ذر ، وهذا كله خطأ، وعلى هذا فالمصطلحات تفهم على طريقة أصحابها، وأما أن تقرر أنت مصطلحاً تتخذه لنفسك فهذا لا بأس، لكن لا تحاكم الناس على هذا المصطلح الذي تخترعه أنت.

وعلى هذا فإن أهل العلم رحمهم الله ذكروا أن الحديث ضعيف؛ وذلك لأن محمد بن الصباح مع جهالته وعدم معرفة حاله فإنه لم يرو عن أزهر إلا هو، وعلى هذا ضعف أهل العلم خبره، وحكموا بأن الخبر منكر.

تخريج حديث: (أكثر عذاب القبر من البول) ودرجته

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (وللحاكم : ( أكثر عذاب القبر من البول ) وهو صحيح الإسناد).

الحافظ رحمه الله كان دقيقاً بقوله: (صحيح الإسناد)؛ لأنه لم يتحدث عن علة الحديث؛ لأن الحديث ربما يكون إسناده صحيحاً وفيه علة.

والحديث أخرجه الإمام أحمد و ابن ماجه و الحاكم من طريق أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا الإسناد في الظاهر إسناده صحيح ولا إشكال، وعلى هذا حكم بعض أهل العلم على صحته، كما نقل الترمذي في العلل الكبير على البخاري أنه قال: صحيح، وكذلك صححه الدارقطني وخلق كثير، كما صححه البوصيري و الجوزقاني في الأباطيل قال: حديث حسن مشهور.

وبعضهم تكلم فيه من حيث الاختلاف على أبي عوانة ، وذلك لأن أحد الرواة الثقات وهو محمد بن فضيل رواه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة من قوله، والقاعدة في هذا: أنه إذا اختلف الراويان هذا يقول: مرفوع، وهذا يقول: موقوف، فقد يقدم المرفوع وقد يقدم الموقوف، وقد اختلفت الطرق في ذلك فطريقة المتأخرين أنهم يقدمون المرفوع أنه إذا تعارض مرفوع وموصول أو مرفوع وموقوف أو موصول ومرسل؛ لأن الراوي الذي رفعه أو الراوي الذي وصله عنده زيادة علم، والزيادة من الثقة مقبولة، هذا طريقة المتأخرين، وعلى هذا سار الحافظ ابن حجر في شرح النخبة بهذه الطريقة.

وبعضهم يأخذ طريقة أخرى فيقول: إذا تعارض المرفوع والموقوف فالمقدم الموقوف؛ لأنه ليس على الجادة، فأحياناً أنا أذكر لكم وأقول: حدثنا شيخنا عبد العزيز بن باز حدثنا محمد بن إبراهيم ، وأحياناً أحدث بطريق لإسناد غير هذا فأخطئ، والحديث لم يروه لي الشيخ عبد العزيز ، فيقول: أخطأ عبد الله ؛ لأنه روى الحديث على الجادة، والإنسان إذا ذكر الإسناد يرويه على الجادة، فيقولون: المرفوع على الجادة.

والصحيح في هذا هي طريقة المحققين من أهل الحديث: أننا لا نحكم على هذا بالرفع بالصواب، أو على هذا بالوقف على الصواب، ولكننا ننظر إلى من رفعه أو من أوقفه، فإن كان أحدهما أوثق عن الشيخ نفسه قبلنا خبره، فأوثق الناس في الأعمش هو: أبو معاوية الضرير الذي يسمى محمد بن خازم ، أبو معاوية الضرير إذا روى عن الأعمش يقبل خبره ما لو رواه عن غير الأعمش ، فلو اختلف الحديث مع أبي عوانة فننظر من هو شيخ أبي عوانة ، إن كان الأعمش قبلنا خبر أبي عوانة ؛ لأنه روايته عن الأعمش أوثق من رواية غيره، وإن كان غيره ربما يكون أوثق من أبي عوانة في نفسه، فهذه يسمونها قرائن، وهذه القرائن تختلف في أنظار أهل الحديث، فطريقة الأئمة أنهم ينظرون: فبعضهم يتقوى عنده هذه القرائن وبعضهم يتقوى عنده هذه القرائن، وإن كانوا جميعاً على الطريقة التي هو طريقة أهل الحديث، فـالبخاري رحمه الله حينما سأله الترمذي عن حديث أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة : ( أكثر عذاب القبر من البول ) قال: صحيح.

والبخاري حينما قال: صحيح هو يستحضر أن أبا عوانة خالفه محمد بن فضيل ، ولكنه رأى أن أبا عوانة روايته عن الأعمش في هذا صحيحة فقبلها؛ لقوة القرائن، في حين أن أبا حاتم رحمه الله حينما ذكر هذا الحديث في العلل قال: هذا حديث باطل، انظر كلمة (باطل)، فلماذا حكم بالبطلان؟ يقول: لأن الحديث بالرفع لا يصح، والصواب هو رواية محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، إذاً لماذا اختلفوا؟

الجواب: لأجل أن هذا رأى من القرائن قوة أبي عوانة فقبله، وهذا رأى قوة محمد بن فضيل فقبله.

والذي يظهر لي والله أعلم أن هذا -سواء قلنا بالمرفوع أو بالموقوف- لا يخالف طريقة أهل الحديث؛ لأنها مبنية على القرائن، ومما يقوي أن الحديث مرفوع صحيح: أنه جاء ما يعضده من الشواهد: منها حديث ابن عباس في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين، فقال: أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير، أما أحدهما: فكان لا يستنزه ) هذه رواية مسلم ، ورواية الصحيحين: ( لا يستتر من بوله ). وكذلك حديث ابن عباس كما سوف نأتي إليه، فهذا يدل على أن المرفوع له أصل، ومن قال: إن الأصل أننا لا نحكم بالرفع إلا بيقين، قال: إنه موقوف، وهي طريقة أبي حاتم وغيره.

على كل حال الذي يظهر والله أعلم أن أفضل الطرق هي طريقة البخاري ؛ لأن الأصل أنه ما دامت القرائن تقوي الرفع، وليس هناك ما يثبت، وأن أبا عوانة ثقة حجة، وهو أوثق من محمد بن فضيل فنقبل خبره، والله تبارك وتعالى أعلم.

والحديث له شواهد: منها حديث ابن عباس ، وهو الذي أشار إليه الحاكم حينما قال في حديث: ( أكثر عذاب القبر منه ) قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا أعلم له علة، وله شاهد من حديث أبي يحيى القتات ، وحديث أبي يحيى القتات هو حديث ابن عباس ، فإن أبا يحيى القتات رواه عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عامة عذاب القبر من البول فتنزهوا منه )، وهذا الحديث في سنده أبو يحيى القتات صحح حديثه الحاكم ، وقال الحافظ ابن حجر : إسناده حسن، وليس فيه غير أبي يحيى القتات وفيه لين.

وهذه فائدة: فليس كل حديث فيه رجل ضعيف لا تقبله، ولهذا يخطئ بعض الإخوة فيمسك تقريب التهذيب، ويمسك الإسناد فإذا قال: ضعيف. تركه، والصحيح أننا لا نحكم على الحديث بالضعف ولو كان في إسناده رجل ضعيف؛ فربما يكون ضعفه منجبراً، ولهذا تجد أن الأئمة ينتقون من أحاديث الضعيف ما علم أنه أصاب فيه، ويتركون من أحاديث الثقة ما علم أنه أخطأ فيه، يقول المزي رحمه الله: وطريقة أبي عبد الله البخاري و مسلم بن الحجاج هي طريقة أهل الحديث، فليست هي طريقة أبي محمد بن حزم الذي يترك حديث الثقة إذا علم أنه أخطأ، أو طريقة الحاكم أنه يقبل من حديث الضعيف إذا علم أنه أصاب، وأما طريقة أهل الحديث فإنهم ينتقون، والله أعلم.

وعلى هذا حسن الحافظ هذا الحديث، وبعضهم وكذلك الدارقطني قال: عن أبي يحيى لا بأس به، وبعضهم يتكلم في هذا الحديث ويقول: إن أبا يحيى القتات تفرد به عن مجاهد ، وأصحاب مجاهد كثر، فيبعد أن يأتي أبا يحيى الذي فيه لين فلا يقبله، وهذا لا بأس بقبول حديثه، وهو محل اجتهاد. لكني أردت من هذا أن بعض الشباب وبعض المشايخ العصريين في بحوثهم بمجرد أن الحديث فيه كلام يضعونه مباشرة، وهذه ليست طريقة أهل الحديث، فطريقة أهل الحديث أنهم ينتقون، وينظرون هل يعضده من شواهد، وهل الحديث أتى بما ينكر؟ هل.. وهل.. وهل ..؟ فهناك أشياء، أما أننا إذا جاء الحديث قلنا: قد تكلم أهل العلم في أبي يحيى القتات بأنه منكر الحديث، وكل حديث فيه اختلاف نقبل من ضعفه، فليست هذه الطريقة الصحيحة، ولهذا فإن الصحيح هي طريقة أهل الحديث مثل الإمام أحمد و البخاري .

يقولون: إن الحديث فيه كلام، لكن وجود الكلام في الحديث لا يعني بالضرورة أنه ضعيف، ولهذا الإمام الذهبي في رواية الليث بن سعد عن محمد بن مسلم بن تدرس المكي الذي يسمونه: أبو الزبير المكي ، يقول: ولـأبي الزبير أحاديث ليست هي عن طريق الليث بن سعد ففي القلب منها شيء، يعني: في القلب منها شيء ومع ذلك نصححها، ولهذا روى مسلم في صحيحه أحاديث كثر عن أبي الزبير المكي عن جابر من غير رواية الليث ، فكونه يقول: في القلب منها شيء ليس معناه أنها ضعيفة، ولهذا في القلب من أحاديث الحسن ما ليست من أحاديث الصحيح، ومع ذلك نقبل الأحاديث، ولهذا ينبغي أن يتوسط طالب العلم.

وربما تجد بعض الفضلاء هداهم الله حينما جاءت أحاديث الأذكار كأذكار الصباح والمساء، بدأوا يتركون أي حديث فيه كلام أو فيه لين فلم يصف من أحاديث الأذكار إلا أربعة، ولهذا بعضهم يقول: افرض أنا نجلس بعد المغرب كل يوم على أحاديث ضعيفة، فهم لم يفهموا ما المقصود بالأذكار، وما الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالأذكار مقصود شرعي أن يجلس الإنسان قبل غروب الشمس وقبل طلوع الشمس، ولهذا فمن أفضل أوقات الذكر، قال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]، وللإنسان أن يدعو بما شاء، وأن يقرأ ما شاء، وأن يسبح ما شاء، إن شاء مائة، وإن شاء ألفاً، وإن شاء مائتين، ولسنا بحاجة إلى أن نذكر هل قالها الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟ لأن الله أمرنا بذلك على اللفظ المطلق فقال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [ق:39].

والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقيد هذا المأمور، ويقيد إذا كان الرسول قد قال، أما إذا فعل فإن فعله يدل على استحباب الفعل ولا يدل على التخصيص المطلق من نص القرآن والسنة، وهذا فقه قل أن يتأمله ويتنبه إليه بعض الناس حيث أنهم بمجرد أن يكون مطلقاً ومقيداً يقول: إن المقيد يحكم على المطلق، فليس ذلك على إطلاق، ويحكم على المطلق إذا كان من فعله، فيكون هذا على سبيل الاستحباب، والله تبارك وتعالى أعلم.

إذاً الحديث له شواهد منها: حديث أنس وغيره، لكن أصح شيء في الباب هذان الحديثان، وأحسن منها حديث ابن عباس رضي الله عنه كما في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما: فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله) وفي رواية مسلم : ( لا يستنزه من البول، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها باثنين )، أو في رواية: ( فكسرها باثنين، ثم غرز كل واحد منهما على قبر وقال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا ).

المقصود بالاستتار من البول

هذه الأحاديث تفيد فائدة: وهو وجوب التنزه من البول. وأما رواية: الاستتار من البول فقد ذكر بعض أهل العلم على أن حديث ابن عباس في عذاب القبر يحتمل أمرين:

الأمر الأول: أن رواية: ( لا يستتر من البول ) أن سبب العذاب هو أنه كان لا يتوقى من التبول عند الناس وكشف العورة، فيكون الحرمة لأجل التكشف، وهذا بلا شك ضعيف، وذلك لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يستتر من البول ) إنما معناها ما جاء في الرواية الأخرى: ( كان لا يستنزه من بوله ) وعلى هذا فالاستتار: هو وضع حاجب وحاجز بين بوله وبين جسده وهذا هو المقصود، وكأن هذا نوع من التوقي والحذر ليس مثل قوله: ( لا يستنزه ) فإن التنزه نوع من الاستقذار، وأما إذا قلنا: (لا يستتر) وهي رواية البخاري و مسلم فإن معناها أن الإنسان ينبغي أن يتوقى، وهذا التوقي هو توقي بالإبعاد وليس بالتكلف، فإن بني إسرائيل وهم اليهود كانوا يتوقون من البول أشد الناس، حتى إن أحدهم إذا أصابه البول في جسده يقرضه بالمقاريض، وأما النصارى فإنهم لا يستنزهون من البول، ولهذا تجد حتى -أعزكم الله- في دورات المياه التي يتبول الناس فيها قائماً لا تكاد تجد يهودياً يصنع هذا، أما النصارى فإنهم لا يبالون؛ لأن اليهود يتوقون أشد التوقي، ولهذا فإن اليهود وقايتهم من حيث الطعام ومن حيث النجاسة أشد من النصارى، وقد تحملوا الأغلال والآصار، وأما أهل الإسلام فإنهم وسط بين اليهودية والنصرانية.

بعض ما يعين على التنزه من البول

ومن المسائل في هذا الباب: أنه يجب على الإنسان أن يتنزه من بوله، وذلك في أمور:

الأول: ينبغي للإنسان ألا يتعجل حال قضاء الحاجة بالقيام؛ لأن قيامه مدعاة إلى أن يقع شيء من بوله في ثيابه، فيضطر إلى الوسوسة، وهذا واقع.

الثاني: أنه لربما خرج من بوله شيء حينما لم يتأن في قضاء بوله، ومن المعلوم أن الشيطان حريص في مثل هذه المواطن، وذلك لأن الإنسان أحياناً يحس ببرد وبرودة في أصل ذكره أو في رأس ذكره، فتجده يتحسس هذه البرودة على أنها رطوبة، فبالتالي يعالج ذكره وهو في الصلاة حتى يعصره فيخرج شيء، فإذا خرج من الصلاة وجد بللاً، فهذا الخروج لم يتأت من أصل البرودة، ولكنه من أجل النتر وغير ذلك، وعامة الوسواس منه كما جاء في بعض الروايات، وعلى هذا لا ينبغي للإنسان أن يصنع هذا، ولا ينبغي له أن يخرج؛ لأن برودة رأس الذكر واضحة وموجودة، وقد ذكرها أبو العباس بن تيمية وهي معروفة، وبالتالي فإن الإنسان لا ينبغي له أن يصنع هذا.

سلس البول

مسألة أخرى وهي مسألة: سلس البول، وسلس البول معروف حكمه، وهو أنه كما قلنا: الراجح أن يتوضأ لكل صلاة، وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي و أحمد خلافاً لـمالك فإن مالكاً يستحب ذلك، لكن السؤال الذي لم أجد له كلاماً عند الفقهاء ولكنها إشارات، أحياناً بعض الناس ليس به سلس بول دائم، ولكن به سلس بول مؤقت، وهو أنه إذا تبول فإنه بعد عشر دقائق أو ربع ساعة أو أقل أو أكثر يخرج منه قطرات، فهذا الراجح والله أعلم أنه يتوضأ لكل صلاة ما دام على هذه الحال، ثم ينقطع، وعلى هذا فلو تبول الظهر، قلنا: لو توضأ الظهر والعصر، فإن لم يتبول العصر قلنا: وضوءك صحيح ولا حاجة لأن تتوضأ، فيكون وضوءه مؤقتاً على حسب حالته، وبالتالي نقطع دابر الوسوسة.

التنزه من النجاسات الصغيرة

من المسائل أيضاً: أن جماهير أهل العلم وهو مذهب الحنابلة والشافعية ورواية عن مالك : وجوب التنزه من النجاسة صغرت أم كبرت، لعموم أحاديث التنزه من البول، والقول الثاني في المسألة: ذهب أبو حنيفة وهو قول المزني من أصحاب الشافعي وروي عن مالك : أن يسير النجاسة إذا كانت أقل من قدر الدرهم البغلي، والدرهم البغلي هو نوع من أنواع الدراهم الصغيرة، إذا كانت أقل يعفى عنها، فيعفى عن يسير النجاسة، واستدلوا على ذلك بأن قالوا: إنه من المعلوم أن المستنجي أو المستجمر بالحجارة يكفيه ذلك، بإجماع أهل العلم.

ومن المعلوم أن الاستجمار بالحجارة مع وجود الماء يبقى أثر للاستجمار، وهذا الأثر لا ينقطع إلا بالماء ولا يجب الماء، فدل ذلك على أن يسير النجاسة الذي يشق التحرز منه معفو عنه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث حذيفة : ( أنه أتى سباطة قوم، فبال قائماً ).

ومن المعلوم أن من بال قائماً في الغالب لا يسلم من رذاذ البول، ولا شك، فالجواب على هذا: أن المسلم مأمور بالتوقي والحذر من البول، إلا أن ما يصعب التحرز منه فإن هذا مما عمت به البلوى، فإن النجاسة بالسبيلين إن بقيت وجب إزالتها بالحجارة حتى يغلب على ظنه أنه أزالها، وليس معناه أنه يزيلها بالحجارة من غير توقي، بل يتوقى بالحجارة مثلما يتوقى بالماء، وما بقي بعد ذلك فإن هذا مبني على المظنة، ونحن حينما نترك هذا، فإنما تركناه لمظنة الطهارة، والقاعدة أنه إذا صعب اليقين أقيمت المظنة مقام اليقين، فنحن حينما لا نعلم شيئاً في السبيلين بسبب الحجارة فلأجل أننا أقمنا اليقين مقام الظن، وأقمنا المظنة مقام اليقين، وليس معناه أننا تساهلنا في إزالة النجاسة، هذه نقطة.

النقطة الثانية: أنه وإن وجب على المسلم أن يتوقى من البول فإنه من المعلوم أن ما كان على رأس الإبرة فإن هذا مما لا بأس به ولا إشكال فيه، وهذا مما عمت به البلوى، من المعلوم أن من تبول لا ينبغي له أن يحتاط أشد الاحتياط، فقد تجد بعض الموسوسين والعياذ بالله إذا أراد أن يتبول يسأل: ما حكم الماء الذي يكون في المرحاض -أعزكم الله وأجلكم الله- هل يجب علي أن أغسل؟ فتجده إذا أراد أن يغسل ما بعد السبيلين غسل من سرته إلى أرجله، وهذا والعياذ بالله مرض، والله سبحانه وتعالى بين أن هذا ليس من دين أهل الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليرفع الآصار والأغلال.

وكنت أقول للموسوس: هب أننا كلنا مثلك، فإذا دخل المؤذن الحمام يجس ساعة من يؤذن؟ وإذا أذن واحد من يصلي بنا؟ فهذا يدل على أن هذا ليس من دين الإسلام أصلاً، ولهذا يجب على المسلم أن يكون عنده يقين أن هذا المأمور إنما هو من الشيطان، وإذا علم أنه من الشيطان لا يسوغ له أن يقول: إن تركت سوف تكفر وتصلي، فإن الإنسان إذا بنى على اجتهاد فإنه يعذر بالإجماع، ولكن هذه هي حرب الشيطان الذي قال: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17].

كيفية التعامل مع ما لا يعلم بنجاسته

النقطة الثالثة: ما لا يعلم بنجاسته، فإن الأصل فيها الجواز، مثل: من المعلوم أن الصحابة كانوا أصحاب فلاحة، ولربما استنجى أحدهم أو عالج النجاسة بيده، واستخدم التراب فيعلق التراب تحت أظفاره، وهذا الذي يعلق تحت الأظفار معفو عنه لأمرين:

الأول: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمرهم بإزالة ما تحت الأظفار.

الثاني: أنه لا يسلم غالباً من وجود نجاسة فيه ولكن مع ذلك لم يتيقن فالأصل فيها الطهارة، وقد أشار أبو العباس بن تيمية أن مثل هذا مما يعفى ولا يلزم إزالته، وهذا من التكلف الذي نهينا عنه.

هذا الحديث بهذا الإسناد تكلم العلماء فيه، وذلك لأن الحديث يرويه الدارقطني من حديث محمد بن الصباح أو الصباح السمان ، قال: أنبأنا أزهر بن سعد السمان عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا الحديث يقول فيه الدارقطني بعدما ذكره: الصواب أنه مرسل؛ وذلك لأن محمد بن الصباح السمان لا يعرف حاله، وكذلك لا يعرف سماع له عن أزهر ، ولهذا قال الدارقطني : مرسل. والقاعدة في المرسل: هو الانقطاع، سواء كان الانقطاع بين التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان بين الراوي وشيخه، فإنهم يسمونه مرسلاً، كما هي طريقة الأئمة، كما كان أحمد و أبو حاتم وغيرهم يقولون ذلك.

وهذه فائدة لطالب العلم: أنه لا ينبغي له أن يحاكم الناس بمصطلح لم يتعودوا عليه، أو أن يحاكم الناس بمصطلح مفهوم عندهم، مثل: كلمة مرسل، فإن الإرسال عند المتقدمين يختلف عن الإرسال عند المتأخرين، وبالتالي فلا يسوغ للمتأخرين أن يحاكموا المتقدمين بمصطلحهم هم، وقل مثل ذلك في بعض المصطلحات العصرية في زماننا التي لها مدلول ومفهوم، فلا يسوغ لنا أن نأتي نحن بمصطلح ونقول: لا بأس به، وهذا المصطلح له مدلول ومفهوم عند غيرهم، كالديمقراطية: فالديمقراطية مصطلح معروف مفهوم عند الغرب، وهو أن الشعب هو الذي يقرر بموجب الاقتراحات والانتخابات وغير ذلك، والبرلمانات هي التي تقرر التجويز أو عدمه، وليست الديمقراطية هي الاقتراع والانتخابات، فإن هذا من آلياته، ولكن الديمقراطية أساسها أنه لا سلطان على الشعب في اتخاذ أحكامه.

وأما في الإسلام: فإن الديمقراطية تخالف الإسلام في مقصدها لا في آلياتها، فإن مقصد الديمقراطية: أن الشعب لو أراد شيئاً له أن يتخذه، وهذا لا يسوغ عندنا شرعاً، أما آليات الديمقراطية فإن الشارع لا يمنع من ذلك، مثل الانتخابات والاقتراعات وغير ذلك فهذا سائغ، وهذا سائغ، كما كان عبد الرحمن بن عوف حينما أراد أن يولي عثمان بن عفان أو علي بن أبي طالب فذهب إلى الناس جميعاً فرأى أن أكثرهم يختار عثمان ، وإن كان بعضهم يخالف في طريقة الاستدلال في هذا، لكن فرق بين آليات الشيء وبين مقصده، وبالتالي لا يسوغ أن تقول: الديمقراطية الإسلامية، كما كنا في السابق عندما انتشرت الاشتراكية حاول بعضهم أن يوجد لها أصلاً في الشرع، فقال: اشتراكية أبي ذر ، وهذا كله خطأ، وعلى هذا فالمصطلحات تفهم على طريقة أصحابها، وأما أن تقرر أنت مصطلحاً تتخذه لنفسك فهذا لا بأس، لكن لا تحاكم الناس على هذا المصطلح الذي تخترعه أنت.

وعلى هذا فإن أهل العلم رحمهم الله ذكروا أن الحديث ضعيف؛ وذلك لأن محمد بن الصباح مع جهالته وعدم معرفة حاله فإنه لم يرو عن أزهر إلا هو، وعلى هذا ضعف أهل العلم خبره، وحكموا بأن الخبر منكر.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (وللحاكم : ( أكثر عذاب القبر من البول ) وهو صحيح الإسناد).

الحافظ رحمه الله كان دقيقاً بقوله: (صحيح الإسناد)؛ لأنه لم يتحدث عن علة الحديث؛ لأن الحديث ربما يكون إسناده صحيحاً وفيه علة.

والحديث أخرجه الإمام أحمد و ابن ماجه و الحاكم من طريق أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا الإسناد في الظاهر إسناده صحيح ولا إشكال، وعلى هذا حكم بعض أهل العلم على صحته، كما نقل الترمذي في العلل الكبير على البخاري أنه قال: صحيح، وكذلك صححه الدارقطني وخلق كثير، كما صححه البوصيري و الجوزقاني في الأباطيل قال: حديث حسن مشهور.

وبعضهم تكلم فيه من حيث الاختلاف على أبي عوانة ، وذلك لأن أحد الرواة الثقات وهو محمد بن فضيل رواه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة من قوله، والقاعدة في هذا: أنه إذا اختلف الراويان هذا يقول: مرفوع، وهذا يقول: موقوف، فقد يقدم المرفوع وقد يقدم الموقوف، وقد اختلفت الطرق في ذلك فطريقة المتأخرين أنهم يقدمون المرفوع أنه إذا تعارض مرفوع وموصول أو مرفوع وموقوف أو موصول ومرسل؛ لأن الراوي الذي رفعه أو الراوي الذي وصله عنده زيادة علم، والزيادة من الثقة مقبولة، هذا طريقة المتأخرين، وعلى هذا سار الحافظ ابن حجر في شرح النخبة بهذه الطريقة.

وبعضهم يأخذ طريقة أخرى فيقول: إذا تعارض المرفوع والموقوف فالمقدم الموقوف؛ لأنه ليس على الجادة، فأحياناً أنا أذكر لكم وأقول: حدثنا شيخنا عبد العزيز بن باز حدثنا محمد بن إبراهيم ، وأحياناً أحدث بطريق لإسناد غير هذا فأخطئ، والحديث لم يروه لي الشيخ عبد العزيز ، فيقول: أخطأ عبد الله ؛ لأنه روى الحديث على الجادة، والإنسان إذا ذكر الإسناد يرويه على الجادة، فيقولون: المرفوع على الجادة.

والصحيح في هذا هي طريقة المحققين من أهل الحديث: أننا لا نحكم على هذا بالرفع بالصواب، أو على هذا بالوقف على الصواب، ولكننا ننظر إلى من رفعه أو من أوقفه، فإن كان أحدهما أوثق عن الشيخ نفسه قبلنا خبره، فأوثق الناس في الأعمش هو: أبو معاوية الضرير الذي يسمى محمد بن خازم ، أبو معاوية الضرير إذا روى عن الأعمش يقبل خبره ما لو رواه عن غير الأعمش ، فلو اختلف الحديث مع أبي عوانة فننظر من هو شيخ أبي عوانة ، إن كان الأعمش قبلنا خبر أبي عوانة ؛ لأنه روايته عن الأعمش أوثق من رواية غيره، وإن كان غيره ربما يكون أوثق من أبي عوانة في نفسه، فهذه يسمونها قرائن، وهذه القرائن تختلف في أنظار أهل الحديث، فطريقة الأئمة أنهم ينظرون: فبعضهم يتقوى عنده هذه القرائن وبعضهم يتقوى عنده هذه القرائن، وإن كانوا جميعاً على الطريقة التي هو طريقة أهل الحديث، فـالبخاري رحمه الله حينما سأله الترمذي عن حديث أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة : ( أكثر عذاب القبر من البول ) قال: صحيح.

والبخاري حينما قال: صحيح هو يستحضر أن أبا عوانة خالفه محمد بن فضيل ، ولكنه رأى أن أبا عوانة روايته عن الأعمش في هذا صحيحة فقبلها؛ لقوة القرائن، في حين أن أبا حاتم رحمه الله حينما ذكر هذا الحديث في العلل قال: هذا حديث باطل، انظر كلمة (باطل)، فلماذا حكم بالبطلان؟ يقول: لأن الحديث بالرفع لا يصح، والصواب هو رواية محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، إذاً لماذا اختلفوا؟

الجواب: لأجل أن هذا رأى من القرائن قوة أبي عوانة فقبله، وهذا رأى قوة محمد بن فضيل فقبله.

والذي يظهر لي والله أعلم أن هذا -سواء قلنا بالمرفوع أو بالموقوف- لا يخالف طريقة أهل الحديث؛ لأنها مبنية على القرائن، ومما يقوي أن الحديث مرفوع صحيح: أنه جاء ما يعضده من الشواهد: منها حديث ابن عباس في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين، فقال: أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير، أما أحدهما: فكان لا يستنزه ) هذه رواية مسلم ، ورواية الصحيحين: ( لا يستتر من بوله ). وكذلك حديث ابن عباس كما سوف نأتي إليه، فهذا يدل على أن المرفوع له أصل، ومن قال: إن الأصل أننا لا نحكم بالرفع إلا بيقين، قال: إنه موقوف، وهي طريقة أبي حاتم وغيره.

على كل حال الذي يظهر والله أعلم أن أفضل الطرق هي طريقة البخاري ؛ لأن الأصل أنه ما دامت القرائن تقوي الرفع، وليس هناك ما يثبت، وأن أبا عوانة ثقة حجة، وهو أوثق من محمد بن فضيل فنقبل خبره، والله تبارك وتعالى أعلم.

والحديث له شواهد: منها حديث ابن عباس ، وهو الذي أشار إليه الحاكم حينما قال في حديث: ( أكثر عذاب القبر منه ) قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا أعلم له علة، وله شاهد من حديث أبي يحيى القتات ، وحديث أبي يحيى القتات هو حديث ابن عباس ، فإن أبا يحيى القتات رواه عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عامة عذاب القبر من البول فتنزهوا منه )، وهذا الحديث في سنده أبو يحيى القتات صحح حديثه الحاكم ، وقال الحافظ ابن حجر : إسناده حسن، وليس فيه غير أبي يحيى القتات وفيه لين.

وهذه فائدة: فليس كل حديث فيه رجل ضعيف لا تقبله، ولهذا يخطئ بعض الإخوة فيمسك تقريب التهذيب، ويمسك الإسناد فإذا قال: ضعيف. تركه، والصحيح أننا لا نحكم على الحديث بالضعف ولو كان في إسناده رجل ضعيف؛ فربما يكون ضعفه منجبراً، ولهذا تجد أن الأئمة ينتقون من أحاديث الضعيف ما علم أنه أصاب فيه، ويتركون من أحاديث الثقة ما علم أنه أخطأ فيه، يقول المزي رحمه الله: وطريقة أبي عبد الله البخاري و مسلم بن الحجاج هي طريقة أهل الحديث، فليست هي طريقة أبي محمد بن حزم الذي يترك حديث الثقة إذا علم أنه أخطأ، أو طريقة الحاكم أنه يقبل من حديث الضعيف إذا علم أنه أصاب، وأما طريقة أهل الحديث فإنهم ينتقون، والله أعلم.

وعلى هذا حسن الحافظ هذا الحديث، وبعضهم وكذلك الدارقطني قال: عن أبي يحيى لا بأس به، وبعضهم يتكلم في هذا الحديث ويقول: إن أبا يحيى القتات تفرد به عن مجاهد ، وأصحاب مجاهد كثر، فيبعد أن يأتي أبا يحيى الذي فيه لين فلا يقبله، وهذا لا بأس بقبول حديثه، وهو محل اجتهاد. لكني أردت من هذا أن بعض الشباب وبعض المشايخ العصريين في بحوثهم بمجرد أن الحديث فيه كلام يضعونه مباشرة، وهذه ليست طريقة أهل الحديث، فطريقة أهل الحديث أنهم ينتقون، وينظرون هل يعضده من شواهد، وهل الحديث أتى بما ينكر؟ هل.. وهل.. وهل ..؟ فهناك أشياء، أما أننا إذا جاء الحديث قلنا: قد تكلم أهل العلم في أبي يحيى القتات بأنه منكر الحديث، وكل حديث فيه اختلاف نقبل من ضعفه، فليست هذه الطريقة الصحيحة، ولهذا فإن الصحيح هي طريقة أهل الحديث مثل الإمام أحمد و البخاري .

يقولون: إن الحديث فيه كلام، لكن وجود الكلام في الحديث لا يعني بالضرورة أنه ضعيف، ولهذا الإمام الذهبي في رواية الليث بن سعد عن محمد بن مسلم بن تدرس المكي الذي يسمونه: أبو الزبير المكي ، يقول: ولـأبي الزبير أحاديث ليست هي عن طريق الليث بن سعد ففي القلب منها شيء، يعني: في القلب منها شيء ومع ذلك نصححها، ولهذا روى مسلم في صحيحه أحاديث كثر عن أبي الزبير المكي عن جابر من غير رواية الليث ، فكونه يقول: في القلب منها شيء ليس معناه أنها ضعيفة، ولهذا في القلب من أحاديث الحسن ما ليست من أحاديث الصحيح، ومع ذلك نقبل الأحاديث، ولهذا ينبغي أن يتوسط طالب العلم.

وربما تجد بعض الفضلاء هداهم الله حينما جاءت أحاديث الأذكار كأذكار الصباح والمساء، بدأوا يتركون أي حديث فيه كلام أو فيه لين فلم يصف من أحاديث الأذكار إلا أربعة، ولهذا بعضهم يقول: افرض أنا نجلس بعد المغرب كل يوم على أحاديث ضعيفة، فهم لم يفهموا ما المقصود بالأذكار، وما الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالأذكار مقصود شرعي أن يجلس الإنسان قبل غروب الشمس وقبل طلوع الشمس، ولهذا فمن أفضل أوقات الذكر، قال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]، وللإنسان أن يدعو بما شاء، وأن يقرأ ما شاء، وأن يسبح ما شاء، إن شاء مائة، وإن شاء ألفاً، وإن شاء مائتين، ولسنا بحاجة إلى أن نذكر هل قالها الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟ لأن الله أمرنا بذلك على اللفظ المطلق فقال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [ق:39].

والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقيد هذا المأمور، ويقيد إذا كان الرسول قد قال، أما إذا فعل فإن فعله يدل على استحباب الفعل ولا يدل على التخصيص المطلق من نص القرآن والسنة، وهذا فقه قل أن يتأمله ويتنبه إليه بعض الناس حيث أنهم بمجرد أن يكون مطلقاً ومقيداً يقول: إن المقيد يحكم على المطلق، فليس ذلك على إطلاق، ويحكم على المطلق إذا كان من فعله، فيكون هذا على سبيل الاستحباب، والله تبارك وتعالى أعلم.

إذاً الحديث له شواهد منها: حديث أنس وغيره، لكن أصح شيء في الباب هذان الحديثان، وأحسن منها حديث ابن عباس رضي الله عنه كما في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما: فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله) وفي رواية مسلم : ( لا يستنزه من البول، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها باثنين )، أو في رواية: ( فكسرها باثنين، ثم غرز كل واحد منهما على قبر وقال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا ).

هذه الأحاديث تفيد فائدة: وهو وجوب التنزه من البول. وأما رواية: الاستتار من البول فقد ذكر بعض أهل العلم على أن حديث ابن عباس في عذاب القبر يحتمل أمرين:

الأمر الأول: أن رواية: ( لا يستتر من البول ) أن سبب العذاب هو أنه كان لا يتوقى من التبول عند الناس وكشف العورة، فيكون الحرمة لأجل التكشف، وهذا بلا شك ضعيف، وذلك لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يستتر من البول ) إنما معناها ما جاء في الرواية الأخرى: ( كان لا يستنزه من بوله ) وعلى هذا فالاستتار: هو وضع حاجب وحاجز بين بوله وبين جسده وهذا هو المقصود، وكأن هذا نوع من التوقي والحذر ليس مثل قوله: ( لا يستنزه ) فإن التنزه نوع من الاستقذار، وأما إذا قلنا: (لا يستتر) وهي رواية البخاري و مسلم فإن معناها أن الإنسان ينبغي أن يتوقى، وهذا التوقي هو توقي بالإبعاد وليس بالتكلف، فإن بني إسرائيل وهم اليهود كانوا يتوقون من البول أشد الناس، حتى إن أحدهم إذا أصابه البول في جسده يقرضه بالمقاريض، وأما النصارى فإنهم لا يستنزهون من البول، ولهذا تجد حتى -أعزكم الله- في دورات المياه التي يتبول الناس فيها قائماً لا تكاد تجد يهودياً يصنع هذا، أما النصارى فإنهم لا يبالون؛ لأن اليهود يتوقون أشد التوقي، ولهذا فإن اليهود وقايتهم من حيث الطعام ومن حيث النجاسة أشد من النصارى، وقد تحملوا الأغلال والآصار، وأما أهل الإسلام فإنهم وسط بين اليهودية والنصرانية.

ومن المسائل في هذا الباب: أنه يجب على الإنسان أن يتنزه من بوله، وذلك في أمور:

الأول: ينبغي للإنسان ألا يتعجل حال قضاء الحاجة بالقيام؛ لأن قيامه مدعاة إلى أن يقع شيء من بوله في ثيابه، فيضطر إلى الوسوسة، وهذا واقع.

الثاني: أنه لربما خرج من بوله شيء حينما لم يتأن في قضاء بوله، ومن المعلوم أن الشيطان حريص في مثل هذه المواطن، وذلك لأن الإنسان أحياناً يحس ببرد وبرودة في أصل ذكره أو في رأس ذكره، فتجده يتحسس هذه البرودة على أنها رطوبة، فبالتالي يعالج ذكره وهو في الصلاة حتى يعصره فيخرج شيء، فإذا خرج من الصلاة وجد بللاً، فهذا الخروج لم يتأت من أصل البرودة، ولكنه من أجل النتر وغير ذلك، وعامة الوسواس منه كما جاء في بعض الروايات، وعلى هذا لا ينبغي للإنسان أن يصنع هذا، ولا ينبغي له أن يخرج؛ لأن برودة رأس الذكر واضحة وموجودة، وقد ذكرها أبو العباس بن تيمية وهي معروفة، وبالتالي فإن الإنسان لا ينبغي له أن يصنع هذا.