أرشيف المقالات

موقف المفسرين من نظرية النظم للجرجاني

مدة قراءة المادة : 30 دقائق .
موقف المفسرين وعلماء علوم القرآن
من نظرية النظم بعد الإمام عبدالقاهر ودورهم فيها[1]
الزمخشري، الرازي، الزملكاني، البيضاوي، ابن النقيب، النسفي، أبو حيان، ابن القيم، المهائمي، البقاعي، السيوطي، أبو السعود، الآلوسي، الفراهي، النورسي، الطاهر بن عاشور
 

مدخل:
اتخذَتْ فكرةُ النظم بعد الإمام عبدالقاهر منحًى جديدًا، تمثَّل في التبويب والترتيب، وكانت نظريةُ النظم مَيدانًا رَحبًا لكثيرٍ من المفسِّرين الذين طبَّقوها في تفاسيرهم، أو هذَّبوها وزادوا عليها أمورًا أخرى، وأكاد أجزِمُ أن أغلب كتبِ التفاسير بعد الإمام عبدالقاهر قد استفادت من نظريةِ النظم ولو بشيءٍ قليل، ومن المفسرين مَن توسع فيها في تفسيره، ومنهم مَن صنف كتبًا مستقلَّة عن التفسير في جوانب منها، وأشهر مَن طبقها واستفاد منها؛ كالتالي:
أولًا: يعدُّ (الزمخشري) - محمود بن عمر بن أحمد - مِن أفضل المفسِّرين الذين طبَّقوا نظرية النظم تطبيقًا دقيقًا على نصوص القرآن في تفسيره (الكشاف)؛ ليثبت أن إعجاز القرآن بنظمِه، فيقول في مقدمة تفسيره:
(ثم إن أملَأَ العلوم بما يغمُرُ القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدقُّ سلكها - علمُ التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم ...
ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجلٌ قد برع في علمينِ مختصَّينِ بالقرآن، وهما علم المعاني وعلم البيان، وتمهَّل في ارتيادهما آونةً، وتعِب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثَتْه على تتبُّع مظانِّهما همةٌ في معرفة لطائف حجة الله، وحرصٌ على استيضاح معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم)[2]؛ ا.
هـ.
 
ثانيًا: (الرازي) محمد بن عمر بن الحسين، صاحب (التفسير الكبير) أو (مفاتيح الغيب)، له كتابٌ سمَّاه (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز)، نظم فيه وبوَّب ورتَّب ما كتبه الإمام عبدالقاهر في كتابَيْه (أسرار البلاغة)، و(دلائل الإعجاز)، كما نقل فيه عن علي بن عيسى الرماني، مما كتبه في كتابه (النكت في إعجاز القرآن)، وألمَّ فيه بطرف من آراء الزمخشري في الكشاف، يقول رحمه الله: (ولمَّا وفَّقني الله لمطالعة هذين الكتابينِ - (أي: أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز) - التقطتُ منهما معاقِدَ فوائدِهما ومقاصدَ فرائِدِهما، وراعَيتُ الترتيب مع التهذيب، والتحريرَ مع التقرير، وضبطتُ أوابِدَ الإجمالات في كل بابٍ بالتقسيمات اليقينية، وجمعتُ متفرِّقات الكَلِم في الضوابط العقليَّة، مع الاجتناب عن الإطناب المملِّ، والاحتراز عن الإيجاز المُخِلِّ، وسميتُه (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز)[3]؛ ا.
هـ.
 
قلت: وقد بنى الرازيُّ كتابَه على مقدمة وجملتين وخاتمة، وقسَّم المقدمة إلى فصلين؛ تحدَّث في أولهما عن السر في إعجاز القرآن، وعرض ذلك في أربعة مذاهب، نقضها جميعًا، واختار تعليل الإعجاز بفصاحة القرآن، وهي عنده ترجع إلى الألفاظ والمعاني.
 
وتحدَّث في الفصل الثاني عن شرفِ علمِ الفصاحة، وإنها إما أن تكونَ راجعة إلى مفردات الكلام، وإما أن تكون راجعةً إلى تأليفه وتركيبه، ومِن أجل ذلك رتَّب كتابه على جملتين: جملة خاصة بالمفردات، وجملة خاصة بالنظم والتأليف، وبحث في الجملة الأولى طائفةً من المحسنات اللفظية بالإضافة إلى الصور البيانية، وبحث في الجملة الثانية مجموعة من القواعد الخاصة بالنظم، كما صوَّره الإمام عبدالقاهر في (دلائل الإعجاز)، مع العناية بطائفة من المحسنات المعنوية.
وذكر الرازيُّ مصطلحَي (علم المعاني) و(علم البيان)، ولكنه لم يعرِّفْهما؛ ويوضِّحهما ويحدِّد موضوعاتهما.
 
وجاءت خاتمةُ الكتاب على أربعةِ فصولٍ:
جاء الفصلُ الأول منها عن وجه الإعجاز في سورة (الكوثر)، أجمل فيها رسالةً للزمخشري في هذا الموضوع.
ثم عقَد فصلًا للمتشابَهِ في القرآن لخَّصه من أبحاث المتكلِّمين.
وفي الفصل الثالث ردَّ على بعضِ الملاحدة ممَّن يزعُمونَ أن في القرآن تناقضًا.
وردَّ في الفصل الرابع على مطاعِن الملاحدة في القرآن من جهةِ التَّكرار والتطويل، اختصرها من تفسير (الزمخشري)، وبذلك ينتهي الكتاب.
 
ولا شك أن مؤلَّفًا بهذا الترتيب والتنظيم والتبويب، والجمع لبعض تراث السابقين ممَّن تعرضوا لفكرة النظم، وخاصة الإمام (عبدالقاهر) - قد أفاد الرازيُّ منه كثيرًا في تفسيره الكبير (مفاتيح الغيب)، فقد ذكر فيه أيضًا (الخليل بن أحمد الفَراهِيديَّ) ت (170هـ)، ونقل عنه، وذكر إمام النُّحاة (سيبويهِ)، ونقل عنه، وأورد ذكر القاضي (عبدالجبَّار)، ونقل من كتاب (المُغنِي) ما يتعلق بإعجاز القرآن، ورد رأي (النظَّام) في إعجاز القرآن، وناقش قوله بالصرفة، وأفاد عن الجاحظ، وابن جِنِّي، والباقلاني، وآخرين.
 
فكتاب (نهاية الإيجاز) حَلْقةُ الوصل بين بلاغة الإمام (عبدالقاهر) وبلاغة الإمام (السكاكي) وتلاميذه من المتأخِّرين، وهو ذو قيمةٍ علمية عظيمة في قضيةِ الإعجاز ودراسة البلاغة.
 
ثالثًا: الزملكاني[4] له جهدٌ مشكور في تتبُّع نظرية النظم، وتطبيقِها على آيات القرآن الكريم، فقد ألَّف كتابًا سمَّاه (البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن)، طبع بتحقيق: د.
خديجة الحديثي، ود.
أحمد مطلوب في بغداد، الطبعة الأولى عام 1394هـ، ويقع مع الفهارس في 432 صفحة، قال فيه برجوعِ وجه الإعجاز إلى التأليف الخاص بالقرآن، لا مطلق التأليف، بأن اعتدلت مفرداته تركيبًا وزِنَةً، وعَلَتْ مركباته معنًى، بأن يوقع كل فنٍّ في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى.

وللزملكاني أيضًا كتابٌ يسمى (التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن)، طبع في بغداد أيضًا عام 1383هـ[5].
 
رابعًا: ولناصر الدين أبي الخير - عبدالله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي، الشافعي ت (691هـ)، وقيل: (685هـ) - تفسيرٌ متوسِّط الحجم سمَّاه (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)، اختصره من تفسير الراغب الأصفهاني ت (502هـ)، وتفسير (الكشاف) للزمخشري، وتفسير (مفاتيح الغيب) للرازي، ومع ذلك فقد أعمَل فيه عقله، فضمَّنه نُكتًا بارعة، ولطائفَ رائعة، واستنباطاتٍ دقيقة، كل هذا في أسلوب رائع موجَز، وعبارة تدقُّ أحيانًا وتخفَى إلا على ذي بصيرة ثاقبة وفطنة نيِّرة[6].


يقول في خطبة التفسير:
(فإن أعظم العلوم مقدارًا، وأرفعها شرفًا ومنارًا، علمُ التفسير الذي هو رئيسُ العلوم الدينية ورأسُها، ومبنى قواعد الشرعِ وأساسُها ...
ولطالما أحدِّث نفسي بأن أصنِّف في هذا الفن كتابًا يحتوي على صفوةِ مما بلغني من عظماء الصحابة، وعلماء التابعين، ومَن دونهم من السلف الصالحين، وينطوي على نُكَت بارعة، ولطائف رائعة، استنبطتُها أنا ومن قبلي من أفاضل المتأخِّرين، وأماثل المحقِّقين)[7]؛ ا.
هـ.
 
ويقول في خاتمة الكتاب:
(وقد اتَّفق إتمامُ تعليق سوادِ هذا الكتاب المنطوي على فرائد فوائد ذوي الألباب، المشتمِل على خلاصةِ أقوال أكابر الأئمة وصفوة آراء أعلام الأمَّة، في تفسير القرآن وتحقيق معانيه، والكشف عن عويصات - (ما خفِي وصعُب فهمُه) - ألفاظِه ومعجزات مبانيه، مع الإيجازِ الخالي عن الإخلال، والتلخيص العاري عن الإضلال، الموسوم بـ"أنوار التنزيل وأسرار التأويل")[8]؛ ا.
هـ.
 
خامسًا: ولأبي عبدالله جمال الدين محمد بن سليمان البَلْخي - الشهير بـ(ابن النقيب)، ت (698 هـ) - مقدِّمةٌ لتفسيره (التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير في معاني كلام السميع البصير)[9]، ضمَّنها علوم البلاغة بأنواعِها، بالإضافة إلى فوائدَ أدبيَّة ونُكَت بلاغية من القرآن الكريم، وقد طبعت هذه المقدمة بعنوان خطأ، وهو: (الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان)، وكذلك نُسِبت خطأً لابن القيم رحمه الله تعالى ت (751هـ)[10]، وهذه المقدِّمة جمعها الإمام ابن النقيب من أمهات الكتب المصنَّفة في علم البلاغة والأدب، يقول في خطبة المقدمة:
(وسنُورِد في كتابنا هذا أصولًا مؤصَّلة، وفوائد مفصَّلة من علم البيان وما ورد نظيره في القرآن، ما تقف عليه ويعجبك النظر إليه، وهذه الجملة التي تأصلت وتحصلت، والفوائد التي بعد إجمالها فصلت، نقلتُها من كتب ذوي الإتقان من علماء علم البيان التي وقفت عليها وترقَّت همة اطلاعي إليها من كتب المتقدمين والمتأخرين ...
وكل كتاب من هذه الكتب أُخِذ مِن كتب شتى مع ما أضفت إليها من فوائد مستعذَبة، وفرائد حَسَنة المساقِ مستغربة نقلتُها عن الأئمة الأعلام الأكابر، ونقلتها عنهم من ألسنتهم لا مِن بطون الدفاتر، وما أضفتُ إلى ذلك مما تفضَّل الله به ومنح، مِن مهمل أبَنْتُه، ومُجمَل فصَّلته، وشارد قيَّدته وحصَّلته، ليكملَ بهذا الكتابِ النفعُ ...
وإحياءً لعلم البيان المطلع على نُكَت نظم القرآن ...
ولو أدامُوا النظرَ فيه، والتلمُّح لمعانيه لاطَّلعوا من الكتاب العزيزِ على خفايا تهشُّ لها القلوب، ودقائق تسفرُ لهم عن وجوه المطلوب، ومَن لم يعرف هذا العلم كان عن فهمِ معاني الكتاب العزيز بمَعزِلٍ، ولم يَقُمْ ببعض من حقوقِ المنزل والمنزل، ومَن وقف على هذه الأصول التي أصَّلتُها، والفصول التي فصَّلتُها، ظهر له مِصداق هذه الدعوى، وأخذ من التواصل إلى معرفة هذا العلم بالسبب القوي، وحسن عنده موقعه، وعَظُم في نفسه محلُّه وموضعه، وخالطت قلبَه بشاشةُ رونقه، وجليت في عينه نضارةُ نظائره وحسن موثقه[11]؛ ا.
هـ.
 
سادسًا: (النسفي) عبدالله بن أحمد بن محمود - أبو البركات ت (701 هـ) - له تفسيرٌ وسيط سمَّاه (مدارك التنزيل وحقائق التأويل)، ليس بالطويل المملِّ، ولا بالقصير المخلِّ، ضمَّنه دقائق ونِكاتًا للنَّظم القرآني، أخذه من تفسير (الكشاف) و(تفسير البيضاوي)، تبنَّى فيه كل ما كتبه الزمخشري تقريبًا في البلاغة القرآنية، يقول في خطبة التفسير: (قد سألني مَن تتعيَّن إجابتُه كتابًا وسطًا في التأويلات، جامعًا لوجوه الإعراب والقراءات، متضمنًا لدقائق علمَيِ البديع والإشارات، حاليًا - (محلًّى) - بأقاويل أهل السُّنة والجماعة، خاليًا عن أباطيل أهل البدع والضلالة ليس بالطويل المملِّ ولا بالقصير المخلِّ ...
وسمَّيته بمدارك التنزيل وحقائق التأويل، وهو الميسِّر لكل عسير وهو على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير)[12]؛ ا.
هـ.
 
سابعًا: (أبو حيَّان) محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الغَرْناطي، أبو عبدالله، ت (745 هـ)، له تفسيرٌ عظيم سمَّاه (البحر المحيط)، أبرز فيه دقائقَ الآداب من بديعٍ وبيان، كما أنه اهتمَّ فيه بالنواحي الإعرابية والتراكيب اللفظية، هذا وقد نقل أبو حيان كثيرًا من كلام الزمخشري في تفسيره، وكثيرًا ما تعقَّبه بالرد والتفنيد، خصوصًا ما كان من وجوه الإعراب ومسائل النحو، وما يتعلق بقضية النظم، يقول أبو حيان: (فعكفتُ على تصنيف هذا الكتابِ، وانتخاب الصفوِ واللُّباب، أُجِيلُ الفكرَ فيما وضع الناسُ في تصانيفهم، وأُنعِم النظرَ فيما اقترحوه من تآليفهم، فألخص مطوَّلها، وأُحِل مُشكِلها، وأُقيِّد مُطْلَقها، وأفتح مُغْلَقها، وأَجْمَع مبدَّدها، وأخلص مُنْقَدها، وأضيف إلى ذلك ما استخرجُتْه القوة المفكِّرة من لطائف علم البيانِ، المطلع على إعجاز القرآن، ومن دقائق علم الإعراب، المُغْرِب في الوجود أي إغراب، المُقْتَنص في الأعمار الطويلة من لسانِ العرب، وبيان الأدب، فكم حوى من لطيفةٍ فِكْري مُستَخرجُها، ومِن غريبةٍ ذهني مُنتِجُها، تحصَّلتْ بالعكوف على علم العربية، والنظر في التراكيب النَّحْوية، والتصرف في أساليب النظم والنثر، والتقلب في أفانين الخطب والشِّعر)[13]؛ ا.
هـ.
 
ثامنًا: (ابن القيم) محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الدِّمَشْقي، ت (751 هـ)، له كتاب فريد في بابه سمَّاه (بدائع الفوائد)، تناول فيه كثيرًا من أسرار النظم القرآني وبدائع اللغة العربية وأسرارها، وطبَّق ذلك على آيات القرآن الكريم، وخاصة في المجلد الأول منه، وعلى سبيل المثال عقَد ابن القيم فائدةً بيَّن فيها أسرارَ التقديم والتأخير في القرآن الكريم، نقل أولًا كلام السُّهَيلي في ذلك، ثم تعقَّبه موافقًا ومخالفًا وزائدًا[14]، كما عقد الإمام ابن القيم فائدةً فيها أسرار التَّكرار في سورة الكافرون[15].
قلت: الكتاب فريدٌ في بابه، حريٌّ وجدير بكل مَن يتعرض للنظم وأسراره أن يقف عليه.
 
تاسعًا: المهائمي[16]، علي بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الهندي، له تفسير سماه (تبصير الرحمن وتيسير المنَّان بعض ما يشير إلى إعجاز القرآن)، ذكر فيه أسرار ترتيب سور القرآن وآياته، وذكر فيه نِكاتًا لطيفة لنظمه، يقول في مقدمة تفسيره: (وبعد: فهذه خيراتٌ حِسَان مِن نكت نظم القرآن ...
فأمكنني أن أبرزهن من خدورِهنَّ ليرى بمرايا جمالِهن صور الإعجاز من بديع ربطِ كلماته وترتيب آياته من بعد ما كان يعدُّ من قبيل الألغاز، فيظهر به أنها جوامع الكلمات، ولوامع الآيات، لا مبدِّل لكلماته، ولا معدل عن تحقيقاته، فكل كلمةٍ سلطانُ دارها، وكل آيةٍ برهانُ جارها، وإنَّ ما تُوهِّم فيه من التَّكرار فمِن قصور الأنظار العاجزة عن الاستكبار، ولا بد منه لتوليد الفوائد الجمَّة من العلوم المهمَّة وتقرير الأدلة القويمة، وكشف الشبهات المُدْلَهِمَّة، مأخوذ من تلك العبارات من غير تأويل لها ولا تطويل في إضمار المقدِّمات، ولا إبعاد في إضمار المناسبات، مع وفاءٍ بالأغراض، وشفاءٍ من الأمراض)[17]؛ ا.هـ.
 
عاشرًا: (البقاعي) أبو الحسن، إبراهيم بن عمر بن الحسن البقاعي، برهان الدين، الشافعي ت (885 هـ)، له تأليفٌ سمَّاه (نظم الدُّرر في تناسب الآيات والسُّور)، جمع فيه مناسبات ترتيب السور والآيات، لم يَسبِقْه إليه أحد كما قال هو، ووضع فيه كتاب (البرهان في ترتيب سور القرآن)؛ لأبي جعفر أحمد بن إبراهيم الزبير الأندلسي ت (708هـ)، وتفسير (الحرالي) أبي الحسن علي بن أحمد بن حسن التجيبي ت (637هـ)، المسمى (مفتاح الباب المُقفل لفهم الكتاب المُنزل)، وكتاب (العُروة)، و(التوشية)، و(التوفية) للحرالي أيضًا، كما نقل فيه من تفسير ابن النقيب[18].
يقول حاجي خليفة: (وهو كتابٌ لم يَسبِقْه إليه أحدٌ، جمع فيه من أسرار القرآن ما تتحيَّر فيه العقول)[19]؛ ا.
هـ.
 
حادي عشر: (السيوطي) عبدالرحمن بن أبي بكر، جلال الدين ت (911هـ)، فارسٌ من فرسان الحَلْبة ألف كتابًا سماه (قطف الأزهار في كشف الأسرار)، ذكر فيه جميع ما وصل إليه من كلام العلماء في النظم القرآني؛ من أسرار التقديم والتأخير، والتأكيد، والحذف، والإيجاز، والإطناب، والنكت البيانية، والأنواع البديعية، وبيَّن في كتابه سرَّ ما اختلفت فيه الآيات المتشابهة من تقديم وتأخير، أو زيادة أو نقص، أو إبدال كلمة بأخرى، كما وضَّح الفروق بين الكلمات التي يُظَن ترادفها، ولِمَ وقع في هذا الموضع كذا، وفي هذا الموضع رديفه، ولِمَ خُتِمت هذه الآية بكذا وهذه بكذا، كما ذكر فيه نكت وأسرار ترتيب سور القرآن، وترتيب آياته، وذكر المناسبة بين السورة وأختها، بل بيَّن الآية والآية، بل بين أجزاء الآية الواحدة، إلى غير ذلك من النكت والأسرار[20].
 
قلت: الكتابُ بذل فيه السيوطي جهدًا كبيرًا، ونقله من كتب عدَّة في التفسير، والقراءات، واللغة، والبلاغة، والمتشابه، ولم يستوفِ فيه جميع سور القرآن وآياته، بل انتهى فيه إلى قوله تعالى: ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 92].
 
ثاني عشر: أبو السعود المتوفَّى (982هـ) فارس من فرسان الحَلْبة ومُبرزٌ فيها كما تقدم.
 
ثالث عشر: (الآلوسي)[21] أبو الثناء محمود بن عبدالله بن محمود بن درويش، شهاب الدين ت (1270هـ) له تفسيرٌ عظيم سمَّاه (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني)، جمع فيه خلاصةَ ما سبقه من التفاسير، فنقل عن تفسير ابن عطية، والزمخشري، والرازي، وأبي حيان، وأبي السعود، وغيرها من كتب التفاسير المعتبرة، ثم ينصبُ نفسه حَكَمًا بينها، ويجعل مِن نفسه نقَّادًا مدقِّقًا، ثم يبدي رأيه حرًّا فيما ينقل، فتراه كثيرًا ما يعترض على ما ينقله عن أبي السعود، أو عن البيضاوي، أو عن أبي حيان، أو عن غيرهم، كما تراه يتعقَّب الفخر الرازي في كثير من المسائل.
 
والآلوسي في تفسيره يتعرَّض لدفع المشكلات التي تَرِدُ على ظاهر النَّظم الكريم، ويذكر فيه كثيرًا من دقائق التفسير، ويُعلِّق على ما أُغلِق على العلماء، كما أنه يُعنَى بإظهار وجه المناسبات بين السور، كما يُعنَى بذكر المناسبات بين الآيات[22].
 
رابع عشر: (حميد الدين) أبو أحمد عبدالحميد الفراهي ت (1349هـ)، وضَع مؤلَّفًا صغيرًا سمَّاه (دلائل النظام)، أثبت فيه بالدلائل الواضحة أن للترتيبِ والنظام حظًّا وافرًا في كل مركبٍ، لا سيما في الكلام البليغ، ولا سيما في القرآن الكريم، ثم صرَّح بأن القرآن كلامٌ منظَّم ومرتَّب من أوله إلى آخره، على غاية حسن النظم والترتيب، وليس فيه شيءٌ من الاقتضاب، ثم أوضح الوسائل التي تَهدِي إلى معرفة علم النظم، ثم تطرَّق إلى طريق استنباط علم النظم وأصوله.
 
قلت: لا شك أنه قد أدَّى حقَّه وأوفَى ذمَّته حتى جعله فنًّا مستقلًّا على أصولٍ راسخةٍ، مستنبَطة من أساليب القرآن وقواعد اللسان، لم يهتدِ إليه أحدٌ ممَّن سبقه.
 
خامس عشر: محمد الطاهر بن عاشور التونسي ت (1393هـ - 1973م)، من المفسِّرين الذين وقفوا من نظرية النظم موقفَ المستفيد، فقد طبَّقها في تفسيره (تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد = التحرير والتنوير)، وهو من أفضل التفاسير التي وظَّفت نظريةَ النظم في النص القرآني وطوَّرتها كثيرًا[23].
 
يقول في مقدمة تفسيره: (فجعلتُ حقًّا عليَّ أن أُبدي في تفسير القرآن نكتًا لم أرَ مَن سبقني إليها ...
إن معاني القرآن ومقاصدَه ذاتُ أفانين كثيرةً، بعيدة المدى، مترامية الأطراف، موزَّعة على آياته ...
ولكن فنًّا من فنون القرآن لا تَخْلُو عن دقائقِه ونكتِه آيةٌ من آيات القرآن، وهو فنُّ دقائق البلاغة هو الذي لم يخصَّه أحدٌ من المفسرين بكتابٍ كما خصوا الأفانين الأخرى، من أجل ذلك التزمت ألَّا أُغفِل التنبيهَ على ما يلوح لي من هذا الفن العظيم في آيةٍ من آي القرآن كلما أُلهِمتُه، بحسب مبلغ الفهم وطاقة التدبر، وقد اهتممت في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز، ونكت البلاغة العربية، وأساليب الاستعمال، واهتممت أيضًا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض ...
فإني بذلت الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خَلَت عنها التفاسير، ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو إليه همم النحارير، بحيث ساوى هذا التفسير على اختصاره مطولاتِ القماطير (ما تصان فيه الكتب)، ففيه أحسن ما في التفاسير، وفيه أحسن مما في التفاسير)"[24]؛ ا.
هـ.
 
وبعد:
فهذا عرضٌ تاريخي مُوجَز لأهم المفسِّرين وعلماء علوم القرآن الذين تعرَّضوا لقضيةِ النظم بوجه عامٍّ وشامل في تفاسيرهم أو في مؤلَّفات أخرى، ولا يفوتني أن أُنوِّه بأن منهم مَن تعرض لجانب من قضية النظم في مؤلفات مستقلة، وعلى سبيل المثال لا الحصر:
أولًا: (درة التنزيل وغرة التأويل)؛ للخطيب الإسكافي ت (420هـ) في المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وهو عبارة عن الآيات التي تكرَّرت واشتبهت بسبب التقديم والتأخير، أو الزيادة والحذف، أو التعريف والتنكير، أو الإفراد والجمع، أو الإيجاز والإطناب، أو إبدال حرف بآخر، أو كلمة بأخرى، ونحو ذلك مع اتحاد المعنى لغرضٍ بلاغي، أو لمعنى دقيق يُراد تقريره لا يُدرِكه إلا جهابذةُ العلماء وأساطين البيان.
 
ثانيًا: (البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان)، أو (أسرار التكرار في القرآن)؛ لمحمود بن حمزة الكرماني ت (505هـ).

 
ثالثًا: (ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظي من آي التنزيل)؛ لابن الزبير الغرناطي ت (708هـ).
 
رابعًا: (كشف المعاني في المتشابه والمثاني)؛ لابن جماعة ت (733هـ).
 
خامسًا: (فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن)؛ لزكريا الأنصاري ت (926هـ).
 
الخلاصة: مما سبق نستخلص:
أولًا: المفسرون على اختلاف أوطانهم وقَفُوا من قضية النظم موقفَ المستفيد، فطبَّقوها في تفاسيرهم، وخير مَن طبَّقها هو الزمخشري، أو شرحوها في مؤلفاتٍ مستقلَّة؛ كالإمام الرازي في كتابه (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز)، أو هذَّبوها وأصَّلوها وزادوا عليها أمورًا أخرى؛ كالفراهي، والطاهر بن عاشور، فبحقٍّ كانت قضية النظم ميدانًا رَحبًا للمفسِّرين.
 
ثانيًا: قضية النظم كانت وما زالت محلَّ أخذٍ وردٍّ بين المفسِّرين، فهذا يُقرِّر شيئًا، وهذا يستدرك عليه؛ كما فعل أبو حيان مع الزمخشري والرازي، وكذلك أبو السعود، والآلوسي مع الرازي، ومِن بعدهم الطاهرُ بن عاشور.
 
ثالثًا: مِن المفسرين مَن تعرَّض لجوانبَ جزئيةٍ مِن قضية النظم في مؤلفات مستقلَّة كما تقدم.
 
رابعًا: أغلب كتب التفاسيرِ بعد عبدالقاهر قد استفاد من قضية النظم، بل إن بعضهم قبل عبدالقاهر قد أشار إليها؛ كالطبري كما تقدم.



[1] اقتصرتُ في هذا المبحث على أئمة التفسير ذوي الأدوار البارزة الذين توسَّعوا في معالجة قضية النظم في تفاسيرهم، وتركتُ من التفاسير ما كان اختصارًا لما سبقه؛ كالنيسابوري، وابن عادل الحنبلي، أو لم يتطرَّق إلى (فكرة النظم) إلا بلمحات يسيرة.


[2] "تفسير الكشاف" (1/ 96).


[3] "نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز"؛ للرازي ت (606هـ)؛ تحقيق: د.
نصر الله حاجي مفتي أوغلي، نشر: دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى (1424هـ - 2004م)، (ص 25).


[4] أبو المكارم: عبدالواحد بن عبدالكريم بن خلف، العلامة كمال الدين، ابن خطيب (زملكا)، الأنصاري، السماكي، الزَّمْلَكاني، (زَمْلَكان: بفتح الزاء المعجمة، وسكون الميم، وفتح اللام، والكاف، قرية بغُوطَة دِمَشْق)، الفقيه الشافعي، له معرفة تامَّة بالمعاني والبيان والأدب، ومشاركة جيدة في كثيرٍ من العلوم؛ من تصانيفه: "التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن"، "المنهج المفيد في أحكام التوحيد"، "نهاية التأميل في أسرار التنزيل" في التفسير، "شرح المفصَّل للزمخشري" في النحو، وسماه "المفضل على المفصل ودراية المفصل، وله شعرٌ، تُوفِّي بدمشق في المحرم (651هـ)؛ انظر: "تاريخ الإسلام" (14/ 711)، "هدية العارفين" (1/ 635)، "معجم المؤلفين" (6/ 209).


[5] انظر: "دراسات في علوم القرآن الكريم"؛ د.
فهد بن عبدالرحمن بن سليمان الرومي، حقوق الطبع محفوظة للمؤلف، الطبعة الثانية عشرة (1424هـ - 2003م)، (ص 268)، "عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم"؛ لحسن عبدالفتاح أحمد، نشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، (ص 51).


[6] انظر: "التفسير والمفسرون" (1/ 211، 212)، بزيادة وتصرف.


[7] "أنوار التنزيل" خطبة الكتاب (1/ 23).


[8] المرجع السابق (5/ 350، 351).


[9] كشف الظنون (1/ 358)، هدية العارفين (2/ 139).


[10] أول مَن تنبَّه إلى ذلك وطعَن في تلك النِّسبة هو العلَّامة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى ت (1377هـ - 1957م)، فقد كتب في ذلك مقالًا ونشره في مجلة "المنار" المجلد (19) عام (1334هـ - 1916م)، (ص 120) باب (المراسلة والمناظرة).
وكذلك نصَّ د.
بكر بن عبدالله أبو زيد في كتابِه (ابن قيم الجوزية حياته وآثاره)، أنه لم يَرِدْ مَن نسب هذا الكتاب لابن القيم ممَّن ترجم له.
وحقَّق د.
زكريا سعيد علي - أستاذ البلاغة بكلية دار العلوم بالقاهرة - خطأَ نسبةِ الكتاب للإمام ابن القيم من ناحية السند ومن ناحية المتن، واستدلَّ على ذلك بخمسة أمور، وكذلك حقَّق خطأَ الاسم الذي طبع به الكتاب، وأثبت أنه مِن تأليف الإمام ابن النقيب، وذلك موجود في مقدمته للطبعة الجديدة التي طبع بها الكتاب في مطبعة الخانجي، وقد نشر عن ذلك مقالًا بمجلة (معهد المخطوطات العربية) المجلد الخامس والثلاثين.


[11] انظر مقدمة ابن النقيب لتفسيره "التحرير والتحبير" خطبة الكتاب.


[12] خطبة تفسير النسفي.


[13] "البحر المحيط" (1/ 100).


[14] "بدائع الفوائد"؛ لابن قيِّم الجوزية ت (751هـ)، نشر: مكتبة القاهرة بالأزهر، الطبعة الثانية (1392هـ - 1972م)، (1/ 70 - 93).


[15] المرجع السابق (1/ 150 - 158).


[16] المهائمي: نسبة إلى قرية (مهائم) إحدى قرى الهند، بينها وبين (بومباي) ثلاثة أميال؛ انظر: ترجمة المفسر في أول التفسير، وهو علي بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل المهائمي، الدكني، الهندي، الحنفي، أبو الحسن (علاء الدين) المعروف بالمخدوم، ولِد (776هـ - 1374م)، وتُوفِّي عام (835هـ - 1432م)، من (النوائت)، والنَّوائِت قومٌ في بلاد الدكن - قال الطبري: طائفةٌ مِن قريش خرَجوا من المدينة خوفًا من الحجَّاج بن يوسف، فبلغوا ساحل بحر الهند وسكَنوا به - فقيه، متكلم، مفسر، صوفي، مولده ووفاته في مهائم؛ (من بنادر كوكن، وهي ناحية من الدكن بالهند مجاورة للبحر المحيط)؛ انظر: "هدية العارفين" (1/ 730)، "الأعلام" (4/ 257، 256)، "معجم المؤلفين" (7/ 9).


[17] "تبصير الرحمن وتيسير المنان بعض ما يشير إلى إعجاز القرآن"؛ للمهائمي ت (835هـ)، بإجازة الوزير: محمد جمال الدين، وبهامشه "نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن"؛ للسجستاني، نشر: مطبعة بولاق مصر (1/ 3).


[18] انظر: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"؛ للبقاعي ت (885هـ)، نشر: دار الكتاب الإسلامي القاهرة (1/ 2 - 11).


[19] "كشف الظنون" (2/ 1961).


[20] انظر: "قطف الأزهار في كشف الأسرار"؛ للسيوطي ت (911هـ)؛ تحقيق ودراسة: د.
أحمد بن محمد الحمادي، الطبعة الأولى (1414هـ - 1994م)، (1/ 95 - 98).


[21] الآلوسي: نسبة إلى قرية (آلوس)، وهي جزيرة في منتصف نهر الفرات بين الشام وبغداد، كانت موطن أجداده؛ "التفسير والمفسرون" (1/ 250).


[22] انظر: "التفسير والمفسرون" (1/ 253 - 256).


[23] انظر: "النظم القرآني في سورة يوسف عليه السلام" (ص 19).


[24] "التحرير والتنوير" (1/ 7، 8).

شارك الخبر

المرئيات-١