كتاب الصلاة [8]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً. وبعد:

قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الرابعة: سترة المصلي: واتفق العلماء بأجمعهم على استحباب السترة بين المصلي والقبلة إذا صلى، منفرداً كان أو إماماً ].

يعني اتفقوا على أنها مستحبة، ولم يقل أحد منهم بأنها واجبة.

[ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل، فليصل ) ]، أخرجه مسلم . [ واختلفوا في الخط، إذا لم يجد سترة، فقال الجمهور: ليس عليه أن يخط. وقال أحمد بن حنبل : يخط خطاً بين يديه ]. وهذا هو الراجح عند الشافعية .

سبب اختلاف العلماء في حكم السترة

[ وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح الأثر الوارد في الخط، والأثر رواه أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يكن، فلينصب عصاً، فإن لم تكن معه عصاً فليخط خطاً، ولا يضره من مر بين يديه ) خرجه أبو داود ]. ولكن الحديث ضعيف.

[ وكان أحمد بن حنبل يصححه، و الشافعي لا يصححه، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى لغير سترة ]، وهو حديث ضعيف.

[ والحديث الثابت: ( أنه كان يخرج له العنزة ) ]. أخرجه البخاري و مسلم .

[ فهذه جملة قواعد هذا الباب، وهي أربع مسائل ].

وبما أن حديث الخط ضعيف، فلا يثبت به حكم؛ إذ من شرط ثبوت الحكم الشرعي صحة دليله. وبمناسبة الحديث عن السترة فإن صاحب البداية نقل الإجماع على أنها مستحبة. وقد طلب مني الشيخ عبد المجيد الزنداني أن أكتب بحثاً بسيطاً في السترة، فكتبت في ذلك بحثاً بسيطاً ليس بكبير، وسنقرأ منه فيما يأتي.

الأدلة على مشروعية السترة

أما الأحاديث الواردة في السترة:

عن سهل بن أبي حثمة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها )، أخرجه أبو داود ، وهو حديث صحيح.

وفي رواية للحاكم : ( إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها )، وهي رواية صحيحة كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1386).

وعند الأربعة إلا الترمذي : عن أبي سعيد ورفعه: ( إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن جاء أحد يمر فليقاتله؛ فإنه شيطان )، وهو حديث صحيح.

وعن ابن عمر قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد يأمر بالحربة فتوضع بين يديه، فيصلي إليها، والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر )، متفق عليه.

وعن سهل بن سعد قال: ( كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر شاة )، متفق عليه.

وفي حديث بلال : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وصلى وبينه وبين الجدار نحواً من ثلاثة أذرع )، رواه أحمد و النسائي ، وقال الشوكاني : رجاله رجال الصحيح.

وفي معناه للبخاري من حديث ابن عمر ، وعن عائشة قالت: ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سترة المصلي، فقال: مثل مؤخرة الرحل )، أخرجه مسلم .

حكم السترة في الصلاة

حكم السترة:

اتفق الأئمة الأربعة على القول باستحبابها. ونقل الاتفاق ابن رشد في البداية (1/278)، ونقل النووي في المجموع (3/228) عن أبي حامد الإجماع على أنها مستحبة.

وقال ابن حزم : إن الدنو من السترة واجب، فمن تركه بطلت صلاته، أما السترة فليست بواجبة، ونص كلامه في المحلى (4/186): فإن بعد عن سترته عامداً أكثر من ثلاثة أذرع، وهو ينوي أنها سترته بطلت صلاته، فإن لم ينو أنها سترة له فصلاته تامة.

فهو يوافق الأئمة الأربعة في عدم وجوب السترة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة ولا من التابعين القول بوجوبها. والذي قال بوجوبها هو الإمام الشوكاني ، وتبعه شيخنا ناصر الدين الألباني في كتابه صفة الصلاة (ص82)، وفي كتابه تمام المنة (ص305)، ونقل القول بوجوبها، يعني في تمام المنة، عن الشوكاني في النيل (3/2). وفي السيل (1/176). ثم قال الألباني في تمام المنة: وظاهر كلام ابن حزم في المحلى (4/ 8-15) القول بوجوبها.

وما نقلته عن ابن حزم سابقاً يخالف ما استظهره الشيخ الألباني من كلامه، وقد اطلعت على كلامه هذا، فما فهمت منه إلا القول بقطع الصلاة بمرور الثلاثة: الكلب، والمرأة، والحمار. وما فهمت كيف القول بالوجوب، يعني كان كلامه يدور حول قطع الصلاة، وليس وجوب السترة، فشيخنا الألباني رحمه الله من حيث إن ابن حزم قال: إن الصلاة تقطع بمرور الكلب أو المرأة أو الحمار استظهر من كلامه هذا أن السترة واجبة بوجوب الدنو، وهو لا يقول بوجوب السترة.

وقال الشيخ سلمان العودة في شرحه على بلوغ المرام ما حاصله: إنه اتفق الأئمة الأربعة على استحباب السترة، ولم ينقل عن أحد القول بوجوبها لا من الصحابة، ولا من التابعين، ولا غيرهم، إلا قول ضعيف عن أحمد ، ضعف ابن رجب نسبته إلى أحمد في كتابه فتح الباري شرح البخاري .

ثم نقل سلمان العودة عن الألباني في كتابه صفة الصلاة وتمام المنة القول بوجوبها، وقال: إنه خالف بذلك الأئمة الأربعة، وقال: والذي أرجحه أن السترة مستحبة وليست بواجبة، والإنسان عليه أن يحرص أن يكون مع الجماهير خاصة إجماع الأئمة الأربعة.

وقال: ولم ينقل عن أحد من السلف في ذلك شيء يمكن الاعتماد عليه من القول بوجوبها، بل إن أول من نصر القول بوجوبها وشهره هو الشوكاني ، ثم تبعه الألباني وبعض الشباب المعاصرين. والذي أراه والله أعلم أن الشيخ الألباني قال في هذه المسألة بقول الراجح خلافه، وقوله: (الشباب المعاصرون)، يشير إلى ما جعله بعض الشباب المعاصرين أن السترة من الولاء والبراء، مع أن المسائل الخلافية لا يجب الإنكار فيها على المخالف، ولكن رفعوها إلى أن جعلوها من باب الولاء والبراء.

قلت: أما ما استدل به الأئمة الأربعة أن السترة مستحبة، فما رواه البخاري عن ابن عباس ، قال: ( أقبلت راكباً على حمار أتان، وأنا قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي الصف، وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت الصف، فلم ينكر ذلك علي ). قال الحافظ في الفتح (1/206)، قوله: ( إلى غير جدار ) أي: إلى غير سترة، قاله الشافعي ، وسياق الكلام يدل على ذلك؛ لأن ابن عباس أورده في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة، ويؤيده رواية البزار بلفظ: ( والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة وليس شيء يستره ).

قلت: وقد قال العلماء: إن من شأن السنة أن تترك أحياناً، فتركه صلى الله عليه وسلم لها يصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، لا سيما وقد كان ذلك الترك منه صلى الله عليه وسلم في أخريات حياته؛ فإنه يدل على أن هذا الترك كان بعد الأمر بالسترة، فلا يصح أن يقال فيه: إن الترك كان في حال البراءة الأصلية، وأن الأمر كان ناقلاً له من البراءة الأصلية إلى الوجوب؛ لأن هذا لا يصح هنا لتحقق تأخر الترك عن الأمر.

مكان وزمان استحباب السترة

أما متى تستحب السترة، وفي أي موضع تستحب، فقال مالك و أبو حنيفة : إنها عند خشية مرور أحد، فلا تستحب مطلقاً، إنما تستحب إذا خشي أن يمر بين يديه أحد، أما إذا أمن فلا تستحب.

وقالت الهادوية: في الصحراء تستحب لا في البناء.

وقال الشافعي و أحمد : تستحب مطلقاً في كل مكان، ومن غير قيد، والأدلة تؤيد قول الإمام أحمد و الشافعي .

ففي البخاري و مسلم من حديث سهل بن سعد : ( كان بين مصلاه صلى الله عليه وسلم والجدار ممر شاة )، قال الحافظ في الفتح ( 1/684): المراد بـ (مصلاه) مسجده، وبـ (الجدار) جدار مسجده صلى الله عليه وسلم مما يلي القبلة.

وفي حديث بلال في صلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة: ( أنه كان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع )، رواه النسائي ، وقال الشوكاني : رجاله رجال الصحيح، وبمعناه عند البخاري ، عن ابن عمر .

وفيما يأتي من الأحاديث يُستدل على أنها تسن في البيوت.

ما تحصل به السترة

أما بم تحصل السترة؟ يعني بأي شيء تحصل؟ تحصل بالخط أو بشيء مرتفع؟ فالجواب أنها تحصل بكل شيء مرتفع نحو ثلثي ذراع تجاه المصلي، والذي ورد في شأن السترة عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى إلى الجدار كما سبق، وإلى الشجرة كما رواه النسائي من حديث علي ، وحسنه الحافظ في الفتح، (1/680).

وإلى الاسطوانة والسواري كما أخرجه البخاري من حديث يزيد بن حبيب و أنس ، وإلى الراحلة والرحل، أخرجه البخاري ، عن ابن عمر ، وإلى الحربة، أخرجه البخاري و مسلم ، عن ابن عمر ، وإلى السرير، أخرجه البخاري ، عن عائشة . وفي الاستتار بالخط خلاف مبني على صحة الحديث أو ضعفه، والراجح ضعفه.

وقال الإمام البغوي و الغزالي الشافعيان: أنها تحصل ببسط المصلى، واستدلا لذلك بما رواه البخاري ، عن أنس من صلاته صلى الله عليه وسلم على الحصير، وبما رواه البخاري أيضاً من حديث عائشة من صلاته صلى الله عليه وسلم على الفراش الذي ينامان عليه.

قلت: وفي دلالتهما على ما قالا شيء من البعد؛ إذ لا يظهر من فعله صلى الله عليه وسلم أنه قصد بأنهما سترة له، وعندنا المتبادر: أنه صلى عليها كما يصلي على الأرض، وحديث عائشة عند مسلم : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سترة المصلي، فقال: مثل مؤخرة الرحل ) يرد ما قالا؛ لأنه قال: ( مثل مؤخرة ). يعني لا بد من شيء مرتفع، ليس منبسطاً.

المشي في الصلاة طلباً للسترة

ومن البدع العصرية بدعة المشي في الصلاة طلباً للسترة، والمشي في الصلاة ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يبدأ الصلاة من غير سترة، فهذا ورد في البخاري تعليقاً عن عمر : أنه أخذ ذلك الرجل وأدناه إلى السترة.

والقسم الثاني: أن يبدأ الصلاة إلى السترة، ثم تنقطع به السترة، مثل من يصلي مأموماً فسترة الإمام له سترة، ثم بعد ذلك تنقطع القدوة فلا يلزمه طلب السترة، وهل مثل هذه الحالة ستقع في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم؟ نعم ستقع؛ لأن كثيراً من الصحابة يدركون مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة وتفوتهم ركعة أو أكثر ثم يقومون لأدائها فتنقطع عنهم السترة، أو في وقت الخلفاء ولكنه لم ينقل إلينا أنهم طلبوا السترة بعد انتهاء القدوة، لم ينقل ذلك في حديث معلق، ولا ضعيف، ولا صحيح.

من قواعد الترجيح في مسألة المشي إلى السترة

أولاً: من القواعد الأصولية: يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.

فمثلاً لو ابتدأ رجل الصلاة بغير سترة فهذا قصر في المستحب أو الواجب عن عمد منه فلا يغتفر له هذا التقصير، أما إذا صلى إلى سترة كما لو كان مأموماً وانقطعت القدوة بانتهاء الإمام، فهذا دوام، وليس ابتداءً، ويغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء فيغتفر له الصلاة إلى غير سترة.

ثانياً: أنه لم ينقل إلينا أن الصحابة طلبوا السترة وهم في الصلاة بعد انتهاء القدوة وزوال السترة عنهم، ولو كان موجوداً لنقل. فهذه من بدع أهل العصر، فإذا كانت بدعة فقد جاء في الحديث: ( ما وجدت بدعة إلا تركت في شأنها سنة )، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اسكنوا في الصلاة )، فالسكون في الصلاة سنة.

فما ظهر اليوم من بعض الناس من مشي المصلي بعد انتهاء قدوته مع الإمام طلباً للسترة فهذا لم يقل به أحد فيما أعلم، ولم يقل أحد فيما نعلم باستحباب المشي إلى السترة، ولا بوجوبها، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنهم فعلوا ذلك في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بعده في زمن الخلفاء، ولو فعل لنقل كما نقل إلينا طلبهم وقصدهم السواري للاستتار بها في ابتداء الصلاة النافلة، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وفي القواعد الأصولية: يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، فالسترة مطلوبة عند ابتلاء الصلاة، أما بعد انقضاء القدوة فهي غير مطلوبة؛ للقاعدة المذكورة، وعموم الحديث الذي رواه مسلم : ( اسكنوا في الصلاة )، فهذا الحديث يقتضي أن القدوة غير مطلوبة، ويرد هذا العمل في الصلاة، وقد بوب المحدثون والفقهاء للعمل في الصلاة، وذكروا العمل في الصلاة، ولم يذكر أحد منهم مشروعية المشي في الصلاة طلباً للسترة بعد انقضاء القدوة، فلذا نرجح أن مثل هذا العمل من بدع العصر، وأنه قد يكون مبطلاً للصلاة إذا كثر عرفاً. لأن الحركة الكثيرة عرفاً مبطلة للصلاة، وقد قيدها بعض العلماء بحيث من نظر إليه يعده أنه ليس في صلاة، وقيدها الشافعية بثلاث خطوات متواليات، قالوا: العرف أن ما بلغ ثلاث خطوات متواليات يعد كثيراً، ويبطل الصلاة، فإذا مشى أكثر من ثلاث خطوات عند الشافعية فصلاته باطلة، وإذا مشى مشياً يظن من يدخل المسجد ويراه أنه ليس في صلاة، فإن هذا يكون مبطلاً للصلاة.

فحد العمل المبطل للصلاة عند الشافعية بثلاث خطوات متواليات ولو كانت لمصلحة الصلاة، كتأخر المأموم للواصل، أو تقدم الإمام، قالوا: لا بد أن تمشي خطوتين فقط، فهو بفعله هذا يطلب أمراً مستحباً بزعمهم، فلا يقع في محظور عند أكثر العلماء.

وقد قال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: إن الشيطان يشم قلب العبد، فإن عرف فيه تمسكاً أكثر دعاه إلى الزيادة في أمر الدين، وإن عرف فيه تساهلاً دعاه إلى النقص، فهو يريد منه أن يخرج عن الجادة إما بزيادة أو نقص، والابتداع في الدين أكثر ما يكون من الزيادة في الدين، مما لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.