فرقة الخوارج
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
بقلم فريد مصطفى عز الدين
فرقة الخوارج من تلك الفرق الهدامة التي نشأت في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، وكانت حرباً على الدولة الإسلامية، وعقبة كأداء في طريق عزها وازدهارها. أما العوامل التي أدت إلى ظهور الخوارج فكانت في بادئ الأمر سياسية ثم ما لبثت ميولهم أن اتجهت إلى الناحية الدينية فأخذوا يحوكون حولها معتقداتهم ونظرياتهم تسميتهم لا نجد في التاريخ الإسلامي كله فرقة تعددت أسماؤها كهذه الفرقة، غير أن اسم الخوارج قد غلب عليها.
وقد سموا بالخوارج لخروجهم على الإمام علي بن أبي طالب في معركة صفين سنة 37 هجرية لقبوله التحكيم وقولهم: لا حكم إلا لله، لا حكم للرجال.
ويقول بعض المؤرخين إنهم دعوا بالخوارج لخروجهم بعد ظهور نتيجة التحكيم في رمضان سنة 37 هجرية من الكوفة إلى النهروان.
ثم تطور هذا الاسم فأصبح يطلق على كل جماعة خرجت على القانون والسلطة الحاكمة سواء في صدر الإسلام أو زمن التابعين أما الخوارج أنفسهم فيقولون أنهم تسموا بهذا الاسم لخروجهم من بيوتهم طلباً للجهاد والاستشهاد في سبيل إعلاء كلمة الله والدين الحنيف، ويستندون في ذلك على قول الله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفةُ منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم، ولتأت طائفة أخرى لم يصلُّوا فليصلُّوا معك، وليأخذوا حِذرهم وأسلحتهم، وَدّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم مَيلةً واحدة، ولا جُناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعدّ للكافرين عذاباً مُهينا) وهنالك اسم آخر يطلق على هذه الفرقة وهو اسم الشراة، ويقال إن الخوارج يفضلونه على الاسم الغالب عليهم، لأن هذه التسمية تعني أنهم اشتروا الجنة بالدنيا واستبدلوا الباقية بالفانية استناداً على الآية الكريمة: ( )ودعيت هذه الفرقة أيضاً فرقة المحكمة، وذلك لأنها حكمت الله تعالى ورفضت تحكيم العبيد.
ويميز المؤرخون الفرقة الأولى من الخوارج التي انشقت على عليّ بن أبي طالب في صفين عن الخوارج بدعوتها الفرقة المحكمة الأولى أو الحارورية نسبة إلى حاروراء بقرب الكوفة، وهي المكان الذي خرجوا إليه، ويدعون بقية الخوارج فرقة المحكمة نشأتهم من الصعب أن نعين العلاقة بين ظهور الخوارج ومسألة التحكيم، فنقول إن هذه نتيجة لتلك وإنه لولا مسألة التحكيم لما اعترى جيش الإمام علي ذلك الانقسام ولما نشأت فرقة الخوارج؛ وقد عني البعض ببحث هذه النقطة فتبين لهم بعد دراسة عميقة أن نشوء الخوارج ومسألة التحكيم مستقلتان عن بعضهما استقلالاً تاماً.
ويعتقد المستشرقون لامانس وكايتاني وولهاوسن أن فرقة الخوارج ظهرت قبل التحكيم مما يدل على صحة الرأي القائل باستقلال المسألتين بعضهما عن بعض.
ولكن المستشرق ديلافيدا يخالف رأي لامانس ورفيقه، ويقول إن الخوارج ظهروا بعد التحكيم معركة صفين تولى علي بن أبي طالب الخلافة والعالم الإسلامي في غليان شديد من جراء مقتل الخليفة عثمان بن عفان وعواقب هذه الجريمة، فلم تكن مبايعته بالإجماع كأسلافه.
وكان عدوه الأكبر معاوية بن أبي سفيان والي الشام الذي خرج طالباً للثأر من قاتلي قريبه الخليفة المغدور.
فلما انتهى علي من أمر طلحة ابن عبد الله والزبير بن العوام في موقعة الجمل بالقرب من البصرة سار طالباً معاوية فالتقى الجيشان في سهل صفين وهو مكان قريب من بلدة الرقة في شمالي شرق الشام وفي أول صفر من سنة 37 هجرية، ابتدأ القتال بين الفريقين فرجحت كفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فخاف معاوية العاقبة، وعمد إلى الحيلة يساعده على إتقانها الداهية الأكبر عمرو أبن العاص.
وبينما كانت الحرب مستمرة إذا بجنود الشام يرفعون المصاحف فجأة على أسنة الرماح طلباً للتحكيم.
فلم يؤخذ علي بهذه الحيلة، وقرر الاستمرار في القتال إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
ولكن فريقاً كبيراً من جند علي قبل التحكيم وحمل زعيمه على قبوله رغماً عنه.
وبعد أن رضي الإمام بالتحكيم قام فريق آخر من جنده يندد بالتحكيم، ويصيح: لا حكم إلا لله، لا حكم للرجال، ويظهر أنه كان بين هذا الفريق بعض من أتباع الفريق الأول.
فانقسم بذلك جيش علي إلى شطرين، ونجحت الحيلة التي قال فيها عمرو (إن قبل خصومنا التحكيم اختلفوا، وإن ردوه افترقوا) ولما ظهرت نتيجة التحكيم التي تقضي بخلع علي عن الخلافة - ولا أقول معاوية، لأن إقرار عمرو بن العاص بخلع صاحبه لم يؤثر في مركز معاوية لأن خلعه كان وهمياً، إذ إن معاوية لم يكن خليفة ليخلع عن عرشها - رفض علي قبولها، وهكذا أضعفت نتيجة التحكيم مركز علي وقوت مركز معاوية فقويت برفض علي لنتيجة التحكيم حجة الفريق القائل بعدم قبول التحكيم منذ بادئ الأمر، واكتسب إلى صفه جميع الموتورين من سياسة الإمام.
وهكذا نرى أن فريق الخوارج كان مؤلفاً من جماعات متفككة العرى تجمعها مناوأة سياسة علي، إما لأنه لم يقبل التحكيم أولاً أو لأنه قبل التحكيم ثانياً، أو لأنه رفض قبول نتيجة ثالثاً.
والقسم الأكبر من الخوارج هم الذين أخذوا على علي قبوله صارخين: لا حكم إلا لله.
ثم انظم إلى هذه الفرق المختلفة كل من كان ناقماً على السلطة أو خارجاً على القانون، حتى أصبح معسكر الخوارج ملجأ لهؤلاء، أيام الراشدين والأمويين والعباسيين وبعد انشقاقهم على جيش الخليفة ساروا إلى حاروراء وانتخبوا عبد الله بن وهب الراسبي خليفة عليهم.
وقد اضطر علي أن يحمل عليهم قبل أن يسير لقتال معاوية ليأمن شرهم، فقاتلهم في معركة عظيمة تدعى معركة النهراوان في 8 يوليو سنة 658 ميلادية، وتغلب عليهم، غير انه دفع ثمن هذا النصر غالياً، لأن هذه المعركة أضعفت جيشه فأصبح عاجزاً عن المسير إلى سورية لحرب معاوية، وبقي بالكوفة إلى أن قتله ابن ملجم الخارجي سنة 661 الخوارج في عهد الدولة الأموية اشتدت في عهد الدولة الأموية قوة الخوارج، وكانوا من العوامل الرئيسية التي طاحت بحكم الأمويين، فما من خليفة أموي إلا ثاروا عليه، غير أنهم ظهروا واشتهروا خصوصاً في زمن الخليفة عبد الملك بن مروان، وكانت ميادين القتال العراق وخراسان.
وقد بدأ بقتال الخوارج مصعب بن الزبير - شقيق عبد الله بن الزبير منافس عبد الملك بن مروان في الخلافة - وكان قائده المهلب بن أبي صفرة.
ولما تغلبت قوات عبد الملك على الزبيريين وقتل مصعب كان لا يزال المهلب يحارب الخوارج فبايع عبد الملك بالخلافة حالما بلغه نعي مصعب وتابع قتاله ثم أرسل عبد الملك في سنة 75 هجرية الحجاج بن يوسف الثقفي والياً على العراق فتمكن بشدة بأسه من خضد شوكة الخوارج.
وقد امتازت فرقة الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق من فرق الخوارج ببسالتها وشدتها واستماتتها في ميادين القتال والنزال الخوارج في عهد الدولة العباسية ضعف أمر الخوارج في عهد الدولة العباسية ولم تعد فرقهم خطراً على الدولة الإسلامية كما كانت نشأتها في العصر الأموي، غير أنهم لم يعدموا أوقاتاً قاموا فيها ببعض الثورات والفتن.
وقد اشتهرت من بين فرقهم في هذا العهد فرقة ألاباضية أتباع عبد الله بن أباض التي ظهرت في عمان وعلى الخليج الفارسي وفي أفريقيا الشمالية أي تونس الخضراء والجزائر والمغرب الأقصى ولما غلب الخوارج على أمرهم في الناحية السياسية أخذوا ينصرفون إلى الناحية الدينية ويحوكون حولها نظرياتهم ومعتقداتهم الدينية تصلب الخوارج وشدتهم في المعتقدات الدينية عرفت فرق الخوارج واشتهرت بتصلبها الديني الشديد وتمسكها بالمعتقدات الدينية التي تدين بها، ولذا كانت كل جماعة منهم ترى أن زعيمها بدأ ينحرف عن المبادئ التي تعترف بها انشقت عنه وعن أفراد فرقتها وكونت لها فرقة خاصة، وهذا هو السبب في تعدد فرق الخوارج وتشعبها.
ومن الفرق الفرقة ألاباضية والفرقة الصفارية والأزاردة والعجاردة والنجدات وغيرها.
وكانت كل فرقة تنقسم إلى فرق صغيرة عديدة، وقد ذكر الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) ثماني فرق من الأزارقة.
ولا ريب أن انقسام الخوارج إلى فرق متعددة كان عاملا قويا في إضعاف شأنهم وزوال هيبتهم معتقدات الخوارج السياسية قلنا في صدر هذا المقال إن حركة الخوارج بدأت حركة سياسية ثم تحولت بمضي الوقت إلى حركة دينية.
ولذا فان معتقداتهم تدور على وجهين سياسي وديني.
فأما معتقداتهم السياسية فتدور حول مسألة الخلافة، ولهم في هذه المسألة مواقف أساسية يخالفون بها السنة والشيعة.
فهم مثلا لا يقيدون جنسية الخليفة ولا يمانعون في أن يكون حتى زنجياً، بينما أن السنيين لا يجيزون سوى انتخاب قرشي للخلافة.
أما الشيعة فيذهبون إلى أبعد من ذلك ولا يعترفون إلا بالخليفة الذي هو من آل البيت ولا يرى الخوارج أن من الضروري وجود خليفة على رأس الأمة إذا انتظمت أمور الرعية، بينما أن الشيعيين يقولون بوجوب بقاء الإمام في كل عصر ودهر.
أما السنيون فليس عندهم إجماع عام على هذه المسائل وليس الخليفة معصوماً عن الخطأ كما هو الحال عند الشيعة، فهم يجوزون القيام عليه حتى قتله إذا بدا منه اعوجاج أو عدل عن الصراط المستقيم الذي يتحتم على الخلفاء أن يتبعوه.
وهم لا يعترفون من الخلفاء الراشدين إلا بالشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا يعترفون بالخلفاء الأمويين والعباسيين وأصحاب موقعة الجمل أي طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام معتقدات الخوارج الدينية أشرت آنفاً إلى التصلب الديني الشديد الذي اشتهر به الخوارج، فهم يطلبون من المؤمن أن يقرن إيمانه بالعمل الحسن إذا أراد الثواب، لأن الإيمان وحده غير كاف لدخول جنة الفردوس.
ويكفر الخوارج صاحب الكبيرة، فهم بذلك على عكس فرقة المرجئة التي ترجئ تكفير المؤمن إلى يوم القيامة.
ويذهب الأزارقة - ومذهبهم أشد مذاهب الخوارج تصلباً - إلى أن مخالفيهم مشركون، ودرجة الإشراك عندهم أشد وأدهى من درجة الكفر، فهم يستبيحون قتل مخالفيهم مع نسائهم وأولادهم ومن الغريب أن هذه الفرقة المتعصبة لمذهبها، الصلبة في معتقداتها، القاسية على إخوانها من المسلمين متسامحة مع اليهود والنصارى وغيرهم من الذميين.
والبعض من الأزارقة يعتبر غير المسلم مؤمناً إذا أعترف برسالة رسول الله ﷺ إلى العالمين. ويظهر تسامحهم نحو غير العرب في أنهم يجيزون خلافة كل مسلم سواء أكان حبشياً أم عبداً زنجياً ويتردد بعض الخوارج في قبول سورة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم لاعتقادهم أنها سورة غرامية، فلا يمكن أن يحويها كتاب الله.
والبعض الآخر يتردد في قبول سورة أبي لهب أما في الفقه فهم لا يعترفون من أصوله الأربعة إلا بالقرآن الكريم والسنة الشريفة وإجماعهم فقط لإجماع الأمة الإسلامية.
أما القياس فلا يعترفون به ولا يقبلونه ركناً رابعاً للشريعة الإسلامية السمحاء التي سنها الله جل جلاله للمسلمين نبراساً ومعواناً.
أما التفسير فهم لا يقيدون أنفسهم به ولا يؤولون ويظهر تصلبهم الديني بوضوح في فروض الصلاة، إذا لا يكفي في نظرهم أن يكون الجسم عند الصلاة طاهراً، بل يجب أن يكون الفكر كذلك، لاعتقادهم أن الفكر السيئ يبطل الصلاة كما أن الحسم الملوث يبطلها.
ونظراً لتصلبهم الشديد في معتقداتهم السياسية والدينية دعاهم بعض المؤرخين الغربيين فلسفة الخوارج وأدبهم ويمثل الخوارج في إحدى فرقهم حركة فكرية لا يستهان بها جعلت المستشرق الكبير ديلافيدا يجزم بأنه يجب أن يكون من جراء ذلك علاقة وثيقة بين المعتزلة والخوارج.
وتنحصر أهميتهم من الناحية الفلسفية في أثارتهم مسألة الإيمان والعمل وكان مجرد تطرف معتقداتهم يجذب إليهم أحياناً البعض من العلماء والأدباء والشعراء الذين تستهويهم المبادئ المتطرفة وقد حفظت لنا كتب الأدب العربي كثيراً من أدبهم وشعرهم وحكمهم وخصوصاً آثار شاعرهم العظيم وخطيبهم المفوه قطري بن الفجاءة الخوارج اليوم لم يبق من فرق الخوارج إلى اليوم إلا فرقة الأباضية، وهي من الفرق المعتدلة، وقد نشأت في الأماكن الإسلامية النائية، في عمان ثم في شرقي أفريقيا الشرقية، ثم في أفريقيا الشمالية.
وتكون هذه الفرقة الآن دولة مستقلة في داخلية سلطنة عمان على الخليج الفارسي. فريد مصطفى عز الدين