كتاب أحكام الميت [1]


الحلقة مفرغة

عن البراء بن عازب قال: ( خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار, فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة, وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فجعل ينظر إلى السماء وينظر إلى الأرض, وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً، فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر, مرتين أو ثلاثاً ).

يعني: أمر بالاستعاذة مرتين أو ثلاثاً.

( فقال: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر, قالها ثلاثاً، ثم قال: إن العبد إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه ).

اسم ملك الموت في الكتاب والسنة: ملك الموت، أما تسميته بعزرائيل فمما لا أصل له, خلافاً لما هو مشهور عند الناس, من أن اسمه عزرائيل، ولعله من الإسرائيليات.

قال: ( ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة ), وفي رواية: ( المطمئنة ).

( اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها ).

وفي رواية: ( حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض, وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم، فإذا أخذها -الملك- لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط, فذلك قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ[الأنعام:61], ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟! فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ[المطففين:19-21], فيكتب كتابه في عليين, ثم يقال: وأعيدوه إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيرد إلى الأرض وتعاد روحه في جسده، فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه مدبرين، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: ربي الله, فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقته وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن.

وذلك قوله عز وجل: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[إبراهيم:27]، فيقول: ربي الله, وديني الإسلام ونبيي محمد، فينادي مناد من السماء أن قد صدق عبدي، فألبسوه من الجنة وأفرشوه منها، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه ) وفي رواية: ( ويمثل له رجل حسن الصورة حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك, أبشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم, هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت بشرك الله بالخير من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح, فوالله ما علمتك إلا كنت مسارعاً في طاعة الله بطيئاً في معصيته فجزاك الله خيراً, ثم يفتح له باب من الجنة وباب من النار فيقول: هذا منزلك لو عصيت الله, أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجل قيام الساعة, كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال: اسكن ).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإن العبد الكافر ), وفي رواية: ( الفاجر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزلت إليه ملائكة من السماء غلاظ شداد سود الوجوه، معهم المسوح ), المراد بالمسوح: ما يلبس من نسج الشعر على البدن تقشفاً, ( معهم المسوح من النار، فيجلسون منه مد البصر, ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود ), يعني: كثير الشعب أي: كثير الشوك.

( من الصوف المبلول، فتتقطع معها العروق والعصب، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس أهل باب إلا وهم يدعون ألا يعرج بروحه من قبلهم, فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ).

يعني: الكفن الذي من الشعر.

( ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُفَتَّحُ لَهمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ[الأعراف:40], فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، ثم يقول: أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى, فتطرح روحه من السماء طرحاً حتى تقع في جسده، ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج:31]، فتعاد روحه في جسده، فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه، ويقولان له: من ربك؟ فيقول: ها ها -وهذه كملة تقال عند التوجع- لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ها ها لا أدري، فيقولان له: وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي إلى اسمه، فيقال: محمد، فيقول: ها ها لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك، فيقال له: لا دريت ولا تلوت، فينادي منادٍ من السماء: أن قد كذب فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه ), وفي رواية: ( ويمثل له رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، يقول: أبشر بسوء، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت فبشرك الله بالشر من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله سريعاً إلى معصية الله فجزاك الله شراً, ثم يقيض له ملك أعمى أصم أبكم في يده مرزبة، لو ضرب بها جبل كان تراباً، فيضربه ضربة فيصير تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربةً أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار ويمهد له فراش من النار فيقول: ربي لا تقم الساعة ) وهذا الحديث أخرجه أبو داود و الحاكم و الطيالسي و النسائي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي , وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين.

سبحانك اللهم وبحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت, نستغفرك اللهم ونتوب إليك.